أوكرانيا وروسيا.. “قصة الأمس”!

عندما ضمّت روسيا جزيرة القرم سنة 2014، لم يتوانَ المعارضان البارزان لفلاديمير بوتين أليكس نافالني وبوريس نيمتسوف (الليبراليان اللذان حظيا بدعم الغرب) عن تأييد "روسيّة" القرم من دون الإشادة ببوتين. بل إنّهما هتفا مع متظاهرين أطلقوا على أنفسهم "السلاف الأنقياء"(عرقياً): "القرم لنا". القصة أكبر من بوتين وأعقد من زيلنسكي. إنّها تاريخٌ قديمٌ يعتقد باستقلاله الأخلاقي والثقافي والحضاري والخلاصي عن الغرب.

دأب الأدباء الروس لا سيما دوستويفسكي على ذمّ أهل سان بيترسبورغ بحجة أنّهم أشخاصٌ لا يعتزّون بـ”روسيّتهم” كثيراً، ويقرأون لهيغل وكانط وباسكال، ويبالغون في تقييم الحضارة الغربيّة على حساب الذبّ عن ميراث الشرق الأوروبي وتأثيرهِ على الحضارة الإنسانيّة برمتها. ولأنّ هنالك حساسيّة غير معلنة في الحاضر والماضي لدى الروس من كل ما يمكن أن يُعتبر اتّهاماً بالتنازل، تجد في ملحمة نيقولاي غوغول الخالدة الأنفس الميتة (1842)، بطلهُ تشيشيكوف يقول: “عندما تقول إنّ كل الروس أذكياء وجيدون إلّا أحمق واحداً، فإنّ كل شخصٍ في روسيا يقول لك: إنّك تقصدني، أنا ذلك الأحمق المقصود أليس كذلك؟”.
ليس ثمّة ما يربط واقعاً بواقعٍ على سبيل التطابق، ما خلا ما يطفو على السطح من مواقف وعواطف، لكن للتاريخ علامات تساعد على الفهم من خارج معطيات الراهن المتغيّر.

تاريخ حاضر
ما بين 1989 و1990، بدأت موجة كبيرة من الاحتجاجات في أوروبا الوسطى المعروفة بـ ثورات أوروبا وخريف الدول: افتتحت بولندا هذه الاحتجاجات قبل أن تمتدّ شرارتها تالياً إلى المجر وألمانيا الشرقيّة وبلغاريا وتشيكوسلوفاكيا ورومانيا. استعاد التعبير السياسي وقتها المسمّى الغاندي الشهير المقاومة السلبيّة (Satyagraha) أو ما يُطلق عليه حالياً بـ المقاومة المدنيّة أو العصيان المدني. كانت هذه الاحتجاجات العارمة رافضةً لحكم الحزب الواحد، غير عنفيّة لناحية الخطة والمنهج باستثناء الحالة الرومانيّة، لكن سُرعان ما غطّت عليها المظاهرات الألمانيّة التي أفضت إلى سقوط جدار برلين سنة 1990، وكانت من الأسباب المباشرة لسقوط الاتحاد السوفياتي سنة 1991. وتمّ استيلاد 14 دولة على إثر هذا الاحتجاج الشرق أوروبي، لمعَ من هذه الدول الغضّة دولتان، كان لهما تأثير خاصّ ومرجعي على مسرح الأحداث السياسيّة: روسيا الاتحاديّة بوصفها وريثة مباشرة للاتحاد السوفياتي المنهار وحاملة التركة الثقيلة من الزعامة المنقضيّة والذاكرة الإمبراطوريّة القريبة، وأوكرانيا ذات النزعة المتمردة من استعادة المجد التليد على عاتق اللحظة الجديدة وعلى حساب طموحها في الاستقلال الوطني.
كانت أوكرانيا مكوّنة من 24 أوبلاست (محافظة/ ولاية)، تتّمتع اثنتان منها بقيمة خاصة، كييف العاصمة، وسيفاستوبول التي تضمّ أسطول البحر الأسود الروسي وفقاً لاتفاق الإيجار التمويلي بين البلدين.

لم تحرّر الشوفينيّة الوطنيّة أوكرانيا من العصر الذهبي لروس كييف مع عهد فلاديمير الكبير (980-1015)، الذي حوّل الروس تجاه المسيحيّة البيزنطيّة في عهد ابنه، ياروسلاف الحكيم (1019-1054)، حيث بلغت كييف ذروة مجدها العسكري إبّان حكمه (متنازع على رفاته بين موسكو وكييف ـ الصورة أدناه للضريح). أعقب ذلك تفكّك الدولة بسبب صعود القوى الإقليميّة الجديدة. نهضت البلاد مرةً أخرى في ظل حكم فلاديمير مونوماخ (1113-1125) وابنه مستيسلاف (1125-1132)، لكنّها سرعان ما تفكّكت في نهاية المطاف إلى إمارات مستقلة في أعقاب وفاة مستيسلاف.

في القرنين الحادي والثاني عشر، تسبّبت الغارات المستمرة من جانب قبائل الرحّل التركية، مثل البيتشنغ والكيبشاك، بهجرة جماعيّة للسكان السلاف إلى مناطق أكثر أمناً في الغابات الشمالية الكثيفة. كما دمّر الغزو المغولي البلاد في القرن الثالث عشر. دُمرت كييف تماماً عام 1240. قسّم روس كييف الأراضي الأوكرانيّة إلى إمارتيّ غاليش وفولوديمير فولنسكي، اندمجتا معاً في مملكة اسمها غاليسيا فولينيا.
لم يتوانَ اليمين الوطني في أوكرانيا في كل تاريخه عن العيش على أمجاد أسرة روريك الفارانجيّة (السلاف الشرقيين) مذكرين في طرحهم بعظمة الأمير أوليغ النبوي (845-912م).
وبالعودة إلى العصر الذي استدعى في الأوكرانيين أمجاداً خلا رسمهم، أيّ في فترة الانعتاق من الاتحاد السوفياتي، بدا أنّ بولندا التي انتظمَ احتجاجها في قيادة وبرنامج، قياساً بحالة التظاهر العشوائي في جمهوريّات الاتحاد السوفياتي (باستثناء الحالة الألمانيّة التي كان لها هدف واضح)، قد أسست لمسمّى الحياد الشرقي برغم اصطفائها لغرب أوروبا. قد يعود ذلك إلى تاريخ بولندا القديم في النضال السياسي، إذ تمّ ابتكار تشكيل حكومة ظلّ بولنديّة في المنفى في أعقاب الهجوم المزدوج الذي شنّته عليها القوّات الألمانيّة والسوفياتيّة في أيلول/ سبتمبر 1939، ثم قيام التنظيم النضالي الشعبي لمقاومة الاحتلال الألماني والسوفيتي، وقد تأدّى عنهما إنهاء الجمهوريّة البولندية الثانية، ثمّ بعد ذلك؛ ميراث الحركة الديمقراطيّة التي بدأت بالصعود في بداية الثمانينيات إلى أن تمكّنت عام 1989 من تشكيل أوّل حكومة بدون رئيس شيوعي، وصولاً إلى انتخابها للرئيس الرأسمالي ليش فاليسا (الحائز على جائزة نوبل للسلام سنة 1983) في 1990.

ميلاد عسير
بلغت الاحتجاجات أوجّها في أوكرانيا في كانون الثاني/ يناير 1990، حيث كوّن 400 ألف أوكراني درعاً بشرياً مارثونياً بلغ طولهُ 60 كلم²، بدأ من إيفانو-فرانكيفسك الغربيّة وانتهى إلى العاصمة كييف شمال وسط البلاد، حمل المعتصمون فيه العلم الأوكراني (الأصفر والأحمر) المحظور إظهارهُ في قوانين الاتحاد السوفياتي.
وبعد أن تمّ حلّ المجلس التشريعي السوفياتي في أعقاب إصدار مجلس السوفيات الأعلى للاتحاد السوفياتي الإعلان رقم (H-142) والذي نصّ على الاعتراف باستقلال الجمهوريّات السوفياتيّة السابقة، صوّت البرلمان الأوكراني (مجلس الرادا) على إعلان الاستقلال، مع توجيه دعوة رسميّة للجيش الأوكراني المنتشر في الأصقاع السوفياتيّة إلى العودة إلى أوكرانيا، أعقبهُ التصويت الرسمي على غلق مفاعل تشرنوبل شماليّ أوكرانيا.
بعد عامٍ من تلك القرارات التاريخيّة، تمّ صدور الاعلان الثاني عن الاستقلال بُعيد محاولة انقلاب فاشلة جرت في موسكو، حين حاول شيوعيّون محافظون معارضون لإصلاح الاتحاد السوفياتي في آب/ أغسطس 1991 بقيادة غينادي ياناييف القيام بانقلاب على الرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشوف الذي كان يُمضي إجازته بشبه جزيرة القرم، لكن محاولتهم الانقلابيّة تمّ إفشالها بفضل المقاومة التي قادها رئيس جمهورية روسيا الاتحاديّة المُهادن للغرب بوريس يلتسين. حسمَ إفشال هذا الانقلاب نهاية الاتحاد السوفياتي وأعلن البداية الفعليّة لظهور رئيس روسي في وسعه مغازلة الغرب دون محاذير شيوعيّة.

أُعتمد يوم 25 آب/ أغسطس 1991 عيداً وطنياً وأُطلق عليه اسم اليوم الرسمي للاستقلال في أوكرانيا، وحين انهار الاتحاد السوفياتي بشكلٍ رسمي في 26 كانون الأول/ ديسمبر 1991، اكتسب هذا الاستقلال شكلهُ التام.
في سنة 1992، بدأت أوكرانيا في إقامة علاقات عرفيّة غير رسميّة مع الحلف الأطلسي، وبدأ الاهتمام الأميركي بها، بحيث ترسّخ لدى الأميركيين امكانية الاعتماد عليها، من خلال اتّخاذها ترساً شرقياً للحدّ من عودة روسيا إلى هيمنتها التقليديّة على شرق أوروبا، أو في أقل الحالات طموحاً، تحويل أوكرانيا إلى فرامل لروسيا. وبحسب الأنثروبولوجي الفرنسي إيمانويل تود الذي كان “الوحيد” في عالم الأفكار من رأى بحتمية انهيار الاتحاد السوفياتي سنة 1976، في كتابه الشهير المترجم إلى لغاتٍ شتّى من بينها العربيّة:
“Après L’Empire: essai sur la décomposition du système américain”، فإنّ توسيع الحلف نحو شرق أوروبا لن يكون إلا عبّر الانفتاح التام على أوكرانيا، بغية مدّ النفوذ الأميركي في القوقاز وآسيا الوسطى.

أميركا وأوكرانيا
في ذلك العام (1992)، بدأ الاهتمام الأميركي بأوكرانيا باعتبارها الخاصرة الوحيدة المتاحة للوصول إلى روسيا حصراً لنفوذها، ومن أجل ذلك توجّب دعمها حتى تصبح قويّة، وفي نفس الوقت يمكن توفير الدعم المشروط للرئيس الروسي الجديد بوريس يلتسين ما دامَ على سجيّة الغرب وفق ما سمّاه يفغيني بريجينسكي بـ الشراكة، لا سيما بعد ترحيب الرئيس الأميركي بيل كلينتون بالدستور الديمقراطي في روسيا ما بعد الاتحاد السوفياتي. وقد عبّر بريجينكسي عن كلّ ما سبق صراحةً في مقال شهيرٍ لهُ نشره في سنة 1994 في مجلة Foreign Affairs وهي مجلة مدفوعة.(يمكن لقرّاء 180بوست أن يطلعوا عليه مجاناً من خلال الرابط المباشر الذي أعددتهُ لهم: هنا).
في سنة 1992 بدأ الحلف الأطلسي في تنظيم خطة مدروسة ومَعلميّة من أجل ضمّ دول أوروبا الشرقيّة والوسطى، فشرعت أوكرانيا في إقامة علاقات من نوعٍ خاصٍ مع الناتو من دون أن تحيط تلك العلاقة بهالةٍ من السريّة، قد يكون ذلك من أجل توضيب العالم وتحضيره لانضمام أوكرانيا للحلف وإشعار الجارة الكبرى (روسيا) بأنّ خيار الانضمام أقرب مما قد تظنّ! ولأجل تأكيد التخمين الأوروبي السالف استنتاجهُ، التقى الأمين العام للحلف الأطلسي مانفريد وورنر والرئيس الأوكراني ليونيد كرفتشوك في مقرّ الحلف في بروكسل في سنة 1992. كان الألماني مانفريد وورنر الذي شغل منصب وزير الدفاع في ألمانيا الغربيّة من 1982 إلى 1988 قبل أن يصبح أميناً عاماً للناتو من 1988 إلى 1994، يستعمل التقيّةً في قوله “إنّ الناتو لن يتوسّع شرقاً”.
والحال أنّ أوكرانيا لم تحافظ على سلاحها كبادرة حسن نية، إذ أنّها ورثت ثالث أكبر ترسانة نوويّة في العالم، لكنّها ومع التوقيع على مذكرة بودابست للضمانات الأمنية في 24 كانون الأول/ ديسمبر 1994 في مدينة بودابست والتي كان أطرافها إلى جانبها بوصفها المعنية الأولى: روسيا والولايات المتحدة وبريطانيا. سلّمت أوكرانيا سلاحها مقابل الحصول على ضمانات أمنية باستقلالها من روسيا برعاية الدول آنفة الذكر. والملاحظ أنّ ثمة بندين تعرّضا للاختراق من قبل روسيا في الأحداث الجاريّة حالياً (2022): الأول، حماية أوكرانيا من أيّ عدوان خارجي، الثاني، عدم التلويح أو استعمال السلاح النووي ضدها.
في العام نفسه، بدأ الرئيس الأوكراني (الرأسمالي) ليونيد كوتشما بتنفيذ إصلاحات اقتصاديّة شملت تطوير القطاع الخاص. كان معدّل الرواتب لا يتجاوز 50 دولاراً منذ الاستقلال.. كما أنّه وقّع إلى جانب بيلاروسيا وكازاخستان وروسيا، معاهدة لإنشاء فضاء اقتصادي موحّد في عام 2003، لكنّه تعثّر حين قامت الثورة البرتقاليّة في أوكرانيا.

سقوط كوتشما

لقد كان كوتشما يحاول أن يجمع بين الطرفين؛ يفتح الجسور مع أوروبا الغربيّة والولايات المتحدة، وفي الوقت تفسه، يحفظُ عهداً لروسيا، غير أنّه انخرط في قضايا فساد وحامت حوله شكوكٌ تفيد بتورّطه في اغتيال صحافي شاب معارض اسمه جورجي غونغادزة (31 سنة) كان يديرُ موقعاً إخبارياً على شبكة الإنترنت ينتقد فيه كوتشما. اختفى غونغادزة (الصورة أعلاه) عن الأنظار في العاصمة كييف في أيلول/ سبتمبر ثم عُثر على جثته في تشرين الثاني/ نوفمبر1999. الواقعة التي ألّبت على كوتشما قطاعاً واسعاً من الشعب الأوكراني.
لم تكد تمرّ سنتان على المظاهرات التي طالبت بتنحي الرئيس كوتشما حتى جرت انتخابات رئاسيّة (هي الرابعة منذ الاستقلال) أثارت الكثير من الجدل، حيث تصدّر فيكتور يانوكوفيتش (رئيس وزراء سابق لمرتين في عهد ليونيد كوتشما) المدعوم من روسيا في مواجهة زعيم المعارضة واسع الشعبيّة فيكتور يوشينكو، ثم سرعان ما اعتلّت صحة هذا الأخير بشكل مريب، تأكّد لاحقاً تعرّضه للتسميم بواسطة مادة الدوكسين. فاز يانوكوفيتش برئاسيّات 2004 في أوكرانيا، ثبتَ لدى الكثيرين بأنّها كانت زائفة وبأنّه جرى فيها “تحيّز إعلامي كبير وتلاعب بأصوات الناخبين والعمل على ترهيبهم انتهت إلى نتائج مزوّرة“. طعن يوشينكو وأنصاره في نتائج الانتخابات (جولة الاعادة) وساندهم في ذلك مراقبون دوليون.

 الثورة البرتقالية (2004-2005)
هي واحدة ممّن اُطلق عليهنّ اسم الثورات الملونة. وقد اندلعت عبر سلسلة من الاحتجاجات والأحداث السياسيّة التي وقعت في أوكرانيا من أواخر تشرين الثاني/ نوفمبر 2004 حتى كانون الثاني/ يناير 2005، بُعيد جولة إعادة التصويت على الانتخابات الرئاسيّة الأوكرانيّة 2004 والتي قيل بأنّه شابها تزوير وتلاعب استُخدمَ فيهما المال الفاسد. وكانت العاصمة الأوكرانية كييف، هي النقطة المركزيّة لتحرّكات آلاف المحتجين يومياً. وقد اندلعت في أوكرانيا على خلفية الصراع على السلطة مما أدّى إلى بلوغ العملية السياسيّة ما يشبه الانسداد التام، بسبب التجاذبات بين طرفين، الأول؛ رئيس الجمهوريّة فيكتور يوشينكو وحليفته زعيمة كتلة المعارضة البرلمانية (الأقلية) يوليا تيموشينكو. الثاني؛ رئيس الوزراء فيكتور يانوكوفيتش وحلفاءه زعماء كتلة الأغلبية البرلمانية.

انطلقت الاحتجاجات إثر تقاريرٍ من عدّة مراقبين محليين وأجانب للانتخابات وكذلك إثر تصوّرٍ شعبي بأنّ نتائج الاقتراع التفضيلي في 21 تشرين الثاني/ نوفمبر 2004 بين المرشحين الأساسيين فيكتور يوشينكو وفيكتور يانوكوفيتش كانت قد زوِّرت من قبل السلطات لمصلحة الأخير. نجحت الاحتجاجات التي عمّت البلاد حينما ألغي الاقتراع الأصلي، وحكمت المحكمة العليا بإعادة التصويت في 26 كانون الأول/ ديسمبر، تحت مراقبة مشدّدة من قبل مراقبين محليين ودوليين، أُعلِن أن التصويت الثاني سيكون “نزيهاً وحراً”. أظهرت النتائج النهائية نصراً واضحاً ليوشينكو، الذي حصل على ما يقارب 52% من الأصوات، مقابل 44% حصل عليها يانوكوفيتش. أعلِن يوشينكو فائزاً رسمياً وانتهت الثورة البرتقاليّة مع تنصيبه رئيساً في 23 كانون الثاني/ يناير2005 في كييف.

في عام 2008 سعى يوشينكو رفقة يوليا تيموشينكو إلى تكثيف مساعيهما من أجل ضمّ أوكرانيا إلى الحلف الأطلسي، فتقدّما بطلبٍ رسمي في نفس السنة مشفوعاً بخطة عمل من أجل تيسير مجريات الانضمام. دعم جورج بوش الابن وكان في عامه الأخير من رئاسة الولايات المتحدة هذا المطلب، في حين عارضت فرنسا وألمانيا، حفاظاً على شعرة معاويّة مع الروس. انزعجت روسيا من الطلب الأوكراني، وانتهى الامر إلى رفضه في نيسان/ إبريل 2008، وقد جاء في ديباجة الرفض: “يوماً ما سيتمّ انضمام أوكرانيا إلى الحلف الأطلسي”!.
لم تهضم روسيا الإهانة التي تلقتها من الأوكرانيين، ففي فجر السنة المواليّة من شهر كانون الثاني/ يناير 2009، توقفت شركة “غازبروم” التابعة للحكومة الروسيّة عن ضخّ الغاز إلى أوكرانيا بعد مفاوضات مضنية حول الأسعار انتهت إلى لا شيء، ففضلاً عن أنّ أوكرانيا تتلقّى حصتها من الغاز الروسي، تُعتبر أيضاً دولة ممرّ إلى أوروبا الغربيّة ممّا فاقمَ من أثر الأزمة، انتهى في الأخير إلى اتفاقٍ بين تيموشينكو (رئيسة الوزراء) وبوتين نص على استعادة أوكرانيا لحصتها من الغاز الروسي. ضمنت أوروبا عدم المساس بقسطها بعد هذا الاتفاق، مع فهمها للرسالة التي أبرق بها الرئيس الروسي من وراء الغاز للزعماء الأوروبيين. اكتسبت الثورة البرتقاليّة بعد ذلك سمعة سلبيّة في الدوائر المواليّة للحكومة في بيلاروسيا وروسيا، كما أنّ حماسة الغرب إزاءها قد تماثل إلى نوعٍ من البرود المؤقت.

عودة يانوكوفيتش.. الحياد والانتقام

الرسالة التي كان الغاز سطرها الأول، لم تكن موجّهةً للرئيس الأوكراني وقائدة الثورة البرتقاليّة يوليا تيموشينكو وأوروبا (المستلِم البعيد) فحسب، وإنّما إلى الشعب الأوكراني أيضاً، وقد تلقّى الرسالة وأقرّ بمضمونها لاحقاً، ففي الانتخابات الرئاسيّة لعام 2010، أصبح يانوكوفيتش المقرّب من روسيا رئيساً لأوكرانيا خلفاً ليوشينكو بعدما أعلنت اللجنة المركزيّة الأوكرانيّة للانتخاباتِ ومراقبين دوليين أنّ الانتخابات الرئاسيّة جرت بنزاهة. أعلن الرئيس الجديد كلمته: “أوكرانيا دولة محايدة”.. ومسافتها من أوروبا وروسيا واحدة!
لم يمرّ عامٌ واحدٌ على انتخاب يانوكوفيتش حتى شرع الادّعاء العام الأوكراني (2011) في ملاحقة يوليا تيموشينكو، حيث وجّه الادّعاء العام تهماً جنائيّة تتعلّق بقضايا فساد وسوء استعمالٍ للسلطة في مفاوضات الغاز الروسي سنة 2009، أدينت يوليا على إثرها بسبعِ سنوات سجناً، فهمَ الغرب من خلالها ملامح المرحلة المقبلة في الداخل الاوكراني.
في الفترة الفاصلة بين تشرين الثاني/ نوفمبر 2013 حتى شباط/ فبراير 2014 بدأ يانوكوفيتش بالتراجع عن توقيع افتتاحي لاتفاقيّة تفاهم مبدئيّ مع الاتحاد الأوروبي (شراكة سياسية واتفاقية تجارة حرّة مع الاتحاد الأوروبي في اجتماع للشراكة الشرقيّة في فيلنيوس عاصمة ليتوانيا)، متحدّثاً في تلك الغضون عن نوعٍ من الضغوط الروسيّة مورست عليه لدفعه للتراجع، في حين نفت روسيا ذلك نفياً قاطعاً.
أثارت هذه التصاريح موجة من الاحتجاجات العارمة، تطوّر الأمر كثيراً حتى اكتسبَ زخماً ثوريّاً، سًميت تبعاً لذلك بـ الثورة البرتقالية (الميدان). طالبَ المحتجون فيها باستقالة يانوكوفيتش.

ثورة “الميدان”

طوّر المحتجّون وسائلهم في المواجهة الثوريّة مع السلطة، فاقتحموا وزارة العدل ومبنى بلديّة كييف واحتلوا بعض المباني الحكوميّة واختاروا ميداناً عاماً يسمّى الميدان حتى يكون بمثابة غرفة عمليات، من خلالها يتوجّهون إلى نقاط بعيّنها. قمعت السلطة المحتجين في محاولة منها للقضاء على الثورة، وبلغ العنف الرسمي أوجّه في نهاية شباط/ فبراير 2014، فسقطَ 130 قتيلاً من المحتجين و18 ضابط شرطة في صفوف الأمن الحكومي في ظرف أسبوعٍ واحدٍ فقط، اُعتبر هذا الأسبوع الأكثر دمويّة في تاريخ الاحتجاج الأوكراني منذ الاستقلال. وقبل انعقاد البرلمان في جلسة استثنائيّة فرّ يانوكوفيتش إلى روسيا في 22 شباط/ فبراير، وصوّت البرلمان على قرار العزل، وتمّ انشاء حكومة انتقاليّة واُطلق سراح تيموشينكو.
قال يانوكوفيتش: “هذا التصويت ليس شرعيًا ومن الممكن أن يكون بالإكراه”، وطلب المساعدة من الاتحاد الروسي. من جهتها، اعتبرت روسيا أنّ الإطاحة بيانوكوفيتش عبارة عن انقلاب غير شرعي، ولم تعترف تبعاً لذلك بالحكومة المؤقتة. بالمقابل، قامت مظاهرات حاشدة ضد ثورة الميدان موالية لروسيا في المناطق الشرقيّة والجنوبيّة في أوكرانيا، إذ تلقى يانوكوفيتش هناك دعمًا قويًا في الانتخابات الرئاسيّة في سنة 2010. تصاعدت هذه التظاهرات ووصلت إلى مطالب بإجراء استفتاء حول شبه جزيرة القرم عام 2014، وبضرورة التدخل العسكري الروسي، وتأسيس دولٍ مستقلة بحكم الأمر الواقع في دونيتسك ولوغانسك.

إقرأ على موقع 180  مثلث الصين ـ السعودية ـ إيران.. تقاطع المصالح

أقدمت الحكومة المؤقتة بقيادة أرسيني ياتسينيوك، على توقيع اتفاقيّة الشراكة مع الاتحاد الأوروبي. أصبح بترو بوروشينكو رئيسًا لأوكرانيا بعد نصر ساحق في الانتخابات الرئاسيّة المبكرة غير المقرّرة لعام 2014. أعادت الحكومة الجديدة تعديلات الدستور الأوكراني في عام 2004 التي أُلغيت بشكل مثير للجدل واعتُبرت غير دستوريّة عام 2010، وبدأت عملية تطهير واسعة النطاق للموظفين المدنيين الذين كان لهم علاقة بالنظام السابق. أُلغي القانون المتعلق باللغات الإقليمية، ذلك الذي سمح للمناطق الأوكرانيّة التي تحوي أقليات ثقافيّة كثيرة باستخدام لغاتهم الخاصة في إداراتهم المحلية.

وَجد استطلاعٌ، رُصد في شهر كانون الأول/ ديسمبر عام 2016 من قِبل معهد كييف العالمي لعلم الاجتماع، أنّ 34% من المستَطلعين في أوكرانيا الواقعة تحت سيطرة الحكومة، اعتبروا التغيير في السلطة بأنه “انقلاب مسلح غير شرعي”، بينما اعتبر 56% منهم بأنّ ما حدث “ثورة شعبيّة”.
قرّرت الحكومة المؤقتة توجيه تهم قتل جماعي للرئيس المخلوع يانوكوفيتش، وأصدر القضاء بحقه مذكرة اعتقال.

ضمّ القرم 2014
بعد أيام من فرار الرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش من العاصمة كييف في أواخر شباط/ فبراير 2014، بدأ رجال مسلحون معارضون لحركة الميدان الأوروبي في السيطرة على شبه جزيرة القرم. أُنشئت نقاط التفتيش من قبل جنود روس مجهولين يرتدون زياً عسكرياً أخضر اللون مع مُعدّات من اللون الأخضر في عاصمة جمهوريّة القرم ذاتية الحكم، سيمفروبول، ومدينة سيفاستوبول التي تُدار بشكل مستقل، وهي موطن لقاعدة بحريّة روسيّة بموجب ميثاق خاركيف عام 2010. أشار السكان المحليون ووسائل الإعلام إلى هؤلاء الرجال على أنّهم “رجال خضر صغار السن”.

بعد احتلال برلمان القرم من قبل هذه القوّات المجهولة، والتي يُعتقد بأنّها قوّات خاصة روسيّة، أعلنت قيادة القرم عن اجراء استفتاء على الانفصال عن أوكرانيا (97% لمصلحة الانضمام إلى روسيا). أعقب هذا الاستفتاء المثير للجدل إلى حدّ كبير، ضمّ الاتحاد الروسي لشبه جزيرة القرم في منتصف آذار/ مارس. رفضت أوكرانيا ومعظم المجتمع الدولي الاعتراف بالاستفتاء أو الضمّ. في 15 نيسان/ أبريل أعلن البرلمان الأوكراني أنّ شبه جزيرة القرم هي أرض محتلة مؤقتاً من قبل روسيا.
في 18 آذار/ مارس تمّ ضمّ القرم لروسيا بشكل رسمي، قرّرت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي فرض عقوبات على روسيا.

أوجاع الدونباس
أبدى بعض سكان إقليم الدونباس الأصليين امتعاضهم من الحكومة الأوكرانيّة المؤقتة، فعملت روسيا على تنمية ذلك الشعور بالرفض وقامت باستغلاله لصالحها بدهاءٍ كبير.
في أولى بدايات شهر آذار/ مارس من نفس السنة (2014)، وفي أعقاب احتجاجات نظمتها مجموعات انفصاليّة مناوئة للحكومة ومدعومة من روسيا في أوبلاست دونيتسك ولوغانسك اللّائي أطلق عليهنّ مجتمعات اسم منطقة دونباس، وذلك في أعقاب الثورة الأوكرانيّة وحركة الميدان الأوروبي في عام 2014.

وصلت الاحتجاجات حدّها الأقصى بين القوات الانفصاليّة التابعة لجمهوريتيّ دونيتسك ولوغانسك الشعبيتين والحكومة الأوكرانيّة، فقد قاد مواطنون روس الحركة الانفصاليّة في دونيتسك خلال الفترة ما بين شهري نيسان/أبريل وآب/أغسطس من عام 2014، مدعومين بمتطوّعين وعتاد من روسيا الاتحاديّة.

بالمقابل، شنّت أوكرانيا هجوماً عسكرياً مضاداً ضد القوات المواليّة لروسيا في شهر نيسان/ أبريل 2014 تحت اسم العملية المضادة للإرهاب (أيه تي أو) خلال الفترة الممتدة من عام 2014 حتى عام 2018، استطاعت هذه العملية تقليص المساحة الواقعة تحت السيطرة الروسيّة حتى كادت أن تتمكن من استعادتها بالكامل في مطالع شهر آب/ أغسطس 2014، وهذا ما يبرّر عنف الروس في المواجهات الحاليّة (2022) ضد أوكرانيا، فهم يعلمون جيداً أنّ الأوكرانيين مقاتلون شرسون.
شرعت روسيا في غزوٍ لإقليم الدونباس من دون أيّ تكتيكات غير مباشرة كما فعلت حتى استعادتها بالكامل، بحجة الدفاع عن مواطنين ناطقين باللغة الروسيّة!

تمّ التوقيع على اتفاق لوقف إطلاق النار اتفاق يسمى مينسك1 في 5 أيلول/ سبتمبر عام 2014، شابته خروق لاحقة. وفي أثناء عملية ترسيخ الخط الفاصل ما بين المناطق الواقعة تحت سيطرة الحكومة وتلك الواقعة تحت سيطرة المتمرّدين خلال وقف إطلاق النار، استطاعت القوّات الحكوميّة من بسط سيطرتها على مساحات شاسعة من الأراضي على الجانب الواقع تحت سيطرة المتمرّدين، مما أدّى إلى زعزعة كبيرة في استقرار المنطقة.
انهار وقف إطلاق النار برمته في شهر كانون الثاني/ يناير من عام 2015، وذلك بعد تجدّد الاشتباكات العنيفة في مختلف أنحاء منطقة الصراع ومن ضمنها مطار دونيتسك الدولي وديبالتسيفي. توصلت الأطراف المعنية إلى اتفاق جديد لوقف إطلاق النار تحت مسمى اتفاق مينسك2 في 12شباط/ فبراير عام 2015. فلم تلبث القوّات الانفصاليّة حتى شنّت هجومًا على ديبالتسيفي فور التوقيع على الاتفاق مُجبرةً القوّات الأوكرانيّة على الانسحاب من المدينة. استمرّ وقوع مناوشات بسيطة على طول الخط الواصل بين الطرفين خلال الأشهر التي تلتْ سقوط ديبالتسيفي دون وقوع أيّ تغيّر يُذكر على مناطق السيطرة. أدّت حالة الجمود إلى وصف الحرب بـ الصراع المُجمَّد، وبرغم ذلك، ظلّ الإقليم منطقة حرب قَتل فيها عشرات الجنود والمدنيين بعضهم البعض في كل شهر.
بحلول أواخر عام 2017، سجّلت بعثة المراقبة التابعة لـ منظمة الأمن والتعاون في أوروبا نحو ثلاثين ألفاً كانوا يرتدون لباساً عسكرياً عبروا الحدود من روسيا إلى دونباس عند نقطتي التفتيش الحدوديتين المسموح لها بمراقبتهما. كذلك وثّقت المنظمة نفسها عدّة حالات عبور لقوافل عسكريّة من الاتحاد الروسي إلى المناطق المحتلة سالكةً طرقاً ترابيّة بعيداً عن المعابر الحدوديّة الرسميّة، وعادةً ما يحصل ذلك خلال ساعات الليل.

بلغ عدد اتفاقات وقف إطلاق النار منذ نشوب الصراع 29 اتفاقاً، وهدف كل منها إلى البقاء قيد التنفيذ إلى أجل غير مسمى، ولكن لم يستطع أياً منها إيقاف حالة العنف. كانت أنجح محاولة لوضع حدّ للاقتتال في عام 2016 حين استطاع اتفاق هامشي لوقف إطلاق النار الصمود لمدة ستة أسابيع متتاليّة. دخل آخر اتفاق لوقف إطلاق النار (التاسع والعشرون) حيز التنفيذ بتاريخ 27 تموز/ يوليو عام 2020. أفضى هذا الاتفاق إلى عدم تسجيل أي خسائر في صفوف القوّات الأوكرانيّة لأكثر من شهر. تراجعت خسائر القوّات الأوكرانيّة خلال الفترة من 27 تموز/ يوليو عام 2020 حتى 7 تشرين الثاني/ نوفمبر 2020 إلى عشرة أضعاف ما كانت عليه بحسب ما ذكرته السلطات الأوكرانيّة (قضى ثلاثة جنود أوكرانيين)، في حين تراجع عدد الهجمات إلى 5.5 ضعف ما كان عليه سابقاً. اتفقت كل من أوكرانيا وروسيا ودي بّي آر وإل بّي آر ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا على خارطة طريق من أجل إنهاء الصراع في 1 تشرين الأول/ أكتوبر 2019. ومع ذلك لم يشهد الصراع تحلحلاً منذ حينها، وظلت العديد من المسائل عالقة على عدّة أصعدة بحلول أواخر صيف عام 2020.
شهد الربع الأول من عام 2021 تزايدًا كبيرًا في الخسائر التي مُنيت بها القوّات الأوكرانيّة (25 شخصاً بالمقارنة مع 50 شخصاً خلال عام 2020)، فضلاً عن حشد روسي لقوّة عسكريّة ضخمة على الحدود بين دونباس وروسيا في الفترة من أواخر آذار/ مارس حتى مطلع نيسان/ أبريل 2021، وبدايةً من أواخر تشرين الأول/ أكتوبر وتشرين الثاني/ نوفمبر عام 2021 حتى قيام الحرب في شباط/ فبراير 2022.

بيترو بوروشينكو رئيساً جديداً

في أيّار/ مايو 2014 تمّ انتخاب بوروشينكو الاصلاحي الذي كان يركز على ضرورة تقليص الاعتماد الطاقوي على روسيا، ولطالما كان من الداعمين للحركة المواليّة للاتحاد الأوروبي برغم عدم انتمائه لأيّ حزب سياسي. ويُعرف الرئيس الجديد بـ ملك الشوكولاطة، لامتلاكه أكبر مصانع الحلويّات في أوكرانيا، واسمها روشين. وكان من أهم الداعمين للثورة البرتقاليّة عام 2004. وعمل كوزير للخارجيّة في فترة رئاسة يوليا تيموشينكو لمجلس الوزراء. وعمل بوروشينكو كوزير للتجارة لفترة قصيرة في عهد الرئيس فيكتور يانوكوفيتش. وبرغم محاولات الرئيس الجديد احتواء العنف في الدونباس ولكن المشكلة كانت أكبر مما كان يتصوّر كما أسلفنا التفصيل فيها أعلاه، فعمل على خفض التصعيد كأخفّ الحلول وأكثرها قرباً، لكن الاتفاق كان هشّاً وقابلاً للاختراق، وقد حدث بالفعل كما سبق وقلنا.
عمد ملك الشوكولاطة إلى إحياء اتفاق مينسك وفق شروطٍ جديدة في محاولة موفّقة لفهم السياسة بمنطق بسمارك “التعامل مع ما هو ممكن بما هو متاح”، لكن لا قِبل لبوروشينكو بالسيطرة على أطرافٍ تتعامل مع بعضها بمنطق الانتقام واستذكار الماضي، ففشل مسعاهُ فشلاً ذريعاً، وزاد عدّاد الموت منذ اتفاق مينسك2 منذ العام 2014 إلى 14 ألف قتيل في دونباس ونزوح مليون انسان، فزادت رغبة الأوكرانيين بضرورة الانضمام للحف الأطلسي، وعزّز في هذا الشعور وفاقمَ في طلبه؛ استمرار وتيرة الاشتباكات في الاقليم.
دخلت روسيا إذ ذاك في حروب سيبرانيّة مع كييف، فقد استهدفت شبكة للطاقة، ما أدّى إلى انقطاع الكهرباء عن العاصمة كييف سنة 2016، وتمّت الاغارة على البنية التحتية ومنظومة الصرف في البنوك الأوكرانيّة في العام الموالي.

زيلينسكي رئيساً.. أوّل الحرب
تعهّد المرشح للانتخابات الرئاسيّة فولوديمير زيلينسكي القادم من عالم الشوّ والكوميديا وبرامج التسالي بإنهاء حالة العداء مع روسيا، ووضع حدّ للحرب الطاحنة في اقليم الدونباس. أوّقفَ الرئيس الأميركي دونالد ترمب الدعمَ عن أوكرانيا وحجب المساعدات العسكريّة عنها ودفع باتّجاه الضغط عليها من أجل التفاوض مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. كان ذلك مؤشراً قوياً اعتمد عليه الديمقراطيون في توجيه اللوم للجمهوريين، وبذلك ساهمت أوكرانيا في صناعة حالة جدل حتى في أميركا، خاصة في ما عُرف بـ أوكرانيا غيت.
كان الديمقراطيون يخشون من تكرار السيناريو الذي حصل بعد فشل عزل الرئيس كلينتون سنة 1998 في ما عُرف بـ قضية المتدرّبة مونيكا لوينسكي، حيث خسر الجمهوريون الكونغرس لصالح الديمقراطيين (حزب الرئيس)، وهم الذين عوّلوا كثيراً على استخدام الفضيحة للقضاء على حظوظهم في الانتخابات، وخارت قوى رئيس مجلس النوّاب السابق نيوت جينجريتش في الايقاع بالرئيس بيل كلينتون، وانتهى الأمر إلى أمرٍ لم يُقدّر كما يجب.
في الحالة الاوكرانيّة/ الروسيّة كان أحد الرئيسين يريد أن يلعب دور تاراس بولبا (رواية لغوغول)، على أن لا يتحمّل الأكلاف وحده، فما هي إلا ردهتين من غرفة الزمن السياسي، حتى بدأت المواجهة بين البلدين تتخذ أبعاداً أكثر وضوحاً من دون الحاجة إلى البحث عن الأرنب في قبعة الساحر؛ فقد حشدت روسيا الاتحاديّة في نيسان/ إبريل (2021) زهاء 100 ألف جندي على الحدود مع اوكرانيا من جهة بيلاروسيا بحجة التدريب العسكري الروتيني. شعر زيلينسكي بخوفٍ مفاجئ فقامَ بدعوة قادة الناتو من أجل وضع خطٍ زمني دقيق لانضمام أوكرانيا إلى الحلف الأطلسي. تلقّى بوتين الرسالة فقامَ بسحب قوّاته مع الابقاء على النذر اليسير منهم.
في آب/ أغسطس (2021)، التقى زيلينسكي بالرئيس الأميركي جو بايدن في البيت الأبيض، وخلال اللقاء تعهّد بايدن بحماية أوكرانيا من أيّ اعتداء، لكنّه سرعان ما ذرّ الرمال في صندوقة التروس الأوكرانيّة حين قال معقّباً على تعهده: “لكنّ أوكرانيا لم تلبِّ بعض شروط الانضمام إلى الحلف”!
في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، كثّفت روسيا من وجودها العسكري على الحدود مع أوكرانيا. التقطت الولايات المتحدة الإشارة، فعمدت إلى اخطار الحلف الأطلسي بخطورة الوضع بين البلدين، وصرّح – تأكيداً لذلك – وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن بالقول: “لا ندري ما الذي يخطط له بوتين. بلا شك فالأمر مريب”!
بدا أنّ مروحة الخيارات ضيّقة أمام الحلفاء في مواجهة التلويح بخيار واحدٍ بالنسبة للرئيس الروسي. ولأجل بيان الغبش الذي يلفّ هذه المروحة، دفع بوتين حلفاء أوكرانيا إلى زاوية حادّة حين قدّم لائحة مطالبه الأمنيّة في عناصر محدّدة على النحو التالي:
أولاً؛ منع انضمام أوكرانيا إلى الحلف الأطلسي منعاً تاماً، لأنّها بمثابة “نقطة انطلاق”.
ثانياً؛ سحب قوّات الحلف من الدول التي انضمت إليه بعد سنة 1997 مثل دول البلقان ورومانيا.. (برغم أنّ روسيا وقعت عامذاك مع الناتو ما يُعرف بـ الوثيقة التأسيسية بخصوص العلاقات المتبادلة والتعاون والأمن، لم يكن بوتين راضياً على الحكم في تلك السنوات. وفي عام 1999، أيّ قبل انتخاب بوتين بعام، شنّ حلف الناتو حملة قصف جوي على صربيا أثناء حرب كوسوفو. صربيا كانت حليفة لروسيا بوتين ما زال يستشهد حتى في سياق الأزمة الحاليّة بعملية الناتو تلك كدليل على عدوانه، قال بوتين “إذا انضمّت أوكرانيا إلى الناتو، فسيكون ذلك بمثابة تهديد مباشر لأمن روسيا”).
ثالثاً؛ ضرورة تلقي ردّ كتابي من الولايات المتحدة والحلف الاطلسي بشأن هذه المطالب.

2022.. سنة غير سعيدة
ما إنْ بدأ العام 2022 وانزاحت مظاهر الاحتفال بالسنة الجديدة، حتى تمّ عقد لقاءات مكثّفة بين الروس والأميركيين والأوروبيين، ففي أولى أيام كانون الثاني/ يناير (2022) صرّح نائب وزير الخارجيّة الروسي سيرجي ريابكوف بالجزم بأنّه “لا نية لنا في غزو أوكرانيا”. كان هذا التصريح بمثابة التطمين العلني لكل العالم لا سيما للولايات المتحدة وأوروبا. وكان واضحاً جداً التشاوف الروسي على الأوكرانيين، وتوجيه الرسائل التي تقع أوكرانيا فيها مقام المتن والهامش إلى الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربيّة. لكن الولايات المتحدة لم تنِ برهة عن الإيعاز لكل أُسر موظفيها في السفارة الأميركيّة في أوكرانيا وتحثّهم على المغادرة على الفور. وفي 23 كانون الثاني/ يناير، كان الناتو في حالة تأهّبٍ واستعداد، لم تمرّ بعدهُ إلا ثلاثة أيامٍ حتى صرّح بالتالي: “يتعذّر منع أوكرانيا من الانضمام إلى الحلف الأطلسي مع ضرورة الاستعداد الدائم للتباحث في مسائل التسلّح”.
في شباط / فبراير المنصرم، كانت الجهود الدبلوماسيّة على أشدّها من أجل احتواء الأزمة ومنع قيام الحرب، فالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون التقى بوتين في موسكو من دون التوصّل إلى أيّ إتفاق عدا حديث الاعلام عن الطاولة الطويلة لا غير. في تلك الأثناء، أمَر الرئيس الأميركي جو بايدن بنقل ألف جندي أميركي من ألمانيا إلى رومانيا (المعنية الثانية بضرورة إخلائها من قوّات الحلف في طلبات بوتين المُشار إليها أعلاه)، كما أمر بحشد ألفيّ جندي إضافي في بولندا وألمانيا، لم تكن أوكرانيا راضية على هذا العدد الزهيد قياساً بثقل التهديد وقوّة الجيش الروسي، وقد حدث، إذ قامت روسيا بتدريبات عسكريّة مع قوّات بيلاروسيّة، تمّ خلالها تسخين الجبهة العليا لأوكرانيا بـ 100 ألف جندي، ردّ عليه بايدن، بتوجيه إنذار أخير، أفشل معنويات أوكرانيا وربما قضى عليها: “على أُسر وموظفيّ السفارة الأميركيّة في أوكرانيا مغادرتها على الفور”.
ثمّ بدأت الحرب..

Print Friendly, PDF & Email
ضيف حمزة ضيف

كاتب وصحافي جزائري

Download WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
free online course
إقرأ على موقع 180  هآرتس: مع إدارة بايدن، ضاقت هوامش نتنياهو