لعلّ فعلُ التعرية، هو من أفضل، إن لم يكن أفضل إنجازات الحراك الشعبي على الإطلاق، بالشكل الذي يمكن القول معه أنه لو لم يكن لهذا الحراك سوى هذا الفعل، لكن ذلك كافياً لوسمه بالهامّ والضروريّ.
عودةٌ إلى 17 تشرين الأول/أكتوبر، ثم إجراء بعض المقارنات بين ما قبل هذا التاريخ وما بعده، كافيةٌ لإيضاح هذه النتيجة وإبراز أثرها الإيجابيّ.
قبل هذا التاريخ، كانت الأوضاع اللبنانية تزداد سوءاً. مقالات يومية تحذّر من خطورة الوضع وتشرح أسباب التدهور، لكن أغلب اللبنانيين لم يتلقّوا من المشهد آنذاك إلا نتائجه المتعلقة بالأعباء الإضافية التي يتكبدونها، والمتعاظمة يوماً بعد يوم. هل كان أحدهم مدركاً للأسباب التي أوصلتنا إلى هذا الدرك؟ لا شكّ بأنهم قلّةٌ نسبيّاً.
ظهر شربل نحاس في العام 2018 على إحدى القنوات التلفزيونية. تحدث بإسهاب. وبغير مقصد الدعاية له هنا، لكن الإشارة هامة، فهو منذ ذلك الحين حثّ الناس على النهوض. وضّح وشرح وفسّر طبيعة النموذج الاقتصادي ـ السياسي في لبنان وكيف يتآكل، وقال أن الوقت ليس من صالح المواطن. لكنّ أحداً لم يسمع. بعض المقالات كُتبت في العام 2016 متنبئة بتدهور وضع الليرة اللبنانية إلى حالها الكارثي عام 2020 إذا ظلت السياسة المالية على حالها، لكن من قرأ لم يستوعب ربما، (إلى حد الآن، نواب ووزراء يجهلون طبيعة الازمة الاقتصادية ويعتبرونها عابرة) ومن لم يقرأ ظلّ حبيس لا مبالاته. أو أنه ربما حبيس “متلازمة عدم الشخصية” كما يعرّفها علم النفس، حيث تزداد الرغبة بالاستسلام للواقع، لا سيما عندما يتعمد أهل السلطة ترسيخ فكرة أن لا نهاية لهذه المعاناة، وأن لبنان حالة خاصة، لا يتحكم في أوضاعه إلا من أو ما هو “أكبر مني ومنك”. لقد كانت السلطة ذكية في استغلال حاجة الناس النفسية للانهيار، أو للإكتئاب. أليس الاكتئاب – من حيث أنه داء – هو دواءٌ لتنفيس حجم الضغوطات الهائلة، وإراحة العقل من خلال النسيان واللامبالاة؟
ألم يتغير بعض أسرى الحروب فجأة من مزاج المقاومة المتحدّية إلى فعل الخضوع التام بسبب كثرة الضغط، ثم حين يعتريهم الندم وتسألهم لماذا حصل هذا، يقولون لا ندري! إنهم حقاً لا يدرون. إنها استجابة لا إراديّة لواقعٍ مأزوم فُرض فرضاً بشكل متكررٍ وقاسٍ. وهل أسوأ مما تعرّض له اللبنانيّ من أوضاع وضغوطات؟ فكيف والحال ان أغلب اللبنانيين لا يقرؤون حتّى الصّحف اليوميّة!
إبداع محمد شقير – الذي يشكر عليه – أنتج الصرخة الأولى في وجه صنّاع الانهيار وحرّاسه. الشعب في مشهدٌ فريد فضل قانون البقاء على قانون الولاء. هذا الأخير الذي كان يضعف أصلاً في السنوات الأخيرة بفعل إفلاس الزعماء ونفاذ الوقود الذي يستجلبون الولاء من خلاله
كل هذا لا يعفي المواطن من مسؤوليته ولا يبرر له، فهو من سمح للضغوطات بأن تتفاقم، ورحّب بها أحياناً كثيرة كرمى لعين الزعيم.
ثمّ إنّ للانهيار “تنفيساته” الأُخرى، وأولها، ما يتمظهر في التردي الأخلاقي الذي يحرص صاحبه، إمّا أن يخفيه، أو يبرره بحيلة “شرعيّة”، وكلما كثرت الحيل، كثرت الازدواجية، وزاد الفصام. الانهيار الأخلاقي سبق الانهيار الاقتصادي بكثير، حتى وصل في السنوات الأخيرة إلى الذروة، وهذه الذروة بعضها مستتر، وبعضها مكشوف.
من لا يعترف أن الضريبة على الواتسآب ضرب من ضروب الإبداع فهو مجحف بحق المُبدع. إبداع محمد شقير – الذي يشكر عليه – أنتج الصرخة الأولى في وجه صنّاع الانهيار وحرّاسه. الشعب في مشهدٌ فريد فضل قانون البقاء على قانون الولاء. هذا الأخير الذي كان يضعف أصلاً في السنوات الأخيرة بفعل إفلاس الزعماء ونفاذ الوقود الذي يستجلبون الولاء من خلاله.
هزّ المشهد أركان السلطة، فلجأوا إلى سلاحهم الطائفي التقليدي لإعادة إعلاء قانون الولاء. وهنا، تجلّى الكثير مما كان خفيّاً. سقطت سلطة المثاليّات، وعادت حالة العنتريّات، وظهرت العقول الاختزاليّة والتخوينيّة، واستُنجد بالمقولات والوقائع السياسية الدينية لإضفاء طابع الحقانية على كل خيار سياسي. وظهرت نظرية المؤامرة كمرض ينهش عظام بعض اللبنانيين، وبرز المتسلّقون، وكشف بعض من في السلطة عن جهلهم حقيقة الامور، وعن تخبط واضح ظلّ ينكشف اكثر فاكثر حتى اللحظات الأخيرة من إعلان حكومة حسان دياب، حيث ظل المشهد تقاتلاً على الحصص، بلا خطة عمل ولا خطة انقاذ.
لكن هذا الواقع بحد ذاته، ساهم بفرز الناس جيداً، بين من تخلى عن ثوبه الطائفيّ بالمطلق، وبين من يحتمي تحت عباءة الطائفة. وهذا الواقع بذاته، من خلال النقاشات والانقسامات الجديدة التي تجلّت، بعد بروز تيار مدني جديدٍ لا طائفيّ، جعل الناس مضطرة إلى فهم بعض ما لم تكن تفهمه سابقاً. التمييز بين حكومة التكنوقراط مثلاً وحكومة الاختصاصيين، فهم دور المصارف، فهم معنى الحريرية السياسية.
لقد ساهم الحراك اللبناني بعملية فرزٍ مثالية. أوضح الخلفيات الفكريّة للشعب. للمسؤولين. أبرز المكون الأخلاقي. كرّس واقع السياسة اللبنانية بكونها تقاتل على الحصص، بدل التنافس للصالح العام. وإذا ما كان ينسب للحراك هذه الإيجابية، فإنه يجب قبل ذلك إضفاء الإيجابية كصفة على الانهيارات التي حدثت. وهذا “مكرُ الانهيار”! (على منوال مفهوم مكر التاريخ عند هيجل).