الجيش السوري، الذي عمل خلال الأيام الماضية على التمهيد لعمليته، عن طريق القصف المدفعي المركز، والاستهدافات المتتالية لبنك أهداف محددة، بدأ تقدمه البري على المحور الغربي الجنوبي لمدينة حلب بالتزامن مع تضييق الخناق على مسلحي إدلب، والتقدم عبر محورين لتأمين الطريق الدولي، حيث بات على مشارف معرة النعمان، التي تمثل السيطرة عليها بوابة السيطرة على ما تبقى من الطريق من جهة إدلب.
وخلال أقل من 24 ساعة من بدء التقدم البري، تمكنت قوات الجيش السوري من السيطرة على مناطق عدة في الريف الجنوبي الغربي من حلب، وسط تراجع الفصائل المسلحة وانسحابها بشكل متتال، إثر معارك عنيفة.
كما تمكن الجيش السوري من تجاوز الطريق الدولية في محيط معرة النعمان في ريف إدلب، ما وضع مسلحي المدينة بين فكي كماشة، بالإضافة إلى التقدم الكبير الذي حققه في منطقة وادي الضيف، التي كانت تضم واحداً من أكبر المعسكرات الخاصة بالجيش السوري، والتي تتمتع بأهمية استراتيجية كبيرة تتعلق بانتشار الجنود وطرق الامداد في المنطقتين الوسطى والشمالية من سوريا.
ويعمل الجيش السوري عن طريق توسيع رقعة المعارك على تشتيت قوة المسلحين من جهة، وتقسيم مناطق العمليات، وقطع طرق الإمداد بين المسلحين، الأمر الذي ساعد على تسريع وتيرة التقدم بشكل كبير، وهي الطريقة ذاتها التي اتبعها خلال السنوات الماضية، حيث برزت بشكل واضح خلال السيطرة على القسم الشرقي من مدينة حلب التي كانت خارجة عن سيطرة الحكومة، حيث يستخدم الجيش قوة نارية كبيرة يتبعها تقدم بري مدروس على محاور محددة تهدف بمجملها إلى تضييق الخناق على المسلحين ومحاصرتهم ضمن مناطق ضيقة، ما يجعل مهمة السيطرة على المناطق أقل تعقيداً وتكلفة بشرية.
وتأتي العملية العسكرية بعد أكثر من عامين على تأخر فتح الطريق الدولي بين حلب و دمشق، رغم توقيع تركيا وروسيا اتفاقية تقضي بذلك، كما تأتي بعدما فشلت المفاوضات التركية الروسية الأخيرة، الأمر الذي يبدو أنه دفع تركيا إلى تعليق آمالها على قدرة المسلحين على منع تقدم قوات الجيش السوري، وهو ما ظهر بشكل جلي خلال اللقاء الذي جمع الرئيس التركي رجب طيب اردوغان بمجموعة من قادة الفصائل المسلحة يوم الخميس الماضي، حيث أبلغ الفصائل بأنه ينبغي عليها أن “تدافع عن نفسها”، في وقت ذكرت فيه مصادر سورية معارضة أن الرئيس التركي تعهد بتقديم الدعم لتلك الفصائل.
وخلال المعارك الحالية، ظهرت بشكل واضح آليات عسكرية تابعة للجيش التركي تستعملها الفصائل المسلحة في محيط معرة النعمان، كما ظهرت أسلحة ثقيلة كمضادات الدروع والصواريخ الحرارية، بينها صواريخ “تاو” الأميركية.
وخلال الفترة الأخيرة، عاد الحديث عن تقديم الولايات المتحدة دعماً للفصائل المسلحة في الشمال السوري، حيث تبحث واشنطن عن توسيع نفوذها في المنطقة الحدودية مع تركيا، للوقوف أمام التقدم الروسي، ضمن لعبة الشطرنج الروسية – الأميركية التي تجري حالياً في الشمال الشرقي من سوريا، حيث يحاول الطرفان فرض سيطرتهما على مناطق وطرق استراتيجية في المثلث الحدودي بين سوريا وتركيا والعراق، ويبدو أن الولايات المتحدة تحاول توسيعها عن طريق إعادة قنوات التواصل مع الفصائل المسلحة في الشمال الغربي من سوريا.
ماطلت تركيا في إنهاء ملف الشمال السوري، حيث عجزت، أو لم تقم، بإنهاء وجود الفصائل “الجهادية”
وتنتشر في ريف حلب الجنوبي الغربي الممتد إلى إدلب عشرات الفصائل المسلحة ذات الطابع “الجهادي” بينها “هيئة تحرير الشام” (“جبهة النصرة”) و”أحرار الشام” المنضوية في “الجيش الوطني” الذي شكلته تركيا عن طريق دمج مجموعة من الفصائل السورية المسلحة، كما تنتشر فصائل “جهادية” أخرى مثل “الحزب الإسلامي التركستاني”، و”القوقاز”، وغيرهما.
وخلال العامين الماضيين، ماطلت تركيا في إنهاء ملف الشمال السوري، حيث عجزت، أو لم تقم، بإنهاء وجود الفصائل “الجهادية”، كما احجمت عن إبعاد المسلحين عن الطريق الدولية، التي أصرت خلال اللقاءات المستمرة مع روسيا على إشرافها على أجزاء منها، إلا أن التطورات الميدانية الجديدة من شأنها أن تفرض واقعاً جديداً يبعد تركيا عن الطريق، وهو ما تراهن تركيا على المسلحين لمنع حدوثه، في حين تشير المعطيات الحالية، والانهيار الكبير في صفوف الفصائل المسلحة، إلى فشل هذا الرهان.
ويمثل تقدم الجيش السوري ضغطاً غير مباشر على تركيا، حيث يضيق الخناق على الفصائل “الجهادية” قرب الحدود السورية-التركية، الأمر الذي تنظر إليه أنقرة بعين الريبة، خصوصاً أنها تخشى انتقال المسلحين إلى الجانب التركي، ما يفسر نشر تعزيزات عسكرية تركية جديدة خلال الأيام الماضية في المناطق الحدودية بمحاذات إدلب، بالتزامن مع تكثيف الضخ الإعلامي حول حركات النزوح الكبيرة بهدف تشكيل ضغط إعلامي دولي لكبح جماح العملية العسكرية، وفق ما رأى مصدر ميداني سوري تحدث إلى “180”.
القوة النارية التمهيدية التي استعملها الجيش السوري، بمؤازرة روسيّة، والتكتيك العسكري المتبع، تمكن من تحقيق تقدم كبير خلال وقت قياسي، الأمر الذي يجعل الحديث عن خريطة السيطرة في محاور الاشتباك أمر وقتي لا يمكن تحديده بدقة، في ظل متابعة قوات الجيش تقدمها، وعدم قدرة المسلحين على مجابهة هذه القوة، ما يجعل السيطرة على الطريق بشكل كامل وتأمينه شبه محسومة.