قبل أن يجف حبر كلام رئيس قسم العمليات، سارع رئيس الأركان الجنرال أفيف كوخافي في خطابه السنوي في ذكرى وفاة سلفه الجنرال أمنون شاحك، إلى التحذير من اقتراب الحرب مع إيران. وفي الوقت ذاته الذي ألقى فيه كوخافي خطابه في معهد هرتسليا، كان الأمن الصهيوني ينزل للمرة الثانية خلال ثلاثة شهور رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو عن منصة الخطابة وينقله إلى منطقة آمنة بعد إطلاق صواريخ من غزة على عسقلان.
وبديهي أن الهاجس الأمني، على أهميته، ليس مثار القلق الوحيد في الكيان الصهيوني. فقد فشلت الانتخابات التشريعية التي جرت مرتين خلال العام 2019 في تسهيل إنشاء ائتلاف حكومي مستقر ودفعت نحو إجراء انتخابات ثالثة في مطلع آذار/مارس 2020 لا تتوفر بشأنها أية ضمانات بحل الأزمة الحكومية.
ولا يقتصر الأمر على هذه المسائل، حيث أثارت نية المدعية العامة في المحكمة الجنائية الدولية، فاتو بنسودة، مخاوف إسرائيلية جدية إزاء احتمال أن يكون الكيان الإسرائيلي بات ضمن دائرة الاستهداف القانوني العالمي، برغم التأييد الأمريكي العارم له وبرغم إعلان “صفقة القرن”.
وإذا أضفنا إلى ذلك تقديرات عدد من الخبراء الاقتصاديين، بأنه برغم الازدهار الاقتصادي الحالي الظاهر في الكيان، فإن الأفق يبدو قاتما نظرا لانعدام فرص التوصل إلى سلام راسخ مع الفلسطينيين.
أزمة هوية الدولة
ومن الجائز أن الحديث عن المخاطر الأمنية لم يُخف خلال الشهور الأخيرة الأزمة الفعلية التي يعيشها الكيان تحت ستار الأزمة الحكومية. وفي نظر الكثير من الخبراء والمعلقين تجتمع في الأزمة القائمة كل مظاهر الأزمة الجوهرية، اجتماعيا وثقافيا وحضاريا، وهي التي تحدد وجهة المجتمع وهوية الدولة. هي، من جهة، عبارة عن أزمة بين من يريدون تغليب البعد القومي الديني، ومن جهة ثانية، هي أزمة يمينية ضيقة، على المظهر الليبرالي الذي حاولت الدولة العبرية التمظهر به على مدى العقود الماضية. وقاد التحالف القومي الديني في العقد الأخير إلى تعاظم الفاشية ليس فقط في مواجهة العرب وإنما أيضا في مواجهة الليبراليين. كما أن الصهيونية التي أرادت أن تكون “علمانية” لتجمع ليس فقط بين المتدينين وغير المتدينين وإنما بين المتدينين المختلفين أنفسهم صارت وبالتدريج تميل أكثر لمصلحة التيار الأرثوذكسي على حساب التيارين الإصلاحي والمحافظ.
الصهيونية التي أرادت أن تكون “علمانية” لتجمع ليس فقط بين المتدينين وغير المتدينين وإنما بين المتدينين المختلفين أنفسهم صارت، وبالتدريج، تميل أكثر لمصلحة التيار الأرثوذكسي على حساب التيارين الإصلاحي والمحافظ
ومن الجائز أن جانباً من الخلاف بين زعيم “الليكود” بنيامين نتنياهو وزعيم “إسرائيل بيتنا” أفيغدور ليبرمان، عدا الأبعاد الشخصية، يعود إلى الخلاف بين المتدينين وغير المتدينين حتى في صفوف اليمين القومي. وهذا الخلاف هو الذي حال دون نتنياهو والقدرة على تشكيل ائتلاف حكومي بعد معركتين انتخابيتين وربما بعد المعركة الانتخابية الثالثة المقبلة أيضا في الثاني من آذار/مارس المقبل.
الحرب الأهلية!
ويشعر الكثير من المراقبين بأن الخلافات بين مختلف التيارات السياسية في المجتمع الصهيوني صارت أشد عمقا من أي وقت مضى بعد أن صار اليمين يميل إلى استخدام أغلبيته البرلمانية لحسم خلافاته الفكرية عبر سن مجموعة من القوانين. وعدا ذلك، فإن أغلبية اليمين البرلمانية أسهمت في العقدين الأخيرين في تغيير عدد من المبادئ التي نشأت عليها الدولة اليهودية.
ولهذا السبب، فإن مراكز الأبحاث الصهيونية صارت ترصد التصدع الداخلي بين أهم الأخطار والتحديات التي تواجه الدولة العبرية في السنوات المقبلة. ومن الواضح أن الحديث عن هذا التصدع باعتباره خطراً وجودياً نجم عن تزايد الحديث عن احتمالات حرب أهلية في الكيان جراء سطوة اليمين المتطرف. وقد بدأ الحديث عن مثل هذه الحرب بعد اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق اسحق رابين بسبب إبرامه اتفاقيات أوسلو مع الفلسطينيين. لكن هذه الأحاديث صارت أكثر اتساعا بعدما إستشعر الجميع قوة تيار المستوطنين واستعداداته العالية لمنع أي حكومة في الكيان من التوصل لاتفاق سلام مع الفلسطينيين.
ويبدو هذا الكلام عند البعض أقرب إلى الهذر في ظل معرفة الجميع بحجم القوة العسكرية التي يملكها الكيان ومقدار النفوذ الذي يمتلكه وخصوصا في النخبة الأميركية الحاكمة. كما أنه لا يبدو منطقيا في نظر الكثيرين خصوصا في ظل النجاحات السياسية التي يحققها الكيان وخصوصا مع دول عربية يتعاظم ميلها للتطبيع معه. ولكن هذا ليس هو موقف أهم مركز أبحاث في الكيان، وهو مركز دراسات الأمن القومي في جامعة تل أبيب. فقد عدّد المركز أهم خمس تحديات وجودية تواجه الدولة العبرية، وأولها، خطر قيام تحالف عسكري إقليمي ضدها؛ وثانيها، مخاطر انتشار السلاح النووي في المنطقة؛ وثالثها، احتمال انهيار المنظومة الدفاعية الصهيونية في مواجهة هجمات صاروخية مكثفة؛ ورابعها العزلة الدولية واتساع المقاطعة العالمية؛ وخامسها، تصدع الجبهة الداخلية وفقدان هوية الدولة.
الهجرة اليهودية المضادة
وقد شرحت الكاتبة انيتا شربيت بالوش ما اعتبرته “عوامل تصدع الجبهة الداخلية”، مشيرة إلى أنها تتعلق بهوية الدولة وتضعضع الاصطفاف اليهودي فيها”. وترى أنه سيكون لمثل هذه الأبعاد آثار سلبية تمس بالهوية الديمقراطية الليبرالية قد تقود إلى احتجاجات على أساس قومي أو عرقي أو أيديولوجي. وتقول إن ذلك كفيل بدفع اليهود للهجرة المضادة، ممن سيشعرون بالخوف من مواصلة العيش في الدولة العبرية أو يفقدون التعاطف معها. وتخلص إلى أن ذلك سيشجع على هجرة العقول وتراجع الاستثمارات وتوقف السياحة، ما سيوسع الفجوة أيضا مع يهود الشتات.
ومن الجائز أن نتائج الانتخابات المقبلة في شهر آذار/مارس سوف تحسم العديد من المسائل لدى جزء غير يسير من سكان الدولة العبرية وأيضا يهود الشتات وخصوصا يهود أميركا. ويبدو أنه إذا نجح اليمين في مواصلة السيطرة على الحكم، سواء فاز نتنياهو أو سواه من قادة اليمين، فإن الشرخ مع هذا القطاع سوف يتعمق. وفي المقابل، فإن فوز ما يوصف حالياً بالمعسكر الليبرالي في الحركة الصهيونية قد يدفع المتطرفين المستندين إلى قواعد إستيطانية إلى التمرد. وهذا ما يدفع كثيرين في المجتمع الصهيوني للإعراب عن رأيهم بأن الأزمة الراهنة قد تطول لأن الحلول المقترحة لها بعيدة عن أن تكون شافية.
ولا يبدو في هذا السياق أن نجاح الليكود في تكريس منهج التطبيع مع بعض الدول العربية يغير الصورة كثيرا داخل الكيان. فأحد التحديات الوجودية الهامة هي العزلة الدولية التي تواجهها حكومة الكيان أساسا بسبب سياساتها الاحتلالية والإستيطانية. ولا يظهر أن اليمين بصدد التخلي عن منهجه خصوصا أن نتنياهو، باسم اليمين، يعلن جهارا نهارا نيته إعلان ضم غور الأردن والكتل الاستيطانية (بعد الإنتخابات). كما أن وزير الحرب، نفتالي بينت، قرر في خطوة جديدة تسجيل عقارات المستوطنين في وزارة العدل الصهيونية وليس في الإدارة المدنية التابعة للحكم العسكري، وهذا الأمر يدلل على أن الاستعدادات لتحدي الإرادة الدولية تجري على قدم وساق. ومع ذلك، لا بد من الإشارة إلى تصريحات وزير الخارجية، إسرائيل كاتس، وهو من المتطرفين في الليكود، حول أن عدم هدم المباني العربية في الخان الأحمر (محافظة القدس) يعود للخشية من عواقب ذلك على قرار المدعية العامة في المحكمة الجنائية الدولية، ما يعني أنه برغم التظاهر بالاستعداد للعربدة إلا أن الخشية من الإرادة الدولية تؤخذ أحيانا بالحسبان لدى القيادة الصهيونية.
في الضفة والقدس تجري عمليات قضم متواصلة لأراضي وحقوق الفلسطينيين، فيما يستمر الحصار المفروض على قطاع غزة، وهذا يقرب لحظة الانفجار الكبير
طوق العزلة يشتد
وهناك الكثير من الإشارات التي صدرت عن محافل دولية مثل الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي تدفع للإعتقاد بأن خطوات أشد قد تتخذ ضد الدولة العبرية في المستقبل القريب. فالدعم الأميركي الصريح لليمين الصهيوني المتطرف لم يمنع المحكمة العليا في الاتحاد الأوروبي من إتخاذ قرار يلزم جميع الدول الأوروبية الأعضاء في الإتحاد بوسم البضائع المنتجة في المستوطنات بوسم خاص وتمييزها عن البضائع المنتجة داخل الخط الأخضر. كذلك الحال مع قرار الجمعية العمومية للأمم المتحدة الذي أعاد التأكيد على أن الأراضي المحتلة عام 1967 بما فيها القدس الشرقية أراض محتلة برغم إعلان إدارة ترامب خلاف ذلك. وإذا نجحت المدعية العامة في المحكمة الجنائية الدولية في فتح تحقيق في جرائم الحرب الإسرائيلية، فإن طوق العزلة سيشتد حول الكيان دوليا برغم الاختراقات التطبيعية الإقليمية (العربية).
في ظل هذا المناخ، يصبح تحقيق السلام، وخصوصا حل الدولتين، أكثر صعوبة في المستقبل المنظور إن لم يكن بسبب مواقف أغلب الأحزاب الصهيونية، فعلى الأقل بسبب عمق وتوسع الاستيطان. وهذا يجعل توقعات الحرب أو الصدامات العسكرية أكثر ترجيحا من توقعات السلام. وكما سلف، فإن رئيس أركان الجيش الصهيوني تحدث مؤخرا عن تزايد احتمالات الحرب في الشمال. وقد رأى البعض في هذه التصريحات تهيئة للرأي العام الصهيوني لحرب كهذه قد تكون مديدة ومكلفة. لكن آخرين رأوا أن هذه التصريحات بالذات تمهد لمطالبة الجيش بحصة أكبر من كعكة الميزانية السنوية.
ويرى معلقون صهاينة أنه برغم الحديث عن خطر اندلاع حرب في الشمال (حزب الله)، فإن الخطر الفعلي هو من احتمال انفجار الوضع في قطاع غزة. وفي هذا السياق، ثمة خلافات كبيرة داخل المؤسسة الصهيونية السياسية والعسكرية حول سبل تحقيق التهدئة مع قطاع غزة على أمل التفرغ للمواجهة في الشمال. ويقول معلقون إن فرص نجاح التهدئة مع قطاع غزة ضعيفة برغم كثرة الأحاديث عن ذلك. وهذا يضع الكيان في مأزق واضح مع الفلسطينيين سواء في الضفة أو القطاع. ففي الضفة والقدس تجري عمليات قضم متواصل لأراضي وحقوق الفلسطينيين، فيما يستمر الحصار المفروض على قطاع غزة، وهذا يقرب لحظة الانفجار الكبير.