بين “كاريش” وغاز مصر وجولة بايدن: الطاقة أو الأمن أولاً؟

يطرح التوتر اللبناني ـ الإسرائيلي في ملف ترسيم الحدود البحرية مخاوف بشأن إحتمال تعريض ربط النزاع القائم منذ حرب تموز/يوليو 2006 للإهتزاز، ويزيد من وطأة ذلك جهود خارجية في ما يتعلق بالانهيار الإقتصادي اللبناني تنحصر في حدود تخفيف ما يسمى "الارتطام الكبير".

جاء التوتر الأخير حول حقل “كاريش” المتنازع عليه بين بيروت وتل أبيب، واستقدام إسرائيل سفينة الإنتاج والمعالجة “انرجين باور” للعمل في الحقل البحري خلال الآونة الأخيرة، ليرفع أسهم لبنان في أولويات القوى العالمية، والسبب ارتباط الحدث بالطاقة والملاحة وغاز شرق المتوسط وما يعنيه في لحظة الحرب الروسية – الأوكرانية واضطراب سوق الطاقة أوروبياً وعالمياً، فضلاً عن طموحات الفاعلين الإقليميين، وسط هيكلة واشنطن علاقاتها بالمنطقة ككل.

وبالتوازي مع أزمة كاريش، وعودة الوسيط الأميركي عاموس هوكستاين، تطفو على السطح قضية ضخ الغاز المصري إلى لبنان مجدداً، حيث وقع البلدان بالإضافة إلى الأردن وسوريا في الأيام الأخيرة، عقود اتفاق تُورّد مصر بموجبه 650 مليون متر مكعب من الغاز سنوياً إلى لبنان مروراً بالأردن وسوريا، فيما يموّل البنك الدولي قيمة الغاز المصدر، بعد استثناء أميركي منتظر لسوريا من عقوبات “قانون قيصر”.

وأكّد المتحدث بإسم وزارة الخارجية الأميركية نيد برايس أن الولايات المتحدة تتطلع لمراجعة العقود النهائية لصفقة نقل 650 مليون متر مكعب من الغاز المصري سنوياً إلى لبنان، “لضمان عدم مخالفتها العقوبات”، مشدداً على أن “واشنطن “لم ولن تتنازل” عن العقوبات المفروضة على النظام السوري. ورحب بالصفقة، قائلاً إن الاتفاق يوفر الطاقة التي يحتاجها الشعب اللبناني بشدة، وأضاف أن واشنطن تتطلع إلى “مراجعة العقود النهائية وشروط التمويل من الأطراف، لضمان توافق هذه الاتفاقية مع سياسة الولايات المتحدة، ومعالجة أي مخاوف محتملة تتعلق بالعقوبات (قانون قيصر)”.

توصيل الغاز من مصر إلى لبنان بات رهن سياسة التشبيك والربط في الملفات الإقليمية، وهو ما سيتضح عبر نتائج جولة بايدن الشهر المقبل.. ودائماً وفق خط أحمر يتمثل في تجنب اندلاع حرب تؤثر في ترتيبات غاز شرق المتوسط خاصة مع بداية حصد الأطراف الإقليمية ثمارها

وكانت مساعدة وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى، باربرا ليف، قد قالت في جلسة استماع في الكونغرس الأسبوع الماضي: “لم تُتخذ حتى الآن أي استثناءات أو رفع عقوبات على دمشق تمكنها من استقبال تحويلات نقدية”، الأمر الذي يعد شرطاً أساسياً لمرور الغاز المصري إلى لبنان عبر الأراضي السورية. لكن ليف أوضحت أن واشنطن “ستدقق في العقود فور توقيعها بين هذه البلاد بالإضافة إلى الأردن”، لأن “انهيار الدولة والمجتمع في لبنان سيكون أثره في الأردن وإسرائيل ودول أخرى أكبر من أثره في اللبنانيين”.

التفافة بايدن

من الواضح أن السقف الأميركي هو الحيلولة دون حرب في المنطقة تؤثر في خطط تعويض أوروبا عن الطاقة الروسية، وتعطل خطوط الملاحة والمخاطر على أمن إسرائيل إذا تدهورت الحال في الداخل اللبناني، ما أسس لهامش تفاوضي بين الولايات المتحدة و”أصدقائها” في الخليج أدى إلى تعديل موقف إدارة جو بايدن تجاههم بجانب إعادة هيكلة العلاقة معهم.

نتيجة لذلك حلت الترتيبات والمعاهدات الدفاعية بديلة عن “الانكماش الأميركي”، على نمط ما عقدته واشنطن في العالم من معاهدات مماثلة في مواجهة موسكو وبكين، وهو ما أسفر عن حدود دُنيا تتمثل في بروتوكولات دفاع جوي وإمدادات لوجستية هدفها الحيلولة دون نفاذ روسيصيني إلى شرق المتوسط والقرن الأفريقي، وهو ما يبقي “الخطر الإيراني” بالنسبة إلى العواصم الخليجية وتل أبيب في حدود التصعيد الممكن إدارته خلال عهد بايدن وربما بعده.

من هنا، يمكن فهم أن مقترح تصدير الغاز من مصر إلى لبنان جاء كمنطقة وسط بين الصدام وبين الاستمرار في التصعيد، أي بين ما تريده الولايات المتحدة للبنان ضمن سياق المفاوضات النووية وإدارة حضورها الإستراتيجي بالمنطقة، وبين ما يريده “حلفاؤها” في سياق تقييم علاقتهم بإدارة بايدن، وفق التطورات والفرص التي خلقتها الحرب في أوكرانيا، وهو ما قابله الرجل بتصريحات حول تنحية الطاقة والغذاء عن الصراعات الدولية المختلفة.

لكن ما جرى يتوافق مع توجهات السياسة الخارجية المصرية حيث التوازن والتنوع في العلاقات مع القوى الإقليمية والدولية، وتحديداً في ما يرتبط بمشهد الطاقة في شرق المتوسط. وهذا ما يفسر مسار تخفيف آثار الانهيار وخفض التوتر والتحوط المتبع من القاهرة تجاه بيروت في السنوات الأخيرة، وهو نموذج كُرّر في صراعات غاز المتوسط، ليكون ذلك عبر مقترحات التفاوض والاستثمار المشترك بدلاً من التصعيد العسكري، فضلاً عن عناصر التمايز المصري في ملفات اليمن (عدم التورط بالحرب) وسوريا (عدم الإنسحاب دبلوماسياً من دمشق) ولبنان (دعم عودة نجيب ميقاتي لرئاسة الحكومة).

تقاطع مصري

يتمايز التوجه المصري عن باقي القوى في تجنب الاستثمار في الانهيار في لبنان، بل تفعيل محددات إستراتيجية وجيو-سياسية وأمنية واقتصادية في السياسة الخارجية مع محور الشمال والشرق، تحت عناوين مثل “استدامة التهدئة الإقليمية” و”الحفاظ على بنية الدول وسلامة المجتمعات”، وهذا كله مرتبط بإستراتيجيات مثل التحول إلى مركز إقليمي للطاقة، و”الشام الجديدة”، وصولاً إلى تخفيف التوتر المرتبط بخطوط الطاقة والغاز وإسالته.

إقرأ على موقع 180  روسيا وإيران.. مفترق طرق جيواستراتيجي معقد

من هنا يمكن فهم مقاربات تل أبيب وأنقرة الجديدة، وكذلك التفضيلات الأميركية التي قابلت عناوين مثل استقدام بواخر وقود إيرانية إلى لبنان باستجرار للغاز المصري عبر سوريا والأردن من أجل نزع لفتيل لغم قد يؤدي تفجيره إلى اندلاع حرب بين إسرائيل ولبنان تهدم خطوط تفاهم عريضة بين القوى المعنية بغاز المتوسط تم التوصل إليها بعد سنوات عسيرة من حروب بالوكالة، قبل أن تتعزز هذه القناعة مع ما فتحته الحرب الأوكرانية من فرص في ملفي الطاقة والملاحة، وأولويات إدارة مخاطر هذه الحرب وعلى رأسها الغذاء.

هذا المسعى المصري تحقق بنسبة كبيرة بعد تدعيمه أوروبياً عبر اتفاق توريد الغاز الثلاثي، ومركزية مصر “كمورد موثوق ومستدام للغاز” وفق تعبير المفوضية الأوروبية، ما يعزز الاتجاه المصريالفرنسي في ما يتعلق بلبنان وشرق المتوسط وتعميمه أوروبياً، وقد يدفع بمسألة إيصال الغاز ليكون على رأس أولويات بايدن الإقليمية، الأمر الذي يأتي في سياق موازنة القاهرة أولويات سياساتها الخارجية، وظهر ذلك في موقف القاهرة قبيل جولة بايدن بالتركيز على ملفات اليمن والقرن الإفريقي وارتباط الملاحة بسد النهضة، عقب حلحلة نسبية خلال آخر عامين في ما يتعلق بليبيا والخلاف مع تركيا والاتفاق الثلاثي لتصدير الغاز المسال إلى أوروبا، فضلاً عن إعادة تحريك ملف جزيرتي تيران وصنافر، لمصلحة التشبيك الأمني الإسرائيلي السعودي!

“الأمن لا الطاقة”

يتمحور المشهد القريب حول ترتيب ما يتعلق بلبنان في جولة بايدن المرتقبة الشهر المقبل، مع محاولة الدفع بجهود تنظيم ستاتيكو الانهيار اللبناني، في نموذج لما قد يطرأ من متغيرات في المستقبل القريب على العلاقة بين واشنطن والقوى الإقليمية بمختلف أولوياتها، وما تشكله الحالة اللبنانية من تقاطع إجباري لمعظم ملفات المنطقة وأزماتها، ليتأكد أكثر أن استجرار الغاز المصري هدفه نزع فتيل التوتر الإقليمي.

كذلك، يعطي التفاعل الأميركي مع ملف ترسيم الحدود البحرية، والاستثناء (النظري) من العقوبات أمام الغاز المصري، دلالات مهمة حول المحددات الإستراتيجية للولايات المتحدة في المنطقة (الطاقة، الملاحة، أمن إسرائيل) وما طرأ عليها من تطورات، وما سيطرأ عليها في المديين المتوسط والبعيد مع الإدارات المقبلة، وفق تطورات الصراع بين القوى الكبرى، وأهم حلقاته حالياً الحرب في أوكرانيا والتوتر الصيني ـ الأميركي في المحيط الهادئ.

هذا كلّه مثّل فرصة لعواصم إقليمية لفرض أولوياتها عبر التشبيك بينها في ما يخص الأمن والطاقة والملاحة، وذلك بعد سنوات من تجريب مبدأ الفصل بين الملفات والمحددات بين واشنطن وقوى المنطقة، وأبرزها مراحل المفاوضات النووية التي دخلت حالة الإنعاش أخيراً، وكذلك حال الوساطة الأميركية في مفاوضات ترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل، وهو ما لخصه بايدن في تصريحات قال فيها: “لا أذهب إلى الشرق الأوسط من أجل الطاقة بل من أجل الأمن”.

يعطي التفاعل الأميركي مع ملف ترسيم الحدود البحرية، والاستثناء (النظري) من العقوبات أمام الغاز المصري، دلالات مهمة حول المحددات الإستراتيجية للولايات المتحدة في المنطقة (الطاقة، الملاحة، أمن إسرائيل) وما طرأ عليها من تطورات، وما سيطرأ عليها في المديين المتوسط والبعيد مع الإدارات المقبلة

يشار إلى أن الربط بين الطاقة وخطوطها ولاحقاً الملاحة من البوابة اللبنانية بأمن إسرائيل، كان هدفه إثارة اهتمام واشنطن التي قزمت تفاعلها مع الحدث اللبناني إلى حد “تلزيمه” للفرنسيين، بالتوازي مع تقليص الرياض مظلاتها السياسية والإعلامية والمالية عن لبنان على مدى السنوات الماضية وصولاً إلى نقطة الذروة العام الماضي، وهو ما جعل إدارة بايدن تدفع بتفاوض غير مباشر هدفه الأساسي ليس حل الخلاف على الحدود بل خفض التوتر في المنطقة، وفق مسار مفاوضات فيينا، الأمر الذي قوبل من باقي القوى الإقليمية بإجراءات تعطيل ومبادرات تحوطية يتماشى بعضها مع التوجه الأميركي العام، ولكن وفق أولويات وتوقيتات تتباين معه.

من هنا نجد أن توصيل الغاز من مصر إلى لبنان بات رهن سياسة التشبيك والربط في الملفات الإقليمية، وهو ما سيتضح عبر نتائج جولة بايدن الشهر المقبل.. ودائماً وفق خط أحمر يتمثل في تجنب اندلاع حرب تؤثر في ترتيبات غاز شرق المتوسط خاصة مع بداية حصد الاطراف الإقليمية ثمارها، ليصير التوتر حول حقل كاريش فرصة لانتزاع إستثناء لتجنب عقوبات “قانون قيصر”، وتخفيض احتمالية الحرب إلى أدنى حدودها الجارية حالياً والمتمثلة في حرب الظل بين إيران وإسرائيل، وليس غاز المتوسط حيث الاهتمام المصري بالفعلين التركي والإسرائيلي بشأن مستقبل خطوط الطاقة وتفاعل واشنطن مع هذا الملف، وهو ما قد يُعمَّم تالياً ليشمل غاز غزة وملف الموانئ في الإقليم.

Print Friendly, PDF & Email
إسلام أبو العز

كاتب صحافي ومحلل مختص بالشؤون الإقليمية والعلاقات الدولية - مصر

Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  سوريا: تفاهمات مملوك وفيدان تنتظر الضوء الأخضر التركي