في المعارك المركبّة والمعقّدة مثل تلك التي تدور رحاها في إدلب حالياً، تظلُّ بعض خيوط الأحداث غامضةً وغير مرئية للعيان، رغم أنها تكون مؤثرة وذات دلالة على أبعاد وتداعيات المشهد العام.
يتمثّل أحدُ هذه الخيوط في العلاقة بين أنقرة و”جبهة النصرة” في ظل الحملة العسكرية التي يقوم بها الجيش السوري، وهل الطرفان على قلب رجل واحد إزاء هذه الحملة أم لكل منهما استراتيجيته وأهدافه التي تختلف عن استراتيجية وأهداف الطرف الآخر؟
قامت الاستراتيجية التركية منذ توقيع اتفاق سوتشي في شهر أيلول/سبتمبر من العام 2018 على أساس “شراء الوقت” والعمل على تأخير تنفيذ بنود الاتفاق لأطول فترة ممكنة على أمل أن تحدث متغيرات إقليمية ودولية من شأنها تحسين موقع أنقرة التفاوضي في مواجهة كل من روسيا وإيران.
وفي غضون ذلك، كانت الاستخبارات التركية تبذل جهوداً مضنية ترمي إلى إحكام قبضتها على ملف إدلب عبر العمل على إعادة ترتيب أوراق الفصائل المسلحة ودمجها في جسم عسكري موحد تنبثق عنه هيئة إدارية تتولى حكم إدلب ريثما يحين موعد الحسم النهائيّ على طاولة المفاوضات السياسية.
وكانت الإرادة التركية هنا تتوخى ضرب عصفورين بحجر واحد، الأول هو أن تظهر لشريكيها في أستانا – روسيا وإيران – قدرتها على التحكم في تفاصيل المشهد الإدلبي، وعزمها على تنفيذ الاتفاقات الموقّعة. والثاني، سعيها إلى الاستفراد بإدارة ملف إدلب وضمه إلى ملفات المناطق الخاضعة لسيطرتها في درع الفرات وغصن الزيتون ومؤخراً نبع السلام.
لكن لسببٍ أو لآخر، قد يكون جرعة تفاؤل زائدة أو ضعف في قراءة وقائع المشهد، لم يكن في حسبان أنقرة أن يكون “كعب أخيل” استراتيجيتها السابقة في إدلب هو “جبهة النصرة” وزعيمها أبي محمد الجولاني.
لم يكتف الجولاني بمناكفة السياسة التركية وعرقلة تنفيذها طوال السنتين الماضيتين، بل سارع في لحظات حاسمة إلى توجيه صفعات مؤلمة ساهمت في إحراج أنقرة وإظهارها بمظهر العاجز عن الوفاء بالتزاماته.
لم يكتف الجولاني بمناكفة السياسة التركية وعرقلة تنفيذها بل سارع في لحظات حاسمة إلى توجيه صفعات مؤلمة
وقد تعددت مناكفات الجولاني. ففي البداية أصرّ على فرض شروطه على انتشار نقاط المراقبة التركية وأن يكون هذا الانتشار بموافقته وتحت حمايته، ثمّ رفض جميع المقترحات التي تقدمت بها الاستخبارات التركية من أجل ترتيب البيت الادلبي وإعادة صياغته بما يتوافق – ولو ظاهرياً- مع اتفاقات أستانا وسوتشي، حيث استمر في وضع عصيّ شروطه أمام عجلة المقترحات إلى أن أجهضت جميعها.
لكن الصفعة القويةّ التي وجهها الجولاني للسياسة التركية وتردد صداها بعيداً، تمثلت في مبادرته في مطلع العام 2019 إلى الهجوم على الفصائل المسلحة المدعومة من أنقرة وبسط سيطرته شبه الكاملة على منطقة خفض التصعيد في إدلب. واستغلّ الجولاني آنذاك انشغال أنقرة بملف شرق الفرات فارضاً عليها أمراً واقعاً في إدلب جعلها تستشعر أن البساط يُسحب من تحت أقدامها.
لم تنس أنقرة هذه الصفعة التي كادت تطيح بسياستها في إدلب، وقررت منذ ذلك الحين أن الوقت قد حان لتغيير أسلوب تعاملها مع جبهة النصرة، وأن الأخيرة أصبحت بحاجة إلى تأديب يتجاوز مجرد “فركة الإذن” المعتادة، كما قال لموقع 180 مصدر قيادي في فصيل “أحرار الشام”.
وحسب المصدر السابق فإن الموقف الفاتر الذي اتخذته أنقرة إزاء حملة الجيش السوري في ريف حماة الشمالي لم تكن التزاماً بمقتضيات اتفاق سوتشي الذي ينص على إنشاء منطقة منزوعة السلاح بعمق 10-20 كيلومترات وحسب، بل كان في جانب منه يحمل رسالة إلى قيادة جبهة النصرة بأن أنقرة لن تتدخل لوقف تقدم الجيش طالما أن كلمتها غير مسموعة وطالما أن الجولاني يرمي بمقترحاتها في سلة المهملات.
ولعلّ ما لم يكن واضحاً آنذاك أن مسؤول الملف السوري في أنقرة لم يكن يمانع أن يجري تأديب جبهة النصرة على يد الجيش السوري ولو أفضى هذا المسار إلى حدوث خسائر تركية جانبية.
غير أن ما حصل في خان شيخون سرعان ما تكرر بحذافيره في كل من معرة النعمان وسراقب، وهو أن “جبهة النصرة” حيّدت نفسها عن القتال ورفضت وضع ثقلها القتالي على الجبهات التي كان يتقدم إليها الجيش السوري. وهذا الأداء من “جبهة النصرة” يبدو مفهوماً لعدة أسباب أهمها، أن هذه المدن أمرها محسوم بموجب الاتفاقات الموقعة وأنّ من يسيطر عليها هي الفصائل المحسوبة على تركيا المتمثلة في “الجبهة الوطنية للتحرير”. كذلك فإن الجولانيّ لم يكن يريد أن يعطي أنقرة الفرصة لرد الصاع صاعين، فهو يعلم علم اليقين مدى الاستياء التركي من هيمنته على المحافظة وانعكاسها على سياسة أنقرة.
حيّدت “جبهة النصرة” نفسها عن القتال في معرة النعمان وسراقب ورفضت وضع ثقلها القتالي على الجبهات التي كان يتقدم إليها الجيش السوري
وفي هذا السياق لم يكن الجولاني ينظر بارتياح إلى نخوة المقاتلين المحسوبين على أنقرة في مناطق “درع الفرات” ودعواتهم للاستنفار وإرسال المؤازرات إلى إدلب، إذ كان لديه تخوف حقيقي من أن يكون لدى أنقرة مخطط للانقلاب عليه أو على الأقل تخفيف قبضته عن إدلب تحت ستار هذه المؤازرات. لذلك وضع الجولاني قيوداً صارمة على دخولها واشترط أن تكون من فصائل معينة دون فصائل أخرى وأن تذهب مباشرة إلى جبهات القتال دون المرور بالمناطق المأهولة.
حصيلة معركة “عضّ الأصابع” بين أنقرة والنصرة ما تزال غير واضحة، ومن غير الممكن معرفة من الطرف الذي سجّل نقاطاً أكثر على خصمه. لكن المؤكد أن هذه المعركة ما تزال مستمرة رغم تقدم الجيش السوري على جبهات القتال وتهديده مصالح الطرفين.
ومن المتوقع أن تشتدّ، في مرحلة ما بعد سراقب، حدّةُ الصراع الخفي بين مصالح أنقرة الاستراتيجية ومساعي الجولاني لإبقاء إمارته الاسلامية. وسوف يتّخذ هذا الصراع شكل الخلاف على تحديد الأولويات الاستراتيجية في مناطق شمال وغرب الطريقين الدوليين M4 و M5.
وبينما بدأت أنقرة تتحدث عن إنشاء منطقة آمنة في إدلب من أجل حلّ مشكلة اللاجئين ومنع دخول موجاتهم إلى الداخل التركي، بات من المعلوم أن الجولاني كان منذ البداية يعمل على أساس تقسيم إدلب إلى “إدلب مفيدة” وأخرى لا فائدة منها بالنسبة له ولمشروعه.
وتقع “إدلب المفيدة” حسب تقسيم الجولاني في شمال وغرب الطريقين الدوليين، وهو ما يعني أن هذه المناطق ستشهد تشابكاً بين مشروعين اثنين هما المنطقة الآمنة التركية من جهة والإمارة الاسلامية للجولاني من جهة ثانية. ويتمثل التناقض الكبير بين هذين المشروعين أن أنقرة لن يكون بإمكانها التسويق لمشروع المنطقة الآمنة إلا بعد تقديمها ضمانات على خلوّها من الفصائل المصنفة على قائمة الارهاب، وإلا فإن موسكو وغيرها من عواصم القرار ستكون بالمرصاد لهذه المشروع.
في المقابل سيجد الجولاني نفسه أمام خيارات في غاية الصعوبة, لأن تآكل العمق الاستراتيجي لإمارته بفعل تقدم الجيش السوري سيجعله مضطراً للتوكّل أكثر على جارته تركيا وهو ما يدرك أنه سيتطلب منه تقديم تنازلات مؤلمة.
وعلى وقع تقدم الجيش السوري وإعادة رسمه لخرائط السيطرة، سيبقى السؤال ما هو مصير إدلب بعد هذه المرحلة، هل ستتمكن تركيا من تطويع الجولاني وإقناعه بالدخول تحت عباءة مشاريعها أم أن الأخير سيستغل لحظة الضعف التركية التي برزت جراء عدم قدرتها على التأثير بالأحداث رغم ارتفاع صراخها بالتهديدات، ويعمل على جرّ أنقرة إلى مربع إمارته الاسلامية؟