بالرغم من أن إعلان النصر على تنظيم “داعش” تطلّب اتّباع سياسة إعلامية مختلفة تقوم على التقليل من تغطية أخباره بما يتناسب مع واقع الهزيمة التي تعرّض لها، إلا أن ذلك لا يعني تجاهل ما يجري على الأرض من وقائع تؤكد أن شحنةً جديدة من القوة بدأت تسري في عروق التنظيم الذي خاض آخر معاركه العسكرية في بلدة الباغوز في شهر آذار/مارس 2019.
وبعد انتهاء “غزوة الثأر لمقتل البغدادي والمهاجر” التي كانت أول نشاط منسّق في ظل قيادة “داعش” الجديدة، يبدو أن الأخيرة قررت خوض معركة أمنية مع قوات التحالف الدولي و”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) عنوانها “إثبات القوة” وأهدافها عدة أبرزها مواجهة استراتيجية الانزالات الجوية للتحالف الدولي التي استنزفت العشرات من أهم قيادات وكوادر التنظيم؛ منع الأعداء من إعادة تدوير عناصره المعتقلين ضمن بنية “قسد” العسكرية والأمنية بهدف استخدامهم لتوجيه صفعات أمنية جديدة ضد التنظيم.
وخلال أسبوع واحد، نجحت المفارز الأمنية لتنظيم “داعش” في منطقة شرق الفرات من ملاحقة مجموعة من المنشقّين ـ يطلق عليهم التنظيم وصف “المرتدين” ـ وتصفيتهم أو أسرهم بعد أن كانوا قرروا نقل بندقيتهم إلى كتف التحالف الدولي بغية استهداف “إخوانهم” و”أمرائهم” السابقين في “داعش”.
وتتعدد الأسماء التي وقعت في فخّ المفارز الأمنية مثل عبد الحي النجم وصفوان صكر الحاج محمد وكانا يتجسسان لصالح قوات التحالف الدولي وقد تمكنت هذه المفارز من أسرهما والتحقيق معهما قبل قتلهما.
وإذ يبرز اسم مهيدي صلاح عبدالله الذي وقع في قبضة مقاتلي التنظيم يوم الاثنين الماضي في بلدة الشحيل وتم نقله إلى “مكان آمن” للتحقيق معه قبل قتله يوم الاربعاء المنصرم، بسبب “ردّته عن الدين لموالاته الصليبيين والمرتدين”، فإن الاسم الأكثر أهمية والذي من شأنه أن يسلط الضوء على طبيعة المعركة الأمنية التي تدور رحاها بين “قسد” والتحالف الدولي من جهة، والمفارز الأمنية لتنظيم “داعش” من جهة ثانية، هو محمد الفرحان المعروف بلقب “قسورة طيانة”.
كان الفرحان هو الهدف من وراء تنفيذ التحالف الدولي انزالا جويا في بلدة الطيانة بريف دير الزور في مطلع شهر أيلول/سبتمبر من العام الماضي. ويُعتقد أن “قسورة طيانة” كان مسؤولاً أمنياً بارزا في تنظيم “داعش” في ما تسمى “ولاية الخير”، والمقصود بها محافظة دير الزور.
غير أن ما جرى لاحقاً يمكن أن يكشف الكثير من الأبعاد الحقيقية لسياسة الانزالات الجوية والاعتقالات التي تقوم بها قوات التحالف الدولي والتي تبقى تفاصيلها وأهدافها في غالبية الحالات سرية. فخلال فترة وجيزة من اعتقاله، قرر الفرحان واسمه الكامل محمد الفرحان العلي مجول، أن يتعاون مع التحالف الدولي وينضم إلى صفوف “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) حيث عمل في مجال التجسس ضد عناصر “داعش” والإبلاغ عنهم وأحياناً ابتزازهم من أجل دفع مبالغ مالية مقابل التغاضي عنهم.
وانتقاماً منه، عمل تنظيم “داعش” على ملاحقته. وقد نجح في تصفيته قبل حوالي أسبوعين في بلدته الطيانة التابعة لمنطقة ذبيان بريف ديرالزور.
وتكررت نفس القصة تقريباً مع اسماعيل العبار المعروف بلقب أبو سيف سبيخان والذي كان من منتسبي داعش قبل أن ينقلب على عقبيه بعد اعتقاله ويتحول إلى جاسوس ضد التنظيم. وقد تمكن الأخير من قتله في بلدة الشحيل مطلع شهر شباط/ فبراير الجاري.
كانت البداية مع الصفقة القذرة التي أُنهيت بها معركة الرقة من خلال التفاوض والسماح للآلاف من مقاتلي تنظيم “داعش” بالانتقال إلى دير الزور والحسكة، وهو ما كشفه فيلم وثائقي من إعداد محطة BBC
ومن غير المعروف حتى الآن ما هي المعايير التي يتبعها التحالف الدولي في تنفيذ انزالاته الجوية، ولماذا يؤدي بعضها إلى اعتقال بعض قادة داعش وهم على قيد الحياة، إذ يجري تجنيد بعضهم ضد تنظيمهم السابق، فيما تؤدي عمليات إنزال أخرى إلى قتل بعض القادة مثل الانزال الأخير في بلدة الطكيحي الذي أسفر عن مقتل القيادي في التنظيم راغب حسين أحمد الابراهيم.
وفي ردّ على مقتل أبي سيف سبيخان، قام التحالف الدولي بعملية إنزال جوي في بلدة الشحيل تمكن خلالها من اعتقال بعض الأشخاص الذين يُشتبه في مشاركتهم في تصفية العميل المزدوج، إن صح التعبير. ويدل استمرار التحالف الدولي في القيام بمثل هذه الانزالات، في أعقاب العمليات التي يقوم بها التنظيم، على مدى استعار الحرب الأمنية بين الطرفين.
ويتركّز نشاط “داعش” المستجدّ في مناطق سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، وذلك بخلاف المناطق الواقعة تحت سيطرة الجيش السوري التي تشهد بعض الاختراقات الأمنية، إلا أنها ليست بمستوى الاختراقات التي تتصاعد في مناطق “قسد” والتحالف الدولي.
ويولي تنظيم “داعش” أهمية خاصة لمناطق “قسد” لأسباب عدة أهمها؛ أنّه يعتبر الأخيرة ذراع الكفر العالمي التي يوازي قتالُها قتالَ الدول التي يُطلق عليها اصطلاحاً اسم “العدو البعيد”. والسبب الثاني والذي قد يكون أكثر أهمية، هو أن معظم معتقلي “داعش” من قيادات ومقاتلين وأسر موجودون في مناطق “قسد”. وقد وضع التنظيم مهمة إطلاق سراح هؤلاء في قائمة أولوياته.
غير أن ما سبق لا يكفي لتفسير تصاعد نشاط “داعش” الأمني في هذه المناطق أكثر من سواها، إذ لا بد من وجود أسباب موضوعية أخرى ساهمت في منح التنظيم هذا الهامش الواسع من الحركة الذي وصل إلى حد شن غزوات متناسقة ومنظمة. ويمكن التوقف عند سببين مهمين:
الأول، هو إستثمار “داعش” في خط الصدع بين قوات “قسد” من جهة والقوات التركية التي تحتل المنطقة بين رأس العين وتل أبيض من جهة ثانية. إذ لعبت العداوة وتناقض المصالح والمشاريع بين الطرفين دوراً في فتح بعض الأبواب المغلقة أمام مقاتلي التنظيم لتعزيز نشاطهم وتنسيق عملياتهم.
الثاني، وإن كان خفياً، إلا أنه ما زال يمثل التربة الخصبة الحقيقية التي من شأنها تفسير تنامي عمليات التنظيم في تلك المنطقة، ويتمثل في “الإدارة المشبوهة” التي مارسها وما زال يمارسها التحالف الدولي وقوات “قسد” لمعاركهما ضد تنظيم “داعش” والتعامل مع ملف معتقليه.
وكانت البداية مع الصفقة القذرة التي أُنهيت بها معركة الرقة من خلال التفاوض والسماح للآلاف من مقاتلي تنظيم “داعش” بالانتقال إلى دير الزور والحسكة، وهو ما كشفه فيلم وثائقي من إعداد محطة BBC في حينه.
وتكرر الأمر ذاته في معركة الباغوز التي إنتهت عسكرياً من دون معرفة مصير الآلاف من قيادات ومقاتلي التنظيم الذين كانوا يتواجدون في تلك البقعة. غير أن وصول أبي بكر البغدادي زعيم “داعش” السابق إلى محافظة إدلب حيث قتل لاحقاً، كشف جزءاً من المستور، وهو أن انتهاء المعركة، تم بعد الاتفاق مع التنظيم على إخلاء مقاتليه وقياداته والسماح لهم بالعبور إلى مناطق أخرى.
وقد ذكرت قناة “النذير العريان” المتخصصة بتسريب معلومات ووثائق عن تنظيم “داعش” أن نائب والي الباغوز وقيادات أخرى توصلت إلى مثل هذا الاتفاق مع قيادات “قسد”، حيث نص على السماح لهم بالعبور إلى محافظة إدلب.
كما أن أسلوب إدارة ملف المعتقلين والسجون من قبل قوات “قسد” يطرح الكثير من علامات الاستفهام حول طبيعته وخلفياته، خصوصاً في ظل حالات الإفراج المتكررة عن مجموعات من مقاتلي التنظيم السوريين والتي غالباً ما تحصل إما بشفاعة عشائرية أو برشاوى مالية كبيرة.
وثمة اعتقاد بأن قوات “قسد” من خلال هذه الممارسات تسعى إلى تحقيق هدف واحد هو استخدام خطر “داعش” لإقناع الولايات المتحدة بعدم سحب قواتها من سوريا، وهو الهاجس الذي بات يؤرق قيادة “قسد” منذ إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن قرار سحب قواته ثم تراجعه عنه لمرتين متتاليتين.
يدلّ ما سبق على أن قيادة التحالف الدولي وقوات “قسد” كانتا مهتمتين بإعلان النصر العسكري على “داعش” أكثر من اهتمامهما بتطهير مناطق سيطرتهما من تواجده بشكل كامل. ولعلّ هذا ما يفسر اكتظاظ مناطق سيطرتهما بالعديد من الخلايا النائمة التابعة للتنظيم.