حرّر الجيش السوري، في الساعات الأخيرة، كامل قوس حلب الممتدّ من الشمال الغربي إلى الجنوب الشرقي، موسّعاً بذلك طوق الأمان حول مدينة حلب التي أصبحت للمرة الأولى منذ تسع سنوات خالية من أي تواجد للمجموعات الإرهابية المسلحة.
ويعتبر هذا التطور بمثابة رجع الصدى لتحرير أحياء حلب الشرقية أواخر العام 2016 الذي ترتبت عليه في حينه تداعيات جيوسياسية بالغة الأهمية، تمثلت في قيام العديد من اللاعبين بإعادة التموضع وتغيير أسلوب التعاطي مع ملفات الأزمة السورية. ومن المتوقع أن تتعمق هذا التداعيات أكثر فأكثر مع نجاح الجيش السوري في تطهير آخر الجيوب التي كانت ملاصقة لمدينة حلب وممتدة في أريافها الشمالية والغربية.
ويأتي استكمال الجيش السوري لسيطرته على كامل الجغرافية الحلبية المحاذية لمحافظة إدلب، ليشكل صفعة مزدوجة للسياسة التركية. أولاً، بسبب انهيار الفصائل المسلحة واضطرارها إلى الانسحاب من مناطق شاسعة خشية وقوعها في براثن الحصار. وثانياً، لأن تقدم الجيش السوري جاء وسط تصاعد وتيرة التهديدات التركية من أعلى مستويات الحكم في أنقرة، وهو ما جعل صورة وهيبة القيادة التركية موضع تساؤل حتى في نظر أقرب حلفائها.
وفي هذا السياق، لم يخف المرصد السوري لحقوق الانسان المعارض شكوكه بخصوص وجود توافق روسي – تركي على تسليم كامل محيط حلب إلى النظام السوري، وهو ما كانت قد نصت عليه تفاهمات تركية روسية إيرانية. وكانت وردت معلومات عن انسحاب مفاجئ وشامل للفصائل المسلحة التابعة لـ “الجبهة الوطنية للتحرير” من مناطق ريف حلب الغربي من دون تنسيق مع “هيئة تحرير الشام”. وفيما سارعت الأخيرة – حسب مصدر إعلامي مقرب منها – إلى محاولة ملء الفراغ وسدّ الثغرات، إلا أن الجيش السوري كان أسرع منها وتمكن من إحكام قبضته على المنطقة “بسرعة قياسية” و”بكفاءة عالية” و”عمليات مدروسة ومحكمة”، كما جاء في بيان الجيش السوري.
وقد خرجت ورقة حلب من يد أنقرة قبل ساعات فقط من توجه وفد تركي إلى موسكو، اليوم (الاثنين)، من أجل استكمال المفاوضات بين الطرفين حول مصير إدلب. وتطالب أنقرة بوقف فوري ودائم لإطلاق النار فضلاً عن انسحاب الجيش السوري إلى ما وراء نقاط المراقبة التركية. وهدّد عدد من المسؤولين الأتراك، وعلى رأسهم الرئيس رجب طيب أردوغان، بإجبار الجيش السوري على الانسحاب ملوحين باستخدام جميع الوسائل بما فيها العسكرية.
ويبدو أن التطورات الميدانية قد تجاوزت مضمون وفحوى التهديدات التركية التي أصبح التمسك بها يمثّل نوعاً من الانفصال عن الواقع الميداني وتطوراته. لذلك من المفترض أن يواجه الوفد التركي صعوبة بالغة في الدفاع عن وجهة نظره لا سيما أنه خسر أوراق قوة كان بإمكانه التلويح بها على طاولة المفاوضات. وما سيزيد من صعوبة مهمة الوفد التركي أن موسكو مقتنعة تمام الاقتناع بضرورة التحركات العسكرية الأخيرة، وتنظر إليها على أنها تنفيذ متأخر لبنود اتفاق سوتشي الذي أخفقت أنقرة في الالتزام به طوال عام ونصف العام.
وفي تعزيز للموقف السوري في مواجهة التهديدات التركية، سارعت طهران إلى احتضان الانجازات العسكرية الأخيرة، وهو ما عبرت عنه تصريحات الرئيس الايراني حسن روحاني حول دعوة أنقرة إلى التقيّد بالاتفاقات العسكرية المبرمة واحترام السيادة السورية، وكذلك زيارة علي لايجارني رئيس مجلس الشورى الايراني إلى دمشق وتشديده على أهمية الانتصارات الأخيرة ضد الارهابيين” وأكد على “مواصلة دعم بلاده لسوريا في مساعيها للقضاء على الارهاب”.
بالنسبة لأنقرة، فإن أي تعاون مع فصيل ارهابي سيكون بمثابة ذريعة لموسكو من أجل رفع وتيرة انتقاداتها ضد أنقرة وربما اتخاذ إجراءات عقابية وهو ما بدأت بوادره عبر إعادة تسخين “حرب الطماطم”
وأمام هذا التأييد الروسي – الايراني لموقف دمشق وتحركاتها العسكرية، أخفقت أنقرة في تأمين مظلة إقليمية ودولية لتغطية تهديداتها المتصاعدة التي خرجت عن إطار المعقول بعد تهديد دولت بهتشلي زعيم “الحركة القومية” باقتحام العاصمة السورية دمشق. وجاءت مواقف واشنطن وحلف الناتو أقل بكثير مما كانت ترغب به تركيا. حيث اكتفى كلاهما بالشجب والتنديد من دون التلويح بأي إجراءات عملياتية مثل تفعيل البند الخامس (الدفاع المشترك) من معاهدة الحلف.
ووفقًا لمعاهدة حلف شمال الأطلسي التي تم التوقيع عليها في واشنطن في نيسان/أبريل 1949 والمعروفة بـ”معاهدة واشنطن” ينص البند الخامس على أن الاعتداء على أي دولة في الحلف يمثل اعتداءً على كل الدول الأعضاء ويوجب على الدول الأخرى مساعدتها في التصدي للهجمات؛ ويظل هذا الالتزام راسخًا وملزمًا ضمن اتفاقية للدفاع المشترك.
تضع هذه التطورات المتسارعة في الشمال السوري الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في وضع لا يُحسد عليه. فمن جهة أولى، ألزمته التهديدات التي أطلقها بسقف سياسي مرتفع لا يستطيع الفكاك منه. لأنه إذا التزم به سيضع علاقته مع روسيا على المحك (هو يحتاج للعلاقة مع روسيا أكثر مما هي بحاجة إليه). وإذا تنازل عن هذا السقف، ستكون لذلك تداعيات سياسية كبيرة في الداخل التركي.
ومن جهة ثانية، تزداد علاقة أنقرة بـ”هيئة تحرير الشام” وزعيمها أبي محمد الجولاني تعقيداً وغموضاً. وتدرك القيادة التركية أن وجود “الهيئة” أصبح يمثل ليس مجرد ذريعة لاستمرار عملية الجيش السوري، كما قال أردوغان في خطابه أمام كتلة العدالة والتنمية النيابية قبل أيام، بل يمثل أيضاً عقبة أمام السياسة التركية التي تشعر أن الأمور ستخرج عن سيطرتها بالكامل ما لم تتمكن من اتخاذ إجراءات سريعة لوقف التدهور الحاصل.
ومن نافلة القول أن أهم إجراء مطلوب اتخاذه من قبل القيادة التركية هو إيجاد حل نهائي لملف “هيئة تحرير الشام” والفصل بينها وبين “الفصائل المعتدلة”. والمعضلة التي تواجه الطرفان أن تعاونهما في هذه المرحلة أصبح من المحرمات التي يمكن أن تترتب عليها تداعيات لا يقدر أي منهما على تحملها. فبالنسبة لأنقرة فإن أي تعاون مع فصيل ارهابي سيكون بمثابة ذريعة لموسكو من أجل رفع وتيرة انتقاداتها ضد أنقرة وربما اتخاذ إجراءات عقابية وهو ما بدأت بوادره عبر إعادة تسخين “حرب الطماطم”.
أما بالنسبة للجولاني، فإن أي تعاون جديد مع الجيش التركي سيستثير ضده فتاوى الشرعيين والمقاتلين الأجانب من جماعته ومن جماعات أخرى مثل “حراس الدين” و”أنصار التوحيد” ممن يرون أن الجيش التركي “هو جيش مرتد ولا يجوز الاستعانة به”.
وربما هذا ما يفسر اللهجة الملتبسة التي تحدث بها أبو محمد الجولاني في ظهوره الإعلامي الأخير، حيث حاول التمييز بين القيادة التركية والشعب التركي، معتبراً أن الأخير معني بشكل مباشر بمعركة إدلب. ويأتي هذا التمييز على ما يبدو كمحاولة من الجولاني لإيجاد علة شرعية يستند إليها في حال اضطر في المستقبل القريب إلى إجراء تحول نوعي في علاقته مع أنقرة.
وبرغم الانشغال التركي بتقدم الجيش السوري، إلا أن خلوصي أكار وزير الدفاع التركي فاجئ الجميع يوم الخميس الماضي عندما هدد بضرب كل من يخرق وقف إطلاق النار بما فيها “الجماعات الراديكالية”، وذلك في إشارة واضحة إلى الجماعات الجهادية التي أعلنت مراراً عدم التزامها بأي هدنة، وعلى رأسها “هيئة تحرير الشام”.
وسادت منذ صباح اليوم (الاثنين) معلومات عن قيام أنقرة بممارسة ضغوط كبيرة جداً على قيادة “هيئة تحرير الشام” من أجل حلّ الفصيل ودمجه مع الفصائل الأخرى، وذلك لسحب أي ذريعة من يد دمشق وموسكو تبرر مواصلتهما العملية العسكرية في إدلب.
أنقرة إذاً، في سباق مع الزمن ومع تقدم الجيش السوري الذي قفز بسرعته فوق جميع التوقّعات. فهل ستنجح مساعي اللحظة الأخيرة التي تقوم بها تركيا في فرض وقف إطلاق نار ولو جزئي، أم أن التناقضات الداخلية والتخلّي الدولي فضلاً عن تعقيدات العلاقة مع “هيئة تحرير الشام” ستكون بالمرصاد؟.