بعد سنواتٍ من التّصنيفات والمعارك والتّحوّلات العميقة التي أصابت المشهد السّوريّ، جاء قرار مجلس الأمن رقم 2799، الصّادر في السادس من تشرين الثّاني/نوفمبر 2025، ليشكّل نقطة انعطافٍ حقيقيّةٍ في خريطة النّفوذ الإقليميّ.
بعد سنواتٍ من التّصنيفات والمعارك والتّحوّلات العميقة التي أصابت المشهد السّوريّ، جاء قرار مجلس الأمن رقم 2799، الصّادر في السادس من تشرين الثّاني/نوفمبر 2025، ليشكّل نقطة انعطافٍ حقيقيّةٍ في خريطة النّفوذ الإقليميّ.
يتحدّث مسؤولون في سوريا اليوم عن أنّ الدولة لن تستثمر في إعادة الإعمار، وضمناً إعادة الخدمات العامّة، بل سيتمّ جلب استثمارات خاصّة ربطاً بتجارب شهدتها مناطق معيّنة أثناء سني الصراع السوري. وقد شكّل رفع أسعار الكهرباء لهذا الهدف صدمةً اجتماعيّة في البلاد وأحدث نقاشاً محتدِماً، برغم فقدان هذه الخدمات في أغلب المناطق والحاجّة الماسّة إليها، ما يتطلّب مراجعة جديّة لما تعنيه هكذا "سياسات عامّة".
مع انهيار نظام بشار الأسد، دخلت سوريا في مرحلة جديدة من التحول السياسي وإعادة التموضع الإقليمي؛ مرحلةٌ هي نتاج موازين القوى التي نشأت غداة السابع من أكتوبر/تشرين الأول، على الصعيد الإقليمي، التاريخ الذي مثّل نقطة انعطاف إقليمية كبرى وفتح الباب أمام تحولات استراتيجية لا مثيل لها منذ أكثر من ستة عقود من الزمن.
لطالما كانت الدبلوماسية الأميركية نموذجًا عالميًا مؤسساتيًا، حيث يُنظر إلى المندوبين والسفراء على أنهم خبراء في السياسة الدولية، مطلعون على التاريخ والجغرافيا، وقادرون على قراءة التحولات الدقيقة في بيئات سياسية معقدة. من بنجامين فرنكلين إلى هنري كيسنجر، عقل السياسة الأميركية الاستراتيجي، إلى فيليب حبيب، خبير الشرق الأوسط، امتلك هؤلاء الدبلوماسيون مؤهلات نادرة جمعت بين المعرفة النظرية والخبرة الميدانية.
لطالما كانت حرب تشرين/أكتوبر 1973 الركيزة الأساسية في السردية البعثية الرسمية، إذ حوّل النظام السوري السابق الانتصار العسكري إلى أسطورة سياسية، استثمرها لتبرير هيمنته وشرعنة قمعه الداخلي تحت شعارات الوحدة والحرية والإشتراكية. وقد تجسّدت هذه السيطرة الرمزية على الذاكرة في صرح ضخم هو "بانوراما تشرين"، الذي لم يكن مجرد متحف، بل إعلانًا سياسيًا صامتًا، أرادت به السلطة أن تُخلّد نفسها وتجبر الزائر على الاستسلام لرواية النصر المطلق والقيادة الخالدة.
التّصريحات السّياسيّة في القاعات المكيّفة شيءٌ، وحقائق التّاريخ بين دمشق وبيروت شيءٌ آخر. ذلك الإرث الثّقيل من التّداخل والتّبعيّة الذي استمرّ حوالي ثلث قرنٍ (1976 – 2005)، لم يكن مجرّد وجودٍ عسكريٍّ سوريٍّ على الأرض اللبنانيّة فقط، بل كان مشروعاً سياسيّاً متكاملاً لإعادة صياغة الهويّة اللّبنانية وفق الرّؤية السّورية. خلال تلك العقود تحوّل لبنان إلى ساحةٍ خلفيّةٍ للصّراع الإقليميّ، وورقةً تفاوضيّةً بيد النّظام السّوري، والأخطر من ذلك أن جيلاً كاملاً من السّياسيّين اللّبنانيّين ترعرع على ثقافة "التّبعيّة المدروسة"!
لم يكن تدخل الرئيس الأميركي دونالد ترامب على خط وقف العدوان "الإسرائيلي" ضد غزة فقط لانقاذ حليفه بنيامين نتنياهو من شر أعماله، بل نتاج قناعة بأن مشروع "محور المقاومة" في المنطقة قد تضرّر كثيراً ويحتاج إلى سنوات طويلة لترميم وضعه، وهذا كاف بالنسبة إلى ترامب في ظل صراعه المفتوح مع الصين.
منذ اندلاع الانتفاضة السورية عام 2011، تحوّلت سوريا إلى مختبر حيّ لتفكك الدولة وتشظيها، حيث تقاطعت فيها الصراعات المحلية مع الطموحات الإقليمية والتدخلات الدولية. سقوط نظام بشار الأسد بعد أكثر من عقد من الحرب الأهلية لم يمثل نهاية الأزمة، بل بدا بمثابة بوابة لمرحلة جديدة أكثر تعقيدًا، فتح خلالها الفراغ السياسي والأمني المجال أمام صعود نظام بديل بقيادة أحمد الشرع، القيادي السابق في جبهة النصرة.
في النقاش الدائر اليوم حول مسألة التفاوض بين لبنان وإسرائيل ومن خلال متابعة طريقة مقاربة وإدارة هذا الملف من قبل الأحزاب والقيادات السياسية في لبنان، أستعيد المحاضر وجلسات الحوار الطويلة التي قرأت عنها وعملت عليها خلال تحضيري لأطروحة الدكتوراه منذ سنوات عدة، والتي كانت تتناول مؤتمرات الحوار في الفترة الممتدة بين العامين ١٩٧٥ و١٩٨٩ عند توقيع اتفاق الطائف.
بعد إزالة خطر تنظيم (داعش) عن سوريا في العام 2017 وفق معادلات خاضها الجيش السوري وحلفاء دمشق وبينهم روسيا التي وفّرت غطاءً جوياً لا مثيل له، راح بشار الأسد يستغرق في رسم خارطة طريق جديدة تضمن له البقاء في السلطة، لا سيما بعد تلقيه إشارات ترحيب من جهات خارجية بينها السعودية والإمارات التي أعادت فتح سفارتها في العام التالي، وتبعتها بعد ثلاث سنوات، زيارة لوزير خارجيتها عبد الله بن زايد إلى سوريا، ومن ثم توّج التقارب بين البلدين، في العام التالي، بزيارة للرئيس الأسد إلى دولة الإمارات العربية في آذار/مارس 2022.