

كنتُ جالساً في بهو فندق “أزادي” في طهران أحتسي فنجاناً من الشاي ظهر يوم من أيام الربيع في العام 2005 عندما دخل فجأة رئيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية في ذلك الحين محمد البرادعي مع عدد من مساعديه إلى الفندق، وكانت زيارته إلى طهران واحدة من أولى زياراته التفاوضية بشأن البرنامج النووي الإيراني الذي كشف وجوده أحد العلماء الباكستانيين.
حينها كنتُ متوجداً في طهران بصفتي مراسلاً لإحدى محطات التلفزة ومكلفاً بمتابعة هذا الموضوع. تفاجأت باقتراب أحد أقرب مساعدي البرادعي مني ليُصافحني بحرارة، وهو مواطن من إحدى دول المعسكر الإشتراكي الذي انهار في مطلع العقد الأخير من القرن الماضي. كانت قد جمعتني بهذا المساعد علاقة عمل استمرت لثلاث سنوات في منتصف الثمانينيات. بعد السلام والكلام، توجهتُ إليه بالسؤال كيف يرى الاتجاه لمعالجة هذا الموضوع الشائك، فقال لي باختصار هناك فقط حلّان لا ثالث لهما؛ إما التوصل إلى اتفاق يراعي المصالح الإيرانية في استخدام الطاقة النووية لأهداف سلمية وإما أن تُقصف إيران بالسلاح النووي لاجبارها على الخضوع كما حصل مع اليابان إبّان الحرب العالمية الثانية.
بعد عشرين عاماً على تلك الواقعة ومع دخول العدوان “الإسرائيلي” على إيران أسبوعه الثاني، استذكرت كلام ذلك الصديق لا سيما في ضوء ما أظهرته مجريات المواجهة المستمرة من أن قدرة “إسرائيل” على تدمير البرنامج النووي الإيراني قد تبلغ الحائط المسدود. ومع بقاء الولايات المتحدة الأميركية على موقفها المتريث هجومياً والمكتفي بالدفاع عن أمن “إسرائيل”، يجد الكيان العبري نفسه وللمرة الأولى منذ نشوئه عام 1948 يواجه حرباً تطال نيرانها قلب عاصمته بالاضافة إلى مدن ومراكز ومنشآت حيوية فيه ما أدى إلى تعطل الدورة الاقتصادية بالكامل وتحول حياة المستوطنين إلى شبه جحيم.
لقد كان طموح نتنياهو منذ العام 2008 أن تسمح له واشنطن بتوجيه ضربة عسكرية للبرنامج النووي الإيراني، وقد حاول فعل ذلك من خلف ظهر الإدارة الأميركية في عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما عندما فضحه رئيس جهاز “الموساد” حينها مائير داغان الذي يعتبر أهم شخصية “إسرائيلية” تولت رئاسة الجهاز منذ انشاء الكيان، وقد استمر في موقعه لمدة ثماني سنوات، اذ بحسب ما نقل عنه الصحافي الاستقصائي “الإسرائيلي” رونين بيرغمان في كتابه “انهض واقتل اولاً، العمليات السرية للاستخبارات الإسرائيلية” أن نتنياهو طلب من قادة الأجهزة الأمنية والعسكرية اعداد خطة لضرب إيران بلغت كلفتها نحو ملياري دولار، ولكن داغان شرح لنتنياهو أن ضربة عسكرية للبرنامج النووي الإيراني لن تكون مضمونة النتائج وأقصى ما يُمكن أن تُحقّقه هو أن تؤخره لبضعة أشهر فيما “إسرائيل” لا تستطيع تحمل تداعيات هذه الضربة، واقترح عليه بديلاً لها أن يُصار إلى العمل على أمرين: اغتيال العلماء النوويين الإيرانيين وتخريب المعدات التي تستوردها إيران لتثبيت برنامجها النووي، ولكن حين أصر نتنياهو على الضربة ما كان من داغان إلا أن سرّب معلومات عن خطة نتنياهو إلى الاستخبارات الأميركية فاتصل الرئيس أوباما حينها به ولجمه وحذّره من أن يبقى وحيدا في مواجهة إيران. فتراجع نتنياهو ولجأ إلى الخيار الذي قدّمه له داغان.
اليوم، وبعد ان تمكنت “إسرائيل” من اضعاف حلفاء إيران في كل من فلسطين المحتلة ولبنان والعراق واسقاط حليفها الاستراتيجي الأكبر في الشرق الاوسط، نظام بشار الأسد في سوريا، وجد نتنياهو أن الفرصة باتت سانحة للعودة إلى خطته الأولى بضرب إيران “، رأس الأفعى” (أو رأس الأخطبوط) كما يصفها، ووجد كل آذان صاغية عند دونالد ترامب، فأعطاه الأخير الضوء الأخضر للحرب ضد البرنامج النووي الإيراني؛ فإن نجح تقاسما “الإنجاز” وإن فشل يكون أمام أحد احتمالين: إما يتحمل نتنياهو منفردا عواقب فشله أو يُبادر الأميركي إلى التدخل.
خلال الأسبوع الأول من الحرب، تبين أن قدرة “إسرائيل” على تدمير البرنامج النووي الإيراني بشكل كامل ولا سيما مجمع فوردو صعبة للغاية. وبرغم التصريحات المتناقضة التي أطلقها ترامب فإن الاجتماع الأخير لمجلس الأمن القومي، يوم الثلاثاء الماضي، لم يحسم مسألة انتقال الولايات المتحدة من الدفاع عن “إسرائيل” إلى مشاركتها الهجوم. فحسابات الدولة الأميركية العميقة، أبعد بكثير وأكثر تعقيداً من حسابات نتنياهو، فدخول واشنطن الحرب على إيران له محاذير اقليمية ودولية عديدة ولا سيما ما يتصل بموقفي روسيا والصين وتأثيره الكبير على الإقتصاد العالمي.
من يحاول فهم العقل السياسي الإيراني، يُدرك أنه بعد وقوع محظور الحرب بكل تداعياتها، من الصعب أن يوافق الخامنئي على “تجرع كأس السم” لأن فيه هذه المرة مساساً بالسيادة الإيرانية، ولن يُغيّر موقفه ولو لجأت “إسرائيل” إلى السلاح النووي. فإيران البالغ عدد سكانها أكثر من 85 مليون نسمة “لن ترهبها قنبلة نووية تقتل عشرات الآلاف طالما أن هؤلاء سيكونون شهداء من أجل السيادة والكرامة الوطنيتين”، كما يقول أحد الأصدقاء في طهران
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن روسيا في ديسمبر/كانون الأول الماضي تركت حليفها الأسد يسقط في سوريا البعيدة جداً عن حدودها، كما أنها في حالة حرب محمومة في أوكرانيا منذ ثلاث سنوات ونيف، لكن الأمر مع إيران يبدو مختلفاً عنه في سوريا. فإيران تشكل الحديقة الخلفية لروسيا وهي على حدودها تماماً ومن شأن سقوط نظام حليف لها في إيران أن يترك تداعيات استراتيجية خطيرة على الأمن القومي الروسي، لذلك وإن كان الموقف الروسي حتى الآن دون طموح الحليفة إيران لكنه بعث برسائل واضحة بأن روسيا ترى ضرورة انهاء الحرب والعودة إلى طاولة المفاوضات. غير أن دخول واشنطن على خط الهجوم سيضع روسيا أمام معادلة صعبة؛ فإن تركت الإيراني يسقط تنطبق عليها قاعدة “أكلت يوم أكل الثور الأبيض”، أو ستجد نفسها مضطرة لدعم إيران منعاً لانهيار النظام وبالتالي سقوط هذه الدولة الجارة في الفلك الأميركي المعادي لها.
أما الصين، وإن كانت أدانت الاعتداء “الإسرائيلي” على إيران، لكنها لم تترجم هذا الموقف بدعم عسكري معلن لها، فقد تحدثت وسائل اعلام غربية عدة عن وصول طائرات نقل صينية عملاقة إلى طهران خلال الأيام القليلة المنصرمة، وبحسب هذه الوسائل فإن هذه الطائرات الصينية كانت تغادر باتجاه لوكسمبورغ لتختفي عن الرادار ما أن تجتاز الأجواء الكازاخستانية. وهنا أيضاً بالامكان القول إن سقوط إيران من شأنه أن يُضعف الصين في مواجهتها الاستراتيجية مع أميركا.
وثمة من يُردّد أن إيران “تملك ورقة ثمينة جداً إذا قرّرت أميركا الانتقال من الدفاع عن إسرائيل إلى الهجوم وهي ورقة إقفال مضيقي هرمز وباب المندب، وعملية الإغلاق هذه ليست بالأمر الصعب، ويمكن أن تتم إما بنشر الألغام أو باغراق سفينة كبيرة الحجم أو سفن صغيرة في كل منهما. ومن شأن عملية الاغلاق هذه أن ترفع أسعار النفط والغاز في العالم إلى أرقام فلكية تؤدي إلى حالة فوضى عارمة في الأسواق العالمية ووصولاً إلى انهيار بعض الاقتصادات العالمية”.
ولا يمكن تجاهل موقف دولة باكستان التي أعلنت صراحة وقوفها إلى جانب إيران، وهي التي تشترك مع جارتها في حدود بطول يزيد عن 900 كيلومتر عبر مقاطعة بلوشستان الجنوبية الغربية؛ وعلى الرغم من تواضع امكانيات باكستان فإنها دولة تملك سلاحاً نووياً، لذلك سارع ترامب إلى استدعاء رئيس أركان الجيش الباكستاني اللواء عاصم منير إلى اجتماع عُقد في البيت الأبيض، بقيت نتيجته غامضة، حيث قال بيان لرئاسة الأركان الباكستانية إنه “جرى تبادل شامل للآراء حول التوترات الحالية بين إيران وإسرائيل، وأكد الجانبان على أهمية حل الصراع”.
وتعتبر باكستان أن سقوط النظام في إيران وتدمير البرنامج النووي الإيراني سيجعلها هي الهدف التالي “إسرائيلياً”، لا سيما وأن نتنياهو جاهر بذلك عندما اعتبر أن القنبلة النووية الباكستانية تُشكّل خطراً وجودياً على “إسرائيل”. زدْ على ذلك أن باكستان ستجد نفسها جيوسياسياً أسيرة معادلة حدودية تُهدّد أمنها القومي بين الهند ونظام إيراني جديد حليف لـ”إسرائيل”.
في ظل هذه التعقيدات والتشابكات، يُدرك نتنياهو أن فشله في هذه الحرب سيكون مكلفاً لـ”إسرائيل” ولمستقبله السياسي الشخصي ومستقبل حكومته الصهيونية الفاشية. لذلك فإن الورقة الأخيرة التي قد يلجأ إلى استخدامها هي ما أسماه الرئيس “الإسرائيلي” السابق شيمون بيريز “خيار شمشوم”، أي استخدام السلاح النووي ضد إيران، وهنا فإن “إسرائيل” لا تستطيع أن تلجأ إلى هذا الخيار من دون موافقة أميركا وتأييدها لأن الأخيرة ستكون مُطالبة بتأمين الغطاء الدبلوماسي الدولي له. لذلك فان نتنياهو سيحاول ابتزاز واشنطن ووضعها أمام خيار من إثنين: إما الموافقة على دخول الحرب إلى جانبه ضد إيران وإما اللجوء إلى “خيار شمشوم” مع أو من دون الموافقة الأميركية.
أما ترامب، رجل الصفقات وكل ما هو غير متوقع، وبرغم الإشارات التي يُرسلها بشأن احتمال انخراط بلاده في الحرب، فإنه سيُحاول وضع إيران أمام أحد خيارين؛ إما تعرضها لضربة نووية “إسرائيلية” أو الموافقة على وقف لاطلاق النار وفق الشروط الأميركية “الإسرائيلية”، أي الغاء البرنامج النووي وفق “النموذج الليبي”، أي أن تتبع معادلة المرشد الإيراني الراحل آية الله الخميني بوصفه القبول بوقف اطلاق النار مع العراق عام 1988 “كأني أتجرع كأس السم”، علماً أن وقف النار حينها لم يمس بالسيادة الإيرانية على أراضيها.
ومن يحاول فهم العقل السياسي الإيراني، يُدرك أنه بعد وقوع محظور الحرب بكل تداعياتها، من الصعب أن يوافق المرشد آية الله علي الخامنئي على “تجرع كأس السم” لأن فيه هذه المرة مساساً بالسيادة الإيرانية، ولن يُغيّر موقفه ولو لجأت “إسرائيل” إلى السلاح النووي. فإيران البالغ عدد سكانها أكثر من 85 مليون نسمة “لن ترهبها قنبلة نووية تقتل عشرات الآلاف طالما أن هؤلاء سيكونون شهداء من أجل السيادة والكرامة الوطنيتين”، كما يقول أحد الأصدقاء في طهران.
وكما هو معروف فقد تقدّمت إيران خلال الجولة الخامسة والأخيرة من مفاوضاتها مع أميركا بشأن برنامجها النووي باقتراح الابقاء على تخصيب اليورانيوم على أراضيها بنسبة 3.67%، وهي نسبة تشير إلى سلمية البرنامج النووي الإيراني ولا يمكن استخدامها إلا لأهداف مدنية.
بين التفوق الجوي “الإسرائيلي” من جهة والتفوق الصاروخي الإيراني من جهة ثانية، نحن أمام حرب استنزاف حقيقية. لذا، باتت الكرة في ملعب ترامب قبل انتشار الغبار النووي في الشرق الأوسط وتمدده إلى مناطق أخرى من العالم.