صورة منذ طفولتي لم تغادر مخيلتي. درست بين ما درست بعض مناهج قراءة المستقبل، وتابعت مع زملاء وأصدقاء جانباً من الدراسات النظرية والواقعية حول هذا الموضوع ومع ذلك بقيت الصورة لا تغادرني.
صورة منذ طفولتي لم تغادر مخيلتي. درست بين ما درست بعض مناهج قراءة المستقبل، وتابعت مع زملاء وأصدقاء جانباً من الدراسات النظرية والواقعية حول هذا الموضوع ومع ذلك بقيت الصورة لا تغادرني.
برغم محاولة "إسرائيل" نفي صفة العنصرية والأبارتهايد عنها، ورغم أن وثيقة الاستقلال التي تلاها بن غوريون يوم إعلان قيام الدولة الإسرائيلية تقرّ مبدأ المساواة وترفض أي تمييز على أساس الدين، أو القومية، أو الجنس، أو العرق، إلا أن "إسرائيل" قامت كي تكون دولة لليهود دون غيرهم.
عدو اليهود المزمِن اللدود والتاريخي، ليس الإسلام ولا مسيحية الشرق، بل هو المسيحية الأوروبية التي أذاقتهم الأمرّين على يد ملوك أوروبا وأمرائها وكنائسها، وعلى مدى مئات السنين.
..إذا صارت كبرى وسمح التاريخ بذلك، فالتاريخ يقف اليوم عند المفارقة الكبرى: الصراع بين الاحتلال ومقاومة لا يتوقف، والنصر في هذا الصراع كان على مرّ التاريخ حليف المقاومة، في معظم الأحيان.
أظن، وبعض الظن في أيامنا الراهنة اجتهاد مستحق وضروري، أظن أن التاريخ، حسب ما وصل منه إلينا وحسب بعض منه نعيشه بأشخاصنا أو بأوهامنا وأحلامنا، ربما لم يشهد أو يعايش بيئة متدهورة محيطة بمواقع صنع السياسات بالشرق الأوسط كالبيئة الراهنة.
عشتُ معظم سنين عمري المديد أتعامل مع مفاهيم في السياسة وبخاصة الخارجية منها، لأكتشف الآن، أنها، جميعها أو أغلبها، خانت عهودها فتغيّرت، أو لعلها بقيت على حالها فتجمدت، بينما كنا، نحن الفاعلين الدوليين، أفراداً ودولاً ومؤسسات وجمعيات، نتغير أو في واقع الحال كنا بالفعل قد تغيرنا.
لكل إبادة تمرحليّة خاصة بها، لا بد أن نتيقن لذلك كما يتيقن الغزيّون وهم يحدّقون في إنزالات المساعدات، أن الأمر بإعدامهم قد أُبرم إبراماً لا رجعة فيه، تحت لهيب شمس الأبيض المتوسّط المحتل.
جاع أبناء شعبي. بعضهم جاع حدّ النسيان. يَصلون إلى المشافي المتهالكة يشكون من احساس بالتيه – وهنٌ يخشون أنه يمس ذاكرتهم. يذهبون بما تبقى فيهم من حولٍ وقوّة لينقذوا ذاكرتَهم! أما نحن ها هنا ففي تيهِنا ممعنين، نُلهي الذاكرة بما يخفف عنا وطأة ضلوعنا في هذه المذبحة.
ثمة ما يُحضَّر في الخفاء. جيوش الإعلام والثقافة وصناعة الوعي تحتشد على الجبهة المعادية. الغاية: إعادة إعمار الكيان بعد ارتكابه جريمة الإبادة الجماعية. إعمارٌ ليس على مستوى البنيان، بل على مستوى الصورة. إعادة تأهيل صورة "إسرائيل" حتى تعود كما كانت؛ قاعدة متقدمة لحماية المصالح الجيوسياسية الغربية في المنطقة. بعد أكبر جريمة عرفها التاريخ، يُصبح السؤال: هل أصبحت الإبادة ممكنة في أي وقت وأي مكان، تُشرّعها مؤسسات ونظم وأيديولوجيات تحكم العالم وتتحكم بمصائر الشعوب؟
ذهب المحللون بعيداً في تحليلاتهم حول الانقلاب المفاجئ في الموقف الأوروبي، من لغة مُطبّعة مع فعل العقاب الجماعي، إلى لغة تدين الـ"تمادي" الإسرائيليّ وتبدي قلقاً ازاء مصير الجمع البشري المجوّع في قطاع غزة. يتفاعل الخطاب العام مع هذا التحوّل، تارة بإدانة تأخّره وتارة أخرى بالتصفيق له ودعوة الانظمة العربية أو كما يحب الكثيرون وصفهم بـ"الحكام العرب"، إلى استثمار هذا التغيير من أجل تخفيف بعض من المأسي التي يعيشها الفلسطينيون في ظل المقتلة المستمرة بحق وجودهم ببعديه المادي والوجداني. وبين هذا وذاك يبقى لسان حال الكتابات الصحفية والأكاديمية على حد سواء هو البحث عن معضلة "الحل العادل للقضية الفلسطينية"، بعيداً عن أي تحليل ماديّ أو أيديولوجي لراهنية البنية الفلسطينية من جهة والإسرائيلية من جهةٍ أُخرى.