في كل اللقاءات التي أعقبت سقوط حكومة حسان دياب، قدّم رئيس مجلس النواب نبيه بري رؤيته بلا لف أو دوران. لا بد من الإتيان بحكومة تحدث الصدمة السياسية المطلوبة، دولياً ومحلياً، وتحديداً لجهة الإلتزام بالإصلاحات التي ستكون وحدها كفيلة بتوفير دعم مالي دولي للبنان. طَرَحَ إسم سعد الحريري من هذه الزاوية تحديداً. زدْ على ذلك، إصرار بري على أن الشارع السني في لبنان يحتاج في هذه المرحلة إلى من يعيد إليه توازنه المفقود، لا سيما في ضوء الإنكفاء السعودي الكامل عن الساحة اللبنانية.
لم يجد بري إستعصاء في تسويق طرحه دولياً. في الأصل، لم يطرح الأميركيون أية أسماء خلال زيارة مساعد وزير الخارجية للشؤون السياسية السفير ديفيد هيل. هم طرحوا مواصفات للحكومة ورئيسها، تنطبق إلى حد كبير، على الحريري، لكن بشرط عدم الإتيان بأية تركيبة حكومية تشبه الوزارات التي ترأسها سابقاً ولا الشروط التي أتى على أساسها إلى رئاسة الحكومة، وهنا المقصود تحديداً التفاهم الرئاسي الذي وفر الفرصة الرئاسية لميشال عون والفرصة الحكومية للحريري في العام 2016.
أما الفرنسيون، فقد كانوا وما يزالون مرتبكين إلى حد كبير. أعطوا إشارة إلى الشيء ونقيضه، قبل أن يفضي إرتباكهم إلى تبني خيارات لم يبد الأميركيون حماسة لها لسبب بسيط: عدم واقعيتها. وهنا المقصود خيار نواف سلام.
هذا التداخل بين المحلي والدولي يقدم دليلاً على أن من سيكلف برئاسة الحكومة الجديدة، لن يكون عنوان تفاهم محلي وحسب، بل سيخضع الإسم إلى تدقيق سياسي خارجي، وتحديداً من قبل الأميركيين والفرنسيين، فيما ترك الإيرانيون للقوى الحليفة في لبنان، وتحديداً لحزب الله، حق الموافقة أو “الفيتو”.
النقطة الثانية تتصل أيضا بالتشكيلة الحكومية نفسها، ولو أنها ما زالت بعيدة المنال، فقد تقاطع الأميركيون والفرنسيون عند الصيغة التي تحظى بأوسع تأييد شعبي، ما يعني أنهم لا يمانعون تشكيل حكومة سياسية وتكنوقراطية في آن معاً، أي تتمثل فيها القوى الوازنة بوزراء سياسيين من دون حقائب أساسية، على أن تكون مطعمة بوجوه جديدة، يمثل بعضها الحراك. كما أن الفرنسيين تحديداً كانوا أكثر وضوحاً بإشتراطهم أن يكون لهم وللأميركيين حق الشراكة (أو الفيتو) في ما يخص تسمية عدد من الوزراء، وتحديداً في حقائب الكهرباء والمالية والإتصالات والأشغال، أي الوزارات الخدماتية الأساسية.
وفيما تواصل كل من باريس ممثلة بإيمانويل بون وواشنطن ممثلة بديفيد هيل مشاوراتهما الدولية، على خط الوضع اللبناني، تحركت في الساعات الثماني والأربعين الماضية، عجلة الإتصالات المحلية، ولا سيما في ضوء الزيارة التي قام بها بري إلى القصر الجمهوري وإجتماعه بالرئيس اللبناني ميشال عون، وإبلاغه صراحة موقفاً يعبّر إلى حد كبير عن موقف “الثنائي الشيعي” (حزب الله وحركة أمل) بأولوية تسمية الحريري رئيساً للحكومة.
بطبيعة الحال، بدا عون متحفظاً على الإسم وأقر بالإختلاف مع رؤية “الثنائي”، لكنه كان متهيباً اللحظة السياسية الصعبة. وعلى جاري عادته، طلب من رئيس المجلس أن يجتمع بجبران باسيل، الذي وصل إلى القصر الجمهوري “فجأة”، وشارك في الدقائق الأخيرة من الإجتماع الرئاسي، حيث تم الإتفاق على عقد إجتماع ثلاثي في عين التينة اليوم (الجمعة) شارك فيه إلى جانب بري وباسيل، المعاون السياسي للأمين العام لحزب الله حسين الخليل والمعاون السياسي لرئيس المجلس علي حسن خليل. ماذا دار في هذا الإجتماع؟
أولاً، للمرة الأولى منذ سنوات طويلة، يجري الحديث عن ورقة عمل حكومية، قبل التكليف والتأليف. هذه الورقة تنطلق بمعظم أفكارها من “الورقة الفرنسية” وهي تتناول أربع قضايا أساسية:
1-إنفجار مرفأ بيروت: تسريع التحقيق بإشراف ومساعدة دوليين، إعادة إعمار المرفأ والأحياء المهدمة، وفق آليات يريد من خلالها الفرنسيون ضمان فوز إحدى شركاتهم بإستثمار مرفأ بيروت، وكذلك ضمان وصول المساعدات إلى المتضررين، من خلال رقابة دولية (مؤسسات الأمم المتحدة في بيروت).
2-الإصلاحات: الإلتزام برزمة إصلاحات تشمل قطاع الكهرباء بما في ذلك تعيين الهيئة الناظمة للقطاع من دون تعديل القانون 462 الخاص بتنظيم قطاع الكهرباء؛ إجراء تدقيق مالي تشريحي أو جنائي (forensic Audit) يشمل حسابات الدولة اللبنانية ومن ضمنها حسابات مصرف لبنان؛ إطلاق آلية شفافة وصريحة للمناقصات العامة بعيداً عن التدخلات السياسية؛ إقرار سلسلة قوانين إصلاحية في مجلس النواب بينها تشكيل الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، قانون إستقلالية القضاء اللبناني؛ قانون الكابيتال كونترول؛ إستكمال المفاوضات مع صندوق النقد وفق آلية جديدة.
3- جائحة كورونا: مواجهة إنتشار كوفيدـ19 عبر تقديم مساعدات عاجلة للحكومة اللبنانية، بعضها بات متوافراً منذ وصول المساعدات الدولية والعربية الخاصة بإغاثة وعلاج المتضررين من إنفجار مرفأ بيروت (المستفيات الميدانية).
4-إجراء إنتخابات نيابية مبكرة في العام 2021، وهذه نقطة خلافية مع الأميركيين والفرنسيين الذين يصرون على تقديم تنازل ما قادر على إستيعاب الحراك الشعبي في ضوء الإنهيار الإقتصادي والمالي وردود الفعل الشعبية على إنفجار مرفأ بيروت.
وبإستثناء النقطة الأخيرة التي يجمع حزب الله وحركة أمل والتيار الوطني الحر على رفضها مقابل حماسة شديدة للفكرة من قوى 14 آذار/مارس (تحديدا القوات اللبنانية)، لا خلاف على باقي النقاط، ولو أن بعض الجهات اللبنانية تردد أنه من غير الجائز السماح لأية جهة خارجية بأن تقرر نيابة عن اللبنانيين من يكون مقبولاً ومن يكون مرفوضاً من الوزراء، وهنا المقصود عدم القبول بـ”الفيتو” الفرنسي على عودة وزارة الطاقة إلى التيار الوطني الحر.
ثانياً، هوية الشخصية التي ستُكلف بتأليف الحكومة الجديدة: هنا بيت القصيد لا بل هنا المهمة الأصعب حتى الآن. بالنسبة إلى جبران باسيل، إتخذت المسألة طابعاً شخصياً. يُدرك أن عودته إلى أية حكومة جديدة باتت صعبة للغاية، بفعل المناخ الشعبي من جهة والمناخ الدولي من جهة ثانية. قال للحلقة الضيقة من حوله إنه شخصياً لا يرغب بالوزارة لكن المسألة أصبحت نوعاً من التحدي. “هم يريدون إيهام الناس بأننا مسؤولون عن فساد عمره أكثر من أربعين سنة. يريدون إبعادنا عن الحكومة في عهد ميشال عون. سعد الحريري قالها بالفم الملآن يا أنا أو جبران. إذا تشكلت أية حكومة جديدة، سيكون ذلك بمثابة إنتصار للحريري وهزيمة سياسية وشخصية لي. لذلك، لن نقبل بعودة الحريري”.
هذا المنطق تكرر إلى حد كبير في الإجتماع الثلاثي اليوم (الجمعة). قال باسيل “لتتشكل حكومة برئاسة الحريري. نحن لن نشارك فيها كتيار وطني حر”. في المشاورات التي سبقت لقاء عين التينة، حاول باسيل تقديم طروحات معينة هدفها بالدرجة الأولى إبتزاز الحلفاء. طرح فكرة حكومة الأقطاب، لكنها سرعان ما سقطت لإعتبارات دولية أولاً. طرح حكومة تكنوقراط شبيهة بحكومة حسان دياب، على أن تترأسها شخصية نظيفة الكف (طرح فكرة تكليف أحد القضاة أو الضباط أو الموظفين المتقاعدين)، لكن كان هناك رفض لأية محاولة لإعادة إستنساخ تجربة حكومة حسان دياب الفاشلة التي لم تفلح في خرق جدار الحصار الدولي على لبنان. قال باسيل لبعض مراجعيه إنه لا يمانع تكليف نواف سلام. الأساس هو عدم عودة الحريري، لكنه إصطدم بفيتو فولاذي من “الثنائي” يرفض مجرد البحث بإسم نواف سلام أو أية شخصية بالمواصفات السياسية نفسها.
عملياً، يحور جبران باسيل ويدور حول النقطة نفسها. إما تتجدد التسوية ويعود هو والحريري معاً إلى الحكومة أو يكونان معاً خارج أية حكومة جديدة. في هذا الموقف، بمعزل عن الصح أو الغلط، إنكار حقيقي لواقع الشارع اللبناني، ولا سيما المسيحي، غداة إنفجار مرفأ بيروت وما أصابه من ضرر.
من المخارج التي يطرحها جبران باسيل أن يسمي الحريري أحداً غيره لرئاسة الحكومة، كما حصل بعد إستقالته، في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، غير أن رئيس تيار المستقبل أبلغ رئيس المجلس، كما رؤساء الحكومات السابقين، أنه لن يسمي أحداً لرئاسة الحكومة، ولن يكرر “المسلسل الفاشل” نفسه. هل يمكن التعويل على أسماء مثل تمام سلام أو نجيب ميقاتي لرئاسة الحكومة؟
يرفض ميقاتي أصل البحث معه، ويقول إن مرشحه لرئاسة الحكومة هو الحريري، رافضاً مصادرة دور المجلس النيابي عبر عدم تحديد موعد للإستشارات النيابية لتسمية رئيس الحكومة، فيما يقول تمام سلام إنه لن يقبل برئاسة الحكومة ليس في حكومة يكون جبران باسيل وزيراً فيها بل في أية حكومة في ظل عهد ميشال عون وأنه يفضل إعتزال السياسة على قبول مهمة إنتحارية من هذا النوع.
حتى الآن، تبدو الأبواب مقفلة بشدة، ليس أمام تشكيل حكومة جديدة، بل حتى أمام تحديد موعد للإستشارات النيابية الملزمة لتكليف رئيس الحكومة، ما يعني أن زمن تصريف الأعمال مفتوح على مصراعيه، إلا إذا برزت عناصر خارجية من شأنها تعديل المسارات المحلية، أو برزت عناصر محلية ضاغطة، وتحديداً مالية، كتلك التي أعلنها حاكم مصرف لبنان المركزي عندما ألمح إلى عدم قدرة الحكومة على المضي في تغطية الدعم بالعملات الصعبة للعديد من القطاعات الأساسية مثل المحروقات والأدوية وسلة المواد الغذائية الأساسية، خصوصاً بعدما إقترب إحتياطي المصرف المركزي من رقم الـ 19 مليار دولار، وهناك هامش حركة لا يتعدى حدود المليار ونصف المليار دولار (17 مليار ونصف المليار دولار هو الإحتياطي الإلزامي للمصارف اللبنانية بالعملة الصعبة).
ماذا عن موقف السعودية وشروط الحريري للقبول بتسميته رئيساً للحكومة ولماذا يوافق الأميركيون على حكومة يتمثل فيها حزب الله ويضعون “الفيتو” على توزير جبران باسيل؟ وهل يستطيع حزب الله أن يتحمل كلفة خسارته الغطاء المسيحي الشعبي من خلال إصراره على تغطية أو تبرير مواقف التيار الوطني من الحكومة ورئيسها؟ ماذا إذا وافق الأميركيون وإستمر السعوديون بإعتراضهم، هل يمكن أن يقبل الحريري بالمهمة الحكومية؟ في هذه الحالة ماذا سيكون موقف كل من القوات اللبنانية ووليد جنبلاط؟
للبحث صلة.