في الوقت الي تتطلع فيه الدول العربية السُنّية إلى ساحة اللعب، فإنها تتجه بشكل متزايد إلى حليف قوي في الصراع ضد إيران: إسرائيل، التي وضعت نفسها في وسط الصراع الإقليمي المتنامي مباشرة؛ من خلال شن غارات جوية ضد القواعد الإيرانية في العراق وسوريا، وتنفيذ اغتيالات وهجمات إلكترونية وتخريب بهدف إبطاء البرنامج النووي للجمهورية الإسلامية.
حتى الآن، اقتصرت ردود طهران ضد إسرائيل على الهجمات الإلكترونية والهجمات على سفنها في مياه الخليج العربي، لكن الوضع قد يتصاعد بسرعة؛ ليس بالضرورة إلى حرب مباشرة بين إيران وإسرائيل ولكن ربما إلى اشتباكات بين الشركاء الضمنيين لكلا الجانبين في العراق ولبنان وسوريا، فضلاً عن شن هجمات إيرانية ضد حُلفاء إسرائيل الجُدد في خليج فارس.
انتفاضة السُنة
في غضون ذلك، تبحث الدول العربية السنية عن إستراتيجيات جديدة لحماية مصالحها. لقد اعتمدت حتى الآن على الولايات المتحدة لإحتواء توسع نفوذ إيران الإقليمي، وهو توسع بدأته واشنطن نفسها عندما غزت العراق. لكن الإنسحاب الأميركي من أفغانستان، والحديث عن تقليص الوجود العسكري الأميركي في العراق، ورغبة إدارة جو بايدن في إنهاء “الحروب المستعرة”، هذه كلها أجبرت السعودية والإمارات على البدء في الحديث مع إيران على أمل الحد من التوترات وكسب الوقت لبناء قدراتهم الإقليمية الخاصة.
جاءت هذه المحادثات بعد سنوات من الحروب بالوكالة في جميع أنحاء المنطقة، وبعد أن قدمت السعودية والإمارات كل أنواع الدعم للضغوط الأميركية على إيران؛ من عقوبات اقتصادية وحصار مالي وغيره؛ وبعد سلسلة من الهجمات شنتها إيران داخل الأراضي السعودية والإماراتية. لذلك تمثل هذه المحادثات جهداً هاماً للحد من التوترات. فالسعودية تريد من إيران أن تضغط على الحوثيين لإنهاء الحرب في اليمن ووضع حد لهجمات الطائرات المسيرة على أراضيها. وإيران بدورها تريد التطبيع الكامل للعلاقات مع السعودية. إنفراج ليس في متناول اليد، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى أن المحادثات تجري في ظلّ المفاوضات النووية بين إيران والولايات المتحدة. ومع ذلك، يواصل الجانبان محادثاتهما، وقد حددا الخطوات الأولى المحتملة في التقارب، مثل فتح قنصليات لتسهيل السياحة الدينية. وإدارة بايدن؛ من جهتها؛ دعمت هذا الحوار، لكنها لا تستطيع دفع الرياض للتوصل إلى اتفاق مع طهران إذا لم تستطع فعل ذلك بنفسها.
لا يزال شبح التطرف السني يثير قلق إيران أيضاً. كان انتصار حركة طالبان في افغانستان مرة أخرى بمثابة “نعمة” بالنسبة للمتشددين السُنَّة في جميع أنحاء المنطقة: تاريخ الجماعة الأفغانية غارق في العنف الطائفي الدموي، وهي ترى أن التشيع خارج عن الإسلام. وبرغم أن طالبان لم تعد تتبنى العداء العلني للشيعة وأقامت علاقات مع إيران، فإن عودتها إلى السلطة تميزت بتطهير الشيعة الهزارة من الوظائف الحكومية، وإغلاق أعمالهم التجارية، وطردهم من منازلهم وقراهم. وبرغم أنه تم إلقاء اللوم في أعمال العنف الطائفي الأخيرة (تفجيرات طالت مساجد شيعية) على فرع “داعش” في خراسان، أو IS-K ، فإن احتمال نشوب صراع طائفي أوسع في أفغانستان لا يزال موجوداً.
واشنطن لا تستطيع دفع الرياض للإتفاق مع طهران إذا لم تستطع أن تفعل ذلك بنفسها.. والسبب الجذري لمشاكل المنطقة لا يزال دون حل
كما تسعى الدول العربية السُنّية إلى عمق إستراتيجي من خلال إصلاح الخلافات مع تركيا، التي تعتبر نفسها في عهد الرئيس رجب طيب أردوغان قوة إقليمية ومدافعة عن الامتيازات السنية. تعتبر تركيا أردوغان نفسها وريثة للإمبراطورية العثمانية، التي كانت حتى عام 1924 مقراً للخلافة الإسلامية، القلب الرمزي للقوة السنية. كما أنها تحافظ على علاقات وثيقة مع جماعة الإخوان المسلمين، القوة الإسلامية الأكثر أهمية في العالم العربي. خلال فترة انتفاضات الربيع العربي، صمَّمت تركيا نفسها على أنها نموذج للعالم العربي، داعمة للمطالب الشعبية بالديموقراطية وطموحات الإخوان المسلمين في السلطة. لاحقاً، انحازت إلى جانب قطر عندما فرض جيرانها في الخليج العربي حصاراً عليها.
أثارت هذه السياسات غضب ممالك الخليج العربي، التي اعتبرت تركيا منافساً لقيادة العالم السني. وقد طغت هذه المشاحنات الضروس أحياناً على التنافس الطائفي مع إيران. في الواقع، كانت علاقة أنقرة بطهران بشكل عام أكثر دفئاً من علاقاتها مع الرياض وأبو ظبي. لقد أدَّى تنافس تركيا مع خصومها السنة إلى دخولها في كل ساحة تلعب فيها الطائفية، حيث راهنت حكومة أردوغان على مطالبتها بالنفوذ في العراق ولبنان ومؤخراً في أفغانستان.
كانت تركيا بمثابة حصن منيع ضد النفوذ الإيراني. لقد استخدمت تركيا قوتها العسكرية في العراق وسوريا بشكل فعَّال: وبرغم أنها لا تستطيع أن تضاهي قوة إيران بالوكالة، فإن قدراتها العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية ضمنت أنها تحتفظ بدور مؤثر في الشرق الأوسط. وبالمقارنة، فشلت الدول العربية السُنّية في كبح جماح القوة الإيرانية. جاء استثمارهم في المعارضة السورية بلا فائدة، وتخلت السعودية عن لبنان، وفشلت في الحصول على موطئ قدم في العراق، وتعثرت في الحرب في اليمن. ومع ذلك، تواصل الدول العربية السنية تعزيز نفوذها في واشنطن، وهي تُعزز هذا العمق الإستراتيجي بالتعاون الاستخباراتي والعسكري مع إسرائيل. لكن على الأرض، يمكنهم فقط أن يأملوا في إبطاء تقدم إيران، وليس عكسه.
الإنسحاب بشروط جيدة
لا تستطيع الولايات المتحدة التخفيف من جميع المخاطر التي تلوح في الأفق في الشرق الأوسط. لكن يجب تجنب جعل الأمور أسوأ. قد يكون الدور الأميركي الأصغر في المنطقة حتمياً، لكن الطريقة التي ترفع بها واشنطن مصالحها ستكون مهمة. بالنسبة للكثيرين في الشرق الأوسط، يعتبر الانسحاب الأميركي اختصاراً لتخلي واشنطن عن المنطقة، حيث دافعت سابقاً ضد تهديدات الاتحاد السوفيتي وإيران والعراق، ومؤخراً، داعش. حتى إذا استمرت الولايات المتحدة في الحفاظ على وجود عسكري كبير في المنطقة، فإن التزامها باستخدام القوة العسكرية مفتوح بشكل متزايد للتساؤل.
العرب السُنَّة يواصلون تعزيز نفوذهم في واشنطن، وتعاونهم الاستخباراتي والعسكري مع إسرائيل، ومع ذلك يمكنهم فقط أن يأملوا في إبطاء تقدم إيران وليس عكسه
هذا الارتباك الاستراتيجي هو انفتاح لإيران ووكلائها. كما ستدعو مشاركين جدد إلى المعركة، مثل روسيا وتركيا. لا يوجد بديل جاهز لاستراتيجية الاحتواء التي تتبعها الولايات المتحدة، والتي ظلت لأكثر من أربعة عقود بمثابة بنية أمنية فعلية في المنطقة. أفضل ما يمكن أن تهدف إليه واشنطن هو تثبيط الخصومات الإقليمية عن تكثيفها، على أمل أن يوفر الهدوء النسبي فرصة لتطوير أطر إقليمية جديدة. لهذا السبب، يجب أن تسير جهود الولايات المتحدة للتراجع عن فرض الاحتواء جنباً إلى جنب مع اندفاع دبلوماسي لتقليل وحل النزاعات بين القوى الإقليمية.
الضحية الأولى
يظل الاتفاق النووي مع إيران أهم رادع لمزيد من عدم الاستقرار الإقليمي. هناك أسباب مفهومة تجعل إدارة بايدن مترددة في العودة إلى الاتفاق النووي لعام 2015. من المقرر أن تنتهي بعض قيود الاتفاقية على إيران قبل نهاية الولاية الأولى للرئيس بايدن، ومن شأن رفع العقوبات المطلوبة كجزء من الصفقة أن يثير انتقادات من الحزبين الديموقراطي والجمهوري. لهذه الأسباب، تقول الإدارة الأميركية إنها تريد صفقة “أطول وأقوى”. ومع ذلك، فإن إيران مهتمة فقط باستعادة اتفاق 2015؛ لكن هذه المرة بضمانات أميركية بأن الإدارة المقبلة لن تقلب الصفقة مرة أخرى. إن الجمود؛ أو الأسوأ من ذلك انهيار المحادثات؛ من شأنه أن يضع إيران والولايات المتحدة على طريق خطير نحو المواجهة التي ستشعل حتماً العالم العربي وتؤجج الطائفية.
انهيار المحادثات سيضع واشنطن وطهران على طريق مواجهة تشعل المنطقة وتؤجج الطائفية.. والضحية الأولى سيكون الاستقرار في العراق ولبنان
شجعت إدارة بايدن الجهات الفاعلة الإقليمية على التحدث مع بعضها البعض. لكن هذه الحوارات لن تستمر إذا تعثرت الجهود المبذولة لاستعادة الاتفاق النووي. الضحية الأولى سيكون الاستقرار في العراق ولبنان، الأمر الذي يتطلب توافقاً بين الأطراف الشيعية والسُنّية. ولكي تتمكن إدارة بايدن من إخراج الولايات المتحدة من الشرق الأوسط، فإنها بحاجة إلى إرساء قدر ضئيل من الاستقرار الإقليمي؛ ويجب أن يبدأ هذا الجهد بإعادة إيران والولايات المتحدة إلى الامتثال المتبادل لإتفاق 2015.
لأكثر من أربعة عقود، نظرت الولايات المتحدة إلى الشرق الأوسط على أنه حاجة حيوية لتحقيق مصالحها الوطنية. أقامت تحالفات مع دول عربية لاحتواء إيران، وإبعاد الإسلاموية، وإدارة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. كانت الإستراتيجية الأميركية أكثر نجاحاً عندما تمكنت من الحفاظ على توازن قوى مستقر بين إيران وجيرانها العرب. لكن منذ أن قوّضت هذا التوازن بغزو العراق في عام 2003، كانت تحاول استعادته. والآن، في مواجهة تحديات عالمية أخرى ملحة، تتخلى عن هذا الجهد كلياً. هناك سبب كافٍ لتبني إعادة التقويم الاستراتيجي هذه. إن السعي وراء توازن قوى بعيد المنال أمر مكلف للغاية، خاصة وأن الشرق الأوسط لم يعد حيوياً للمصالح القومية الأميركية.
لكن ترك المنطقة لديناميتها هو مناورة خطيرة. بدون ترتيب أمني جديد، ستكون الفوضى والصراع هما النظام السائد اليوم. إن عودة التطرف الإسلامي، وشبح المزيد من الانهيار للدولة، والحروب الكبيرة والصغيرة على الأراضي والموارد، والصراع المفتوح بين إيران وإسرائيل، سيكون لها عواقب أمنية وإنسانية كارثية ستتطلب حتماً اهتماماً أميركياً متجدداً. وإذا كانت الولايات المتحدة تريد التغاضي عن عبء الحفاظ على توازن القوى في الشرق الأوسط، فينبغي عليها أن تبحث عن بديل مُستدام؛ عن ترتيب يمكن أن ينهي أخطر الصراعات في المنطقة وأن يضع قواعد جديدة لنظام إقليمي عملي قابل للتطبيق. ويجب أن تبدأ هذه المهمة بنزع فتيل الصراع الذي يمثل أكبر تهديد للمنطقة: المواجهة مع إيران.
(*) النص الأصلي في موقع “الفورين أفيرز“
(**) الجزء الأول من الدراسة بعنوان “الشرق الأوسط ما بعد أميركا.. حروبنا الآتية”