لن تقتصر المسألة على رسالة يوجهها رئيس الجمهورية إلى مجلس النواب مطالباً بمعرفة حقيقة موقفه من التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان، ولا بإنعقاد الهيئة العامة للمجلس لمناقشة الرسالة الرئاسية وتحديد الموقف منها. من المرجح أن تتصاعد الاتهامات والاتهامات المتبادلة على وقع تقاذف مسؤولية إجهاض المحاولة الأولى للتدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان.
وعلى قاعدة المثل القروي “من كبّر الحجر ما صاب”، يبحث السياسيون “الشفافون” المنادون بذلك التدقيق الشامل، كلٌ حسب أجندة خصوماته السياسية، عن الفوضى العارمة وكوثرة الغبار الكفيل بالتعمية على امكانية وجدوى أي محاسبة حقيقية سواء هنا أو هناك، ليستقر الرأي على “فساد في السوية.. عدل في الرعية”.
بكلام آخر، يعرف المتخاصمون سلفاً أن التدقيق في كل تلك الحسابات لن يؤدي إلى نتيجة في ظل موازين القوى السياسية والوضع القضائي القائم، لا بل هو من المستحيلات في هذا الظرف السياسي الشائك جداً والمشتبك حد الاحتدام العبثي، داخلياً وخارجياً. والحال هذه، يبقى مصرف لبنان أيضاً، تحت نفس المظلة، مُحيّداً نسبياً عن تجرع الكأس المرة وحده.
ويعلم “الشفافون الجدد” دعاة التدقيق في قاعدة الهرم الاحتيالي صعوداً حتى قمته أن الحسابات الحكومية التي يطالبون بالتدقيق فيها أقرت في مجالس الوزراء المتعاقبة منذ الحكومة الأولى للرئيس الشهيد رفيق الحريري في العام 1992، ورصدت أموالها في ميزانيات أقرتها المجالس النيابية المتعاقبة منذ أوائل التسعينيات إلى اليوم. وما كان يصرف على القاعدة الإثني عشرية في ظل غياب موازنات معتمدة سنوياً يمكن مراجعته بسهولة محاسبية على أساس قيود في دفاتر يفترض أنها غير سرية. والسنوات التي تعذر فيها أي قطع حساب لمطابقة المصروف مع المرصود يُجرى القطع كما أجري مثله من قبل، أما النقص في إشراك ديوان المحاسبة في تدقيق بعض الموازنات، فيستوجب سده بالطرق القانونية المتبعة. لكن الأنكى، أنه وبرغم بقاء تلك الثغرات، لن تحصل محاسبة جدية وما “الابراء المستحيل” للتيار الوطني الحر بالاتهامات الخطيرة التي شهرها بوجه “الحريرية المالية” الا خير شاهد على التوظيف السياسي لأي تدقيق مصيره التسوية أو النسيان.
يبحث أهل السياسة من حماة رياض سلامة والمتخوفين مما في جعبته من أسرار دهاليز الهيكل ومتاهاته، عن مخرج قوامه شطب ذلك الشق (الجنائي) والاكتفاء بالمحاسبي اذا استطاعوا الى ذلك سبيلاً
إذاً، وفق الأطر القانونية والدستورية، ثمة آليات محاسبة وتدقيق واضحة الأساليب، وتعطي النتائج المرجوة إذا حيّدت عن الضغوط السياسية من هذا الصوب أو ذاك. أما مع الضغوط، فلا ينجح أي تدقيق سواء كان داخلياً كما حصل في “الابراء المستحيل” أو اعتماداً على شركات خارجية كما حصل مع شركة “ألڤاريز أند مارسال”.
ومن يهوّل بفتح كل الملفات معاً يريد القول، ولو بشكل غير مباشر، أن مصرف لبنان ليس مسؤولاً وحده عما آلت إليه الأمور المالية من أزمة غير مسبوقة. بذلك يعترف ضمناً بأن للمصرف حصة من تلك المسؤولية. لكن، برأيه، هناك رابط خفي بين كبش المحرقة المرفوض والمحرقة الكاملة المستحيلة. وذهب البعض في تهويله الى أن تلك المحرقة الشاملة تندلع بمجرد رفع السرية المصرفية، أو عند أي تعديل جوهري في قانون النقد والتسليف، أي دعونا لا نهدم الهيكل على رؤوسنا جميعاً !
وتشير المشاورات المواكبة للبحث عن مخرج الى أن فكرة التدقيق الجنائي انبثقت مع اندلاع أزمة المودعين الذين فوجئوا بأن وصولهم الى كامل أموالهم، خصوصا بالدولار، بات مستحيلاً، وعندما قالت المصارف للمودعين أن أموالكم في مصرف لبنان على اعتبار أن للبنوك ايداعات وتوظيفات واحتياطات في البنك المركزي قيمتها ٧٥ مليار دولار هي عملياً أموال للمودعين. كما أن فكرة التدقيق تزامنت مع قرار الحكومة التوقف عن سداد مستحقات سندات اليوروبوندز حفاظاً على ما تبقى من دولارات في مصرف لبنان لاستخدامها في تغطية الاستيراد لا سيما المدعوم منه كي لا تقع البلاد في العتمة ويعاني الشعب في صحته بنقص الدواء وقصور الاستشفاء أو يجوع بشح الغذاء.
وبما أن مصرف لبنان كان غامضاً في اعلان ما له وما عليه، رأت حكومة حسان دياب، مدعومة بنصيحة دولية، لزاماً عليها طلب تدقيق في حساباته تجريه جهة خارجية متخصصة في الشق “الجنائي”، مفترضة سلفاً أن هناك ارتكابات أكثر من أن تحصى وتعد. في المقابل، يبحث أهل السياسة من حماة رياض سلامة والمتخوفين مما في جعبته من أسرار دهاليز الهيكل ومتاهاته، عن مخرج قوامه شطب ذلك الشق (الجنائي) والاكتفاء بالمحاسبي اذا استطاعوا الى ذلك سبيلاً. واذا تبين أن هناك ارتكاباً ما يطلب الكشف عن سرية الحساب المشبوه وليس كل الحسابات.
بالنسبة لهؤلاء، التدقيق العادي ممكن، إذ لم يعد سراً تخمين طرق تبخر الدولارات. فتثبيت سعر صرف الليرة كلّف مصرف لبنان باعترافه نحو ٤٠ مليار دولار بين تدخل مباشر في سوق القطع وبين رفع الفوائد وغيرها من الأدوات النقدية المكلفة (علماً بأن تقديراً سابقاً لعدد من الخبراء ذكر رقم ٢٥ ملياراً فقط). وتلك المبالغ توزعت منافعها على عموم اللبنانيين الذين ارتفعت قدراتهم الشرائية بالليرة في مدى ٢٠ سنة على الأقل وهذه الشريحة استفادت تثبيت سعر الصرف ومن الفوائد المرتفعة واصابها الطمع وهي تدفع الآن الثمن من ودائعها.
أيضاً هناك كلفة الفيول أويل لمؤسسة كهرباء لبنان وصيانتها واستثماراتها بنحو ٤٠ مليار دولار في ١٠ سنوات مقابل مردود زهيد بفعل التعرفة المدعومة التي استفاد منها عموم اللبنانيين أيضاً، بالاضافة الى تغطية الاستيراد لزوم الاستهلاك الجاري المفرط والكمالي المستفز، بنحو ٢٠ مليار دولار سنوياً شُفطت شفطاً جزئياً من دولارات البنك المركزي بعدما بدأ ميزان المدفوعات يسجل عجزاً منذ ٢٠١١، أي انهم يريدون تدقيقاً لا يصل الى نتيجة مفادها الاتهام بالاختلاس المباشر ويغمزون من قناة أن الجميع استفاد وتنعم!
عندما قال سلامة انه مستعد لرفع السرية المصرفية عن حسابات الدولة، كان يقصد أن تلك الحسابات معنية أيضاً بما هو متصل به من صرف للدولار، والكهرباء أكبر مثال صارخ. وليس عبثاً أو صدفة اختيار الكهرباء اذا عرفنا هوية من يطالب بالتدقيق الجنائي أكثر من غيره
لذلك، ثمة رغبة غير مخفية في تجاهل كلفة الهندسات المالية، التي ظن الحاكم واهماً أنها تعدل عجز ميزان المدفوعات، والتي راوحت بين ٥ و٦ مليارات دولار ذهبت الى جيوب المحظيين والمنتفعين من سياسات الحاكم. الى ذلك تضاف مليارات النافذين التي هُرّبت في ظل تعطيل جهود “الكابيتال كونترول” وقبلها تكاليف القروض المدعومة للمحظيين وتكاليف انقاذ مصارف متعثرة، الى جانب بنود سرية من صلاحيات الحاكم وحده لا شريك له فيها استناداً إلى السرية المصرفية واستقلالية البنك المركزي، قد ترد فيها تنفيعات وترضيات ومخصصات سنوية، وسياسات ترغيب او ترهيب مصرفية، وفواتير قطاعية فضفاضة كان يمكن معالجتها بكلفة أقل أو هدر محدود أو رفض تمريرها بالمطلق لو كان رياض سلامة ضرب يده على الطاولة بوجه السياسيين.. لكن هيهات له ذلك طالما كان حالماً برئاسة الجمهورية ودغدغه كثيرون من هذه الخاصرة الرخوة، وما يزالون!
وعندما قال الحاكم رياض سلامة انه مستعد لرفع السرية المصرفية عن حسابات الدولة، إذا إتخذت السلطة هذا القرار، كان يقصد أن تلك الحسابات معنية أيضاً بما هو متصل به من صرف للدولار، والكهرباء أكبر مثال صارخ. وليس عبثاً أو صدفة اختيار الكهرباء اذا عرفنا هوية من يطالب بالتدقيق الجنائي أكثر من غيره. وللمفارقة، لكأن لسان حال حاكم المصرف المركزي ومعه كل المطالبين بالتدقيق الشامل في كل الجهات يقول “كلنا يعني كلنا”، وهو يعلم انه شعار سيسقط حتماً كما سقط شعار الحراك “كلن يعني كلن” لانعدام واقعيته السياسية وليس شرعيته الأخلاقية.
انهم يعلمون استحالة فتح كل الملفات وتدقيق كل الحسابات معاً، لأن ورشة كهذه ستفتح النار السياسية من كل حدب وصوب، وستضيع الأولويات في خضم لعبة النفوذ المتوازنة في رعبها استناداً الى التوازن الطائفي الحامي للرؤساء، والمغطي للوزراء والمديرين المعنيين في هذه الوزارة او تلك الدائرة.
فاذا كانت عبارة “الدولة المدنية” تقسم البلد طولاً وعرضاً، والدعوة لقانون انتخاب خارج القيد الطائفي وعلى أساس لبنان دائرة واحدة، تشعل المتاريس الطائفية الخائفة على وضعها وعددها، فما بالك بمحاسبة كل نظام ما بعد الطائف الذي تغذى من/وغذى كل، السياسات المالية والنقدية والمصرفية التي أوصلت البلاد الى الهوة السحيقة التي وقعت فيها.
ستكون هناك دولارات من البنك الدولي وجهات أخرى مخصصة للانفاق الاجتماعي المواكب لمرحلة التقشف
إن المحاسبة الشاملة تعني محاكمة كل النظام لاستبداله بآخر، وهذا ما ليس متاحاً اليوم. فييقى أهون الشرين، الكشف عن اخطاء مصرف لبنان كسياسة نقدية وليس كشخص حاكمه. هذا هو المتاح حالياً فقط برأي معظم أهل السلطة، ولا مجال لشيء آخر. لأن تحميل المسؤوليات بالشخصي يعني وقوع حجر دومينو يجر معه كل الأحجار حتى تلك التي تعتبر ركناً أو زاوية في مربع بناء النظام. وهذا ما يفسر التسريبات التي تحدثت عن قبول رياض سلامة الخروج من الحاكمية اذا تأمنت له الحصانة من فرنسا أو غيرها من الجهات الدولية.
لقد بات معلوماً للجميع ان لا مساعدات او قروض ميسرة الا اذا عرفت الجهات الدولية حجم الخسائر التي مني بها المودعون أولاً ثم الدولة ثانياً، وكيف ستوزع تلك الخسائر، فالدولارات الطازجة المحدودة التي قد تدخل البلاد عبر برنامج صندوق النقد الدولي والجهات المانحة، لا سيما التي التزمت في مؤتمر “سيدر”، ممنوع صرفها للبنان الا في سياق سد عجز الموازنة وميزان المدفوعات مرحلياً وبتقشف شديد، والانفاق على مشاريع تعود بالبلاد الى سكة النمو الاقتصادي. خلاف ذلك، فقط ستكون هناك دولارات من البنك الدولي وجهات أخرى مخصصة للانفاق الاجتماعي المواكب لمرحلة التقشف.
ما سبق ليس دفاعاً عن طغمة. إنه الواقع المرير الذي سيتعايش معه ٩٠ في المائة من اللبنانيين وهم: الفقراء، العاطلون عن العمل، الساعون الى الهجرة، المودعون المنهوبة أموالهم، والموظفون المعدمون. أما نسبة ال ١٠ في المائة الباقية والمشكلة من كبار القوم في السياسة والمال والتجارة والوظائف الدسمة والمحاسيب فضلاً عن المهربين والمتهربين من الضرائب ومافيات النفوذ على انواعها.. فلا يوم سيأتيهم الا من خلال الانتخابات بشرط أن يكون اللبنانيون قد تعلموا من الدروس القاسية جيداً، أما وفقاً لأي قانون انتخاب فتلك هي قصة أخرى من قصص أم قشعم الرهيبة!