يأتي ذلك بعد سياسة الأحادية الحادة التي طبعت إدارة ترامب والتي قامت على تهميش وإزدراء عناوين التعاون الدولي ومتطلبات الشراكة مع الحلفاء التقليديين في الأطر المتعددة الأطراف التي تجمع بينهم وذلك لمصلحة العلاقات الثنائية مع كل دولة على حدة كما كان يردّد ترامب دائما. لكن ذلك لا يعني أن الإدارة الجديدة لن تعمل على إحداث تغيير في تلك العلاقات عمّا كانت عليه سابقا قبل إدارة ترامب. فالعودة لتنشيط حلف شمال الأطلسي أو الشراكة الاستراتيجية مع أوروبا الغربية ستفترض من منظور الإدارة الجديدة مزيدا من تحمّل المسئوليات والتكلفة من قبل الحلفاء أو الشركاء. كما أن من أولى مهمات الإدارة الجديدة في إطار تنشيط الدبلوماسية المتعددة الأطراف العودة إلى اتفاقية المناخ التي خرجت منها الولايات المتحدة مع الرئيس ترامب وكذلك إلى منظمة الصحة العالمية. تحدّ أساسي أمام الإدارة الجديدة يكمن في كيفية العودة ضمن إطار جماعي تعاوني محوره واشنطن إلى منطقة آسيا والمحيط الهادى بعد انسحاب ترامب من «الشراكة العابرة للهادىء» الأمر الذي ساعد الصين الشعبية بعد ثماني سنوات من انطلاق الفكرة، إلى إنشاء أكبر منطقة تجارة حرة في العالم تضمّ خمسة عشرة دولة. ويحمل ذلك الكثير من التداعيات على استراتيجيات المنافسة الأمريكية الصينية على الصعيد العالمي. مواجهة الصين الشعبية ومحاولة احتواء نفوذها المتزايد ستشكل عنصر استمرار بين الإدارتين. العلاقات مع روسيا الاتحادية قد تخضع لبعض التوترات بعد إعادة التموضع الأمريكي في ما يتعلّق بمقاربة مختلفة بالانخراط الدبلوماسي على الصعيد الدولي.
دون شك ستتأثر العودة إلى الاتفاق النووي كما ستؤثر في ملفين أساسيين في العلاقات الأمريكية الايرانية: امتلاك إيران للصواريخ البالستية والدور الايراني في المنطقة
ويبقى الشرق الأوسط من أكثر الأقاليم الدولية إثارة للاهتمام من حيث طبيعة الاختلاف بين مقاربة الإدارتين للمنطقة وخاصة موضوع الاتفاق النووي مع إيران. انسحاب إدارة ترامب من الاتفاق ساهم في «تحرير» إيران من الالتزامات/القيود التي كان يفرضها الاتفاق عليها وأحدث خلافا بين واشنطن وحلفائها الغربيين الأطراف في الاتفاق. الرئيس بايدن أكد تأييده العودة للاتفاق النووي على أن يواكب ذلك تفاوض لتحسين شروط تطبيقه. الثلاثي الأوروبي (الفرنسي الألماني البريطاني الشريك بالاتفاق) بدأ بالتحرك مع الإدارة القادمة لبلورة شروط العودة وهي شروط يقول هؤلاء أنها مرتبطة أيضا بالسلوك الإيراني. الخروج من الاتفاق من طرف ترامب زاد من حدّة المواجهة القائمة في المنطقة وهذا بالطبع ليس بالسبب الوحيد لازدياد حدة الحرب الباردة الدائرة في الشرق الأوسط والحروب بالوكالة التي تغذيها. دون شك ستتأثر العودة إلى الاتفاق النووي كما ستؤثر في ملفين أساسيين في العلاقات الأمريكية الايرانية: امتلاك إيران للصواريخ البالستية والدور الايراني في المنطقة والسؤال المطروح هو كيف سيتم تنظيم العلاقات، علاقة التأثير المتبدال، بين الملفات الثلاثة مع الإدارة الجديدة.
القضية الفلسطينية ستكون نقطة اختلاف أخرى بين مقاربة الإدارتين من دون أن يعني ذلك أن إدارة بايدن ستسقط أو تتراجع عما قامت به إدارة ترامب في هذا المجال برغم أن قرارات الإدارة الأخيرة شكّلت ضربة قاسية وخروجا كليا عن المرجعيات التي يفترض أن تشكّل الإطار الطبيعي والضروري لتحقيق السلام. من المرجّح أن تعود إدارة بايدن إلى اعتماد الموقف الأمريكي التقليدي، موقف ما قبل إدارة ترامب، من دون أن تنخرط بقوة أو فعالية في هذا الملف الذي لم يعد يحظى وللأسف بموقع مهم على لائحة الأولويات الإقليمية الضاغطة.
ديناميات سياسية جديدة ومتجددة ستعود بقوة إلى المسرح الاستراتيجي الشرق أوسطي ومعها احتمالات أو سيناريوهات مختلفة من نزاعات وتفاهمات وتسويات موقّتة أو طويلة الأمد.
في نهاية الأمر نرجو، وهذا ليس بالأمر السهل، أن نرى يقظة عربية تسمح ببلورة أجندة أولويات متّفق عليها حتى لا نبقى مجرّد أحجار في لعبة شطرنج بين لاعبين إقليميين ودوليين.
(*) نقلاً عن “الشروق”