قرار البرلمان اللبناني بالتدقيق الجنائي.. مُلزم للمؤسسات

حددت المادة 145 من النظام الداخلي للمجلس النيابي اللبناني أنواع المقررات التي يتخذها مجلس النواب جواباً على الرسالة التي يوجهها  رئيس الجمهورية الى المجلس، فنصّت على أن ينعقد المجلس خلال ثلاثة أيام لمناقشة مضمون الرسالة، واتخاذ الموقف أو الإجراء أو القرار المناسب.

عندما وجّه رئيس الجمهورية العماد ميشال عون كتابه تاريخ 24/11/2020 إلى مجلس النواب، فإنه يعلم أن الموقف من الرسالة لا يمكن أن يكون باصدار تشريع يخضع لحيثيات مختلفة، ولا بمحاكمة الجهات المقصرة التي يتطلب ملاحقتها اتباع إجراءات لاحقة ومطوّلة، لهذا كان مطلب رئيس الجمهورية واضحاً لناحية اتخاذ مجلس النواب الموقف أو الإجراء أو القرار بشأن الرسالة والتعاون مع السلطة الإجرائية وذلك من أجل تمكين الدولة من إجراء التدقيق المحاسبي الجنائي في حسابات مصرف لبنان المركزي.

بعد تلاوة الرسالة في جلسة 27/11/2020، اتخذ  مجلس النواب قراراً بالإجماع نص على الآتي:”تخضع حسابات مصرف لبنان والوزارات والمصالح المستقلة والمجالس والصناديق والمؤسسات العامة بالتوازي للتدقيق الجنائي من دون أي عائق أو تذرع بسرية مصرفية أو خلافه”.

إذاً هو قرار اتخذه المجلس، ويستند إلى المادة 145 من النظام الداخلي للمجلس النيابي التي تجيز لمجلس النواب اتخاذ القرار. كما ان استخدام مجلس النواب لصيغة الـ “قرار” لا تقتصر على هذه المسألة، فلقد اعتمد النظام الداخلي صيغة القرار في الموضوعات الآتية: رفع الحصانة النيابية (المادة 94 من النظام الداخلي)؛ إنشاء لجان التحقيق النيابية (المادة 143 من النظام الداخلي)؛ كما يتخذ المجلس قرارات بتفسير الدستور كحالة تفسيره النصاب القانوني لجلسة مجلس النواب أو المقصود بالغالبية من النواب الذين يؤلفونه (الدور التشريعي الرابع عشر محضر الجلسة السابعة تاريخ 29/5/1980). وقد احتوى النظام الداخلي على نصّ عامٍ حول التصويت على القرارات، وهو نصّ المادة 87 التي جاء فيها:”يجري التصويت على التوصيات والقرارات وسائر المواضيع غير الواردة في المواد السابقة بطريقة رفع الايدي”.

تدخل هذه القرارات التي يتخذها مجلس النواب ضمن فئة الأعمال البرلمانية المحصنّة من الرقابة القضائية، بحيث استقرّ اجتهاد مجلس شورى الدولة على ردّ الطعون بالأعمال الصادرة عن مجلس النواب لكونها متصفة بالأعمال البرلمانية الخارجة عن رقابته، وذلك أسوةً بالأعمال الحكومية التي تتمتع بالحصانة القضائية (م.ش. قرار رقم 732/2012-2013 تاريخ: 25/9/2013 المحامي جهاد ذبيان/ الدولة).

لم تجد هيئة التشريع والاستشارات في وزارة العدل أية قوة إلزامية لقرارات مجلس النواب

حول قيمتها القانونية، لم تجد هيئة التشريع والاستشارات في وزارة العدل أية قوة إلزامية لقرارات مجلس النواب، حيث ورد في الاستشارة رقم 1374/1988 تاريخ 20/1/1988 أن العلم الدستوري يميّز بين نوعين من الأعمال التي تصدر عن المجلس النيابي: الأولى، إقرار القوانين المعروضة عليه بصيغة مشاريع قوانين من الحكومة واقتراحات قوانين من النواب. وهذه القوانين تصبح نافذة وملزمة بعد نشرها من رئيس الجمهورية وإعلانها أصولاً (نشرها في الجريدة الرسمية). والثانية، إتخاذ المقررات المختلفة سواء بالنسبة لسير العمل النيابي او علاقات المجلس مع سائر السلطات، فهذه الفئة ليس لها معنى دقيق وحصري فتشمل مثلا إصدار النظام الداخلي للمجلس والتوصية والتمني وتبني تقارير اللجان وآراء هيئة مكتب المجلس وما شاكل ذلك. وهذه المقررات هي الوسيلة التي يلجأ اليها المجلس للتعبير عن مقاصده، واذا كان من سيئاتها عدم تحديد قوتها القانونية بالضبط فمن حسناتها الإبقاء على حرية المجلس في غالب الأحيان باتخاذ المواقف المرنة التي تنسجم مع الأوضاع الطارئة والتكيّف مع متطلباتها. وإذا كانت ومقررات المجلس لا تخضع لرقابة قضائية، الا ان المجلس يبقى مقيداً في إصدارها بأحكام الدستور وسائر القوانين… واستناداً إلى هذه الاعتبارات رأت هيئة التشريع أن تصديق مجلس النواب بتاريخ 29/5/1980 على المبادىء التي أقرتها اللجان (النيابية) المشتركة حول تفسير المادة 57 من الدستور “لا يعتبر تفسيرا ملزما بل مجرد قرار تمهيدي يتعلق بكيفية تطبيق المادة 57 في حالة معينة”.

قرار مجلس النواب بخصوص التدقيق الجنائي ملزم للجهة المخاطبة به

بمعزلٍ عن تقييم رأي هيئة التشريع والاستشارات، لا شكّ بأن المقررات الصادرة عن مجلس النواب هي ملزمة للمخاطبين بها وتسري مفاعيلها القانونية في النطاق الذي تطبّق به، فمثلاً فيما خصّ قرار رفع الحصانة أو ردّه فإن القضاء يكون ملزماً بهذا القرار النيابي، وفيما خصّ قرار تشكيل لجنة التحقيق فإن الجهات المعنية بهذا التحقيق ملزمة بالتعاون مع لجنة التحقيق المكلّفة بقرار نيابي، وبالمنطق ذاته، فإن قرار مجلس النواب بخصوص التدقيق الجنائي ملزم للجهة المخاطبة به، وحيث أن مجلس النواب في قراره المتعلق بالتدقيق الجنائي قد خاطب مصرف لبنان والوزارات والمصالح المستقلة والمجالس والصناديق والمؤسسات العامة وألزمها بأن تخضع حساباتها بالتوازي للتدقيق الجنائي من دون أي عائق أو تذرع بسرية مصرفية أو خلافه. فإن هذه الجهات المخاطبة ملزمة بتنفيذ قرار مجلس النواب وفق مندرجاته، وإلا تحملت الحكومة المسؤولية أمام مجلس النواب، وقد تأخذ هذه المساءلة شكل التحقيق البرلماني أو مساءلة جزائية إذا تبيّن أن هذا الامتناع يخفي إخلالاً من الوزراء الحاليين أو السابقين بالواجبات المترتبة عليهم عملاً بالمادة 70 من الدستور.

إقرأ على موقع 180  من غنائم الإزدهار اللبناني المزعوم إلى مغانم الإنهيار المحتوم

لذا، وتبعاً لضوابط العلاقة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، فإن الأخيرة لا تملك سوى خيار الاستجابة لطلب إجراء التدقيق دون أن يكون من حقها التمسك بالسرية المصرفية.

قرار مجلس النواب كان واضحاً في حدود الإلزام وبخاصة لناحية مساواة مصرف لبنان بالوزارات والمؤسسات العامة والمصالح المستقلة والصناديق

واضحٌ من خلال صياغة قرار مجلس النواب بأنه لا يخالف القانون النافذ، فهو لم يجز لمصرف لبنان مخالفة قانون السرية المصرفية، بل طلب من مصرف لبنان في ما خصّ عائداته وموجوداته وحساباته الخاصة وكذلك طلب من الوزارات والإدارات العامة والمصالح المستقلة والمؤسسات العامة أن لا يتمسكوا بالسر المصرفي في ما يتعلق بحساباتهم المصرفية، وأن يتنازلوا عن هذه الحماية تجاه المؤسسة المصرفية التي أودعوا فيها حساباتهم.

ولو أراد مجلس النواب في قراره أن يتيح لمصرف لبنان خرق السر المصرفي عن حسابات زبائنه (بما فيها حسابات اشخاص الحق العام) المحمية بالسر المصرفي عملاً بالمادة 151 من قانون النقد والتسليف، لكان اكتفى القرار بمخاطبة مصرف لبنان وألزمه بأن لا يتذرع بالسر المصرفي عن حسابات زبائنه، وحيث أن قرار مجلس النواب كان واضحاً في حدود الإلزام وبخاصة لناحية مساواة مصرف لبنان بالوزارات والمؤسسات العامة والمصالح المستقلة والصناديق، فلا يكون معنياً به إلا المؤسسات المسماة في متن هذا القرار وفي ما خصّ حساباتها حصراً بحيث تستبعد من نطاق التدقيق الجنائي حسابات البلديات والمصارف والمؤسسات المالية والشركات العامة أو المختلطة، وأي حسابٍ آخر مودع لدى مصرف لبنان وغير وارد تسمية صاحبه في قرار مجلس النواب.

قد تكون هناك إجتهادات مختلفة، لكن هذه المطالعة تستهدف القول إن قرار مجلس النواب لا يخالف القوانين المرعية الإجراء ولكنه في الوقت نفسه يلزم المؤسسات المعنية بتنفيذ القرار.. أما الآلية، فلها رأي مختلف، بمعنى من أين يبدأ التدقيق وكيف وضمن أي فاصل زمني إلخ…

Print Friendly, PDF & Email
عصام نعمة إسماعيل

أستاذ مادة القانون الدستوري في الجامعة اللبنانية

Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  البوارج الغربية في بحر لبنان: رسالة بأي إتجاه؟