لبنان: التدقيق الجنائي يضيع في دهاليز الصياغات الفضفاضة

لا يبدو أن التدقيق الجنائي أكثر من شعار. من يريده ومن لا يريده يعرف سلفاً أنه لن يصل إلى مكان "على الطريقة اللبنانية". ثمة وظيفة سياسية لشعار التدقيق.. وعندما تنتفي يكون مصيره النسيان!

ليس سراً القول ان التدقيق الجنائي في لبنان، والذي أقرت حكومة حسان دياب قبل ستة أشهر ضرورة اجرائه لعدة اسباب أبرزها معرفة مصير ودائع اللبنانيين وتحديد الخسائر في مصرف لبنان والقطاع المصرفي، خرج من إطاره المحاسبي والتقني الواضح الأهداف، ليضيع في دهاليز السياسة “الخبيثة”.

ولأن التحجج بالسرية المصرفية أعاق عمل شركة “ألفاريز اند مارسال” التي تعاقدت معها وزارة المالية اللبنانية قبل أن تعتذر الشركة عن إستكمال المهمة في ضوء استحالة حصولها على كامل البيانات التي طلبتها من مصرف لبنان المركزي، أقر البرلمان اللبناني قانونا لرفع السرية “عن كل الحسابات التي تتعلق بعمليات التدقيق المالي و/أو الجنائي التي قررتها وتقررها الحكومة على حسابات مصرف لبنان والوزارات والمصالح المستقلة  والمجالس والصناديق والمؤسسات العامة، وذلك لمدة سنة، أيا تكن طبيعة هذه الحسابات، لمصلحة القائمين بالتدقيق حصراً، على أن تبقى احكام قانون السرية المصرفية سارية في كل ما عدا ذلك”.

وبات معروفا أن هذا القانون قد إستند إلى قرار أصدره مجلس النواب في 27 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي يقضي بـ”اخضاع حسابات مصرف لبنان والوزارات والمصالح المستقلة والمجالس والصناديق والمؤسسات العامة بالتوازي للتدقيق الجنائي من دون أي عائق او تذرع بسرية مصرفية او خلافها“، وذلك ردا على الرسالة التي وجهها رئيس الجمهورية ميشال عون إلى مجلس النواب بتاريخ 24 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي.

ما أن أقر القانون ومن ثم نشر في الجريدة الرسمية ليصبح ساري المفعول، حتى أعلن وزير المال غازي وزني عن اعادة تواصله مع شركة “ألفاريز اند مارسال” لمتابعة مهمة التدقيق، لتكر من جديد الأسئلة المتناقضة حول التدقيق وآلياته وأولوياته، لا سيما وأن القانون تعمد القفز من فوق عبارة “بالتوازي” التي تضمنها القرار الصادر عن مجلس النواب.

هنا، يرى فريق رئيس الجمهورية المعني بمتابعة هذا الملف انه يجب البدء بحسابات مصرف لبنان وفقاً للقانون الذي صدر، والذي هو أقوى من القرار او التوصية التي ورد فيها ذكر “التوازي” بالتدقيق في عشرات المؤسسات معاً. لكن قانون رفع السرية لزوم اجراء التدقيق، وان خلا من كلمة “بالتوازي”، “لا يضع حسابات مصرف لبنان في رأس قائمة أولويات البدء بالتدقيق، بل يركز على ضرورة شمول عدة جهات حكومية وإدارية فضلا عن مجالس وصناديق وهيئات ومصالح مستقلة لأن المشرع رأى انها جهات لا تقل أهمية عن مصرف لبنان في البحث عن الحقيقة المالية”، على حد تعبير الجهة المعترضة على التفسير الرئاسي.

يعني ذلك أنه اذا حصل اتفاق مع شركة “الفاريز” على البدء بمصرف لبنان سيخرج من يطعن بذلك مذكراً بمبدأ “التوازي”، مستنداً الى التوصية التي ورد فيها ذاك صراحة والى القانون الذي حدد أمكنة التدقيق من دون الإشارة الى مكان بدء تلك العملية الشاملة، إلا إذا تم التوافق على أن الأولوية تفرض نفسها إذا كان الهدف جلاء مصير الأموال المختفية.

وبين الأسئلة، هل سيشمل التدقيق حسابات المصارف؟ علماً بأن القانون لم يأت صراحة ًعلى ذكر تلك الحسابات. وفي حال عدم شمولها كيف يمكن، على سبيل المثال لا الحصر، تأكيد أن لها في مصرف لبنان ودائع دولارية بقيمة 70 الى 80 مليار دولار هي في صلب مشكلة المودعين الباحثين عن أموالهم الضائعة. وكيف يمكن تحديد المبالغ التي خرجت من النظام المصرفي الى الخارج لنافذين دون غيرهم من عموم المودعين؟ وكيف يمكن استكمال مضلعات مثلث الهندسات المالية (مصرف لبنان والبنوك والعملاء) التي كبدت المال العام اكثر من 6 مليارات دولار؟ وماذا عن الفوائد على سندات الخزينة وبالمليارت في ما يشبه الربا الفاحش الناهش في لحم المال العام.. وغيرها من الاسئلة التي هي في صلب البحث عن “الثقب الأسود” الذي وقع فيه لبنان، ولا أحد يعرف حجم خسائره بالتحديد ليبنى على الشيء مقتضى التوزيع العادل للخسائر التي لا بد منها في نهاية المطاف  ليبدأ الجميع مرحلة جديدة استناداً الى دروس الماضي؟

إذا أنجز التدقيق، على إستحالته، فإنه سيوضع في الأدراج بتسوية سياسية لا تستثني أحداً، ومن دون أي إفادة منه قضائياً، أي لا ملاحقة للمخالفين والمتجاوزين، ليفقد الشق “الجنائي” كل معناه في الجزاء العادل وإمكان اعادة الأموال إلى أصحابها جزئياً او كلياً

أما على صعيد حسابات مصرف لبنان، فإن الحاكم رياض سلامة سبق وصرح إنه أعطى شركة التدقيق بيانات تلك الحسابات، بينما هي تؤكد أنها لم تتسلم إلا اجوبة 45 في المائة من أسئلتها (تتضمن عمليا أقل من 15% من الأجوبة الحقيقية)، ليرد هو متشبثاً بموقفه وفقاً لنص المادة 44 من قانون النقد والتسليف، التي تؤكد إن للمفوض الحكومي ولمساعده حق الاطلاع على جميع سجلات المصرف المركزي ومستنداته المحاسبية، “باستثناء حسابات وملفات الغير الذين تحميهم سرية المصارف المنشأة بقانون 3 أيلول/سبتمبر 1956“، أي أنه سلم بياناته ولا يمكنه تسليم بيانات المصارف، وهنا الالتباس يخص ما قد يتعلق بحسابات المصارف مباشرة او غير مباشرةً، لا حسابات الجهات الحكومية التي سبق وطلب الوزير غازي وزني رفع السرية عنها، وهي أصلاً لا تكون مشمولة بالسرية المصرفية مثل كل مؤسسات القطاع العام.

إقرأ على موقع 180    درس تاريخي عن تعامل روسيا مع خصومها في الشرق الأوسط  

ومن المتوقع أن يتسلح مصرف لبنان وجمعية المصارف بالبند الثالث من القانون الذي أقره مجلس النواب والذي نص صراحة على الآتي: “تبقى أحكام قانون سرية المصارف سارية في كل ما عدا ذلك“، أي أن السرية المصرفية تبقى قائمة ولا تستطيع شركة التدقيق الدخول إلى حسابات جمعية المصارف!

هذا الأمر جعل فريق رئيس الجمهورية متحسباً لإمكان التذرع بالبند الثالث، فقرر أن يستشهد بما يتضمنه قانون السرية المصرفية والقانون رقم 318/2001 المتعلّق بمكافحة تبييض الأموال الذي يُبقي القطاع المصرفي اللبناني في منأى عن عمليات التبييض فيما يحافظ، من جهة أخرى، على السرّية المصرفية للأموال المودعة لدى المصارف في لبنان.

أما بشأن المدة التي سيستغرقها التدقيق والخبرات التي يحتاجها عدداً ونوعاً، في ما لو بدأ بالتوازي في عشرات الجهات معاً، فان اصحاب الاختصاص يؤكدون شبه استحالة انجاز ذلك في غضون سنة من اليوم. ثم أن أن كلفة العقود ستتجاوز المائة مليون دولار اذا أريد لها ان تعطي كامل النتائج المرجوة منها في كل تلك الحسابات إذا أريد الصعود تاريخياً إلى اليوم الأول للارتكابات فيها، وهذا الأمر يطرح إمكان اللجوء إلى شركة ثانية إذا إستحال التدقيق على “الفاريز” وحدها، وهو ما سيحدده العقد الجديد الذي سيوقع بين الشركة ووزير المالية الذي يجري مراسلات مع الشركة التي ستوفد من يمثلها إلى بيروت مطلع السنة الجديدة للتفاوض مع وزارة المال واللجنة المعنية بإدارة ملف التدقيق الجنائي في وزارة المال.

وفي التقديرات الأولية للحجم الأكبر من الخسائر، يشير معظم المراقبين الماليين الى كلفة تثبيت سعر صرف الليرة وإلى الهدر في وزارة الطاقة. إذ أن الكلفتين تقدران بنحو 80 مليار دولار مناصفةً، أي تقريباً، وليس مصادفة، بحجم الودائع التي اختفت! لذا لكل طرف نظرياً، وربما عملياً، الحق في طلب بدء التدقيق هنا او هناك، لنعود الى السياسة المحتدمة بين أكبر أقطابها، فيضيع التدقيق بين دهاليز مصرف لبنان ومغارة وزارة الطاقة، والباقي عبارة عن فستق تسلية في فساد بمليارات قليلة وليس بـ 80 مليار دولار!

مجدداً، يبدو واضحاً أن للتدقيق الجنائي أهدافه السياسية، ما يجعل فرضية بلوغ الحائط المسدود هي الأكثر ترجيحاً، أما إذا أنجز التدقيق، على إستحالته، فإنه سيوضع في الأدراج بتسوية سياسية لا تستثني أحداً، ومن دون أي إفادة منه قضائياً، أي لا ملاحقة للمخالفين والمتجاوزين، ليفقد الشق “الجنائي” كل معناه في الجزاء العادل وإمكان اعادة الأموال إلى أصحابها جزئياً او كلياً.

Print Friendly, PDF & Email
منير يونس

صحافي وكاتب لبناني

Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Premium WordPress Themes Free
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  "واشنطن بوست": عبدالله الثاني.. وجنّاتُه الضريبية ـ العقارية!