جرت العادة أن يبادر الرئيس الأميركي الجديد إلى الاتصال بعدد من رؤساء الدول أو الحكومات، أوّلهم الجار الكندي والمكسيكي، فبريطانيا وفرنسا بصفتهما حليفتين لواشنطن في مجلس الأمن. أما عن بقية البلدان، فقد كانت إسرائيل دائما في المراتب الأولى. لكن الأمر اختلف هذه المرة، إذ لا يزال بنيامين نتنياهو ينتظر اتصال جو بايدن بعد شهر من تسلم الأخير الحكم (جرى الإتصال أمس الأربعاء).
في الحقيقة، لم يتفاجأ أحد من تصرف بايدن. فإبان انتخابه، كان نتنياهو قد سارع إلى التذكير بأنه لا مجال “لأي عودة إلى الاتفاق النووي السابق”1 مع إيران، بل أعاد الكرّة بعد أسبوع من تسلّم بايدن الحكم بمساعدة رئيس أركان الجيش الإسرائيلي الجنرال أفيف كوخافي. ففي مداخلة له بجامعة تل أبيب، أعلن الأخير: “إن العودة إلى الاتفاق النووي أو حتى إلى اتفاق من هذا النوع ببعض التحسينات خطأ، وهو أمر سيء”2. أضاف أن الجيش الإسرائيلي يقوم تحت قيادته بـ“تحيين خططه العملية” للهجوم على إيران.
من السهل تفهم الأسباب التي جعلت الرئيس الأميركي يماطل نتنياهو، علما أن بايدن جعل من العودة إلى الاتفاق مع إيران إحدى أولوياته. لكن الأمر ليس بتلك الحدة، بل هو مجرد إخطار بأن قصة الغرام التي عاشها الوزير الأول الإسرائيلي مع دونالد ترامب قد انتهت. لكن التأخير في الاتصال يشير أيضا إلى أي مدى بات الملف الفلسطيني الإسرائيلي ثانويا بالنسبة لإدارة بايدن.
إخطار للرياض وأبو ظبي
أما قصة الغرام الأخرى التي تعيش أزمة أخطر بكثير، فهي الاتفاق السياسي-النفطي (إتفاق كوينسي) الذي يجمع منذ 1945 بين الولايات المتحدة الأميركية والسعودية. وقد بدأ هذا التفاهم في التفكك خلال رئاسة باراك أوباما، قبل أن يعيد ترامب بعثه مجددا. لكن كان واضحاً من خطاب بايدن – وخاصة من خطاب وزير خارجيته أنتوني بلينكن – خلال الحملة الانتخابية أن السعودية ستُساءَل، لا سيما بالنسبة لقضايا حقوق الإنسان. وعادة ما يتم التلويح بهذا التهديد لطمأنة الكونغرس الذي يكنّ للمملكة الوهابية كرها معلنا، دون أن تذهب الأمور أبعد من ذلك.
لكن الإشارات التي أرسلها البيت الأبيض هذه المرة كانت مختلفة. فقد سمحت وزارة الخزانة الأميركية منذ 25 يناير/كانون الثاني بعودة المعاملات التجارية والمالية في المنطقة الواقعة تحت سيطرة الحوثيين في اليمن، وقد كان ترامب منعها، ما أثار مخاوف المنظمات الإنسانية غير الحكومية. وفي الرابع من فبراير/شباط 2021، في خطابه الرئاسي الأول حول السياسة الخارجية، قطع بايدن مع سياسة أوباما الذي جعل الولايات المتحدة تساند التدخل السعودي في اليمن وأعلن أن “على هذه الحرب أن تتوقف”3. وفي نفس اليوم، قرر البيت الأبيض “التعليق المؤقت” لقرار بيع الأسلحة للسعودية والإمارات-وهما الطرفان الخارجيان المتورطان مباشرة في الحرب على اليمن-، والذي كان ترامب قد أمضى عليه. وقد حاولت المتحدثة باسم الرئاسة أن تجعل من هذا القرار إجراء عاديا يُتخذ مع حلول كل إدارة جديدة، إلا أن حقيقة الأمر لم تخف على أحد. وأخيرا، في الخامس من فبراير/شباط، رفعت واشنطن الحوثيين عن لائحة الإرهاب التي وضعهم عليها دونالد ترامب.
ولتبديد أي شك قد يتبادر إلى ذهن الرياض، أعلن وزير الخارجية أنتوني بلينكن في الوقت نفسه أن بايدن أمر بـ“إعادة نظر شاملة” في العلاقة مع السعودية، “للتأكد من أن شراكتنا تتم بطريقة تتلاءم مع مصالحنا وقيمنا”4. وسيتم بالفعل تسليم الأسلحة لا سيما طائرات F-35 التي وعدت بها واشنطن أبو ظبي -والتي لن تبدأ قبل 2027-، لكن الإخطار وصل إلى مسامع دول الخليج، وخاصة السعودية.
ومنذ تسميته، لم يفتأ بلينكن يشير إلى قضية جمال خاشقجي. كما أعلنت المتحدثة باسم البيت الأبيض في الخامس من فبراير/شباط أن الرئاسة مستعدة لـ“كشف تقرير غير سري للكونغرس يوضّح جميع تفاصيل هذه الجريمة الشنيعة”. وقد أفاضت أن “القانون هو القانون، ونحن نحترمه”5.
يبدو أن إيران تبنت المثل الأميركي القائل: “أنت من كسرته، فعليك إصلاحه”. فواشنطن هي من انسحب من الاتفاق، وعليها إذن الرجوع إليه. وعليه، فإن كلا الطرفين يعتبر أن من سيقوم بالخطوة الأولى سيظهر نفاذ صبره وتعطشه لإنجاح المفاوضات -أي بلغة أخرى ضعفه
لكن الموضوع الأساسي الذي ينتظر الجميع بشأنه موقف الرئاسة الأميركية الجديدة هو الملف النووي الإيراني، وما ستؤول إليه خطة العمل الشاملة المشتركة التي وقعت عليها إيران والأعضاء الخمسة لمجلس الأمن الدولي وألمانيا في 2015. وقد وضعت هذه الخطة إطارا للإنتاج الإيراني للمواد الانشطارية حتى لا تتمكن طهران خلال الخمسة عشر عاما التالية من صنع قنبلة ذرية في أقل من سنة، ما يمنح وقتا كافيا للبلدان الغربية لإيجاد حل إذا لم يتم احترام الخطة. وفي المقابل، تُرفع العقوبات الاقتصادية على إيران. وقد انسحب ترامب من هذا الاتفاق في 2018. وكدليل على تصميمه، اختار بايدن الديبلوماسي روبرت مالي – وهو يعرف الشرق الأوسط حق المعرفة – ليترأس فريق المفاوضين مع إيران. وقد أسفرت هذه التسمية عن ردود فعل غاضبة في الدوائر الأميركية الرافضة لاي اتفاق مع إيران، وعن قلق عميق لدى الطبقة السياسية الإسرائيلية والإعلام السعودي.
“أنت من كسرته، فعليك إصلاحه”
تبدو الإشارات الأميركية بشأن الملف النووي متضاربة. فقد صرّح أنتوني بلينكن أن “الطريق طويل” ولا يجب التسرع. أما مستشار الأمن القومي جاك سوليفان، فقد قال إنه لا يجب تضييع الوقت، وأن تجنب “أزمة نووية أولوية عاجلة”. ومن الأسئلة التي تطرحها عودة المناقشات هي من عليه القيام بالخطوة الأولى؟ قد يبدو الأمر غير مهم لكنه ليس ثانويا كما نعتقد. وقد أعطى وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف الإجابة الإيرانية عندما قال إن على الطرفين أن يعلنا معا عن عودتهما إلى شروط الاتفاق وانتهى الأمر.
في الأثناء، يبدو أن إيران تبنت المثل الأميركي القائل: “أنت من كسرته، فعليك إصلاحه”. فواشنطن هي من انسحب من الاتفاق، وعليها إذن الرجوع إليه. وعليه، فإن كلا الطرفين يعتبر أن من سيقوم بالخطوة الأولى سيظهر نفاذ صبره وتعطشه لإنجاح المفاوضات -أي بلغة أخرى ضعفه. وعندما سُئل في حوار له على قناة “سي بي أس” إن كان سيقوم بخطوة في اتجاه إيران من خلال إلغاء بعض العقوبات، أجاب بايدن بكل بساطة أنه لن يفعل.
من يحتاج أكثر لهذا الاتفاق؟
تبدو إدارة بايدن منقسمة حيال هذه المسألة. فجميع أعضائها يقرون بأن الخروج من هذا المأزق الذي تسبب فيه ترامب أمر واجب. لكن كيف وبأي ثمن؟ نجد من جهة من يرون أن إيران في وضع حرج جدا، خاصة على الصعيد الاقتصادي، وأن صرامتها تخفي رغبة مستعجلة في التوصل إلى حل سريع. وعليه فإن رفع العقوبات قبل التفاوض سيجعل واشنطن تخسر وسيلة ضغطها الوحيدة.
في الجهة المقابلة، يرى آخرون أن الإيرانيين أثبتوا أن الضغط عليهم في الملف النووي لا يجدي نفعا، وأن هذه الفرصة قد لا تتكرر. وقد أرسل الإيرانيون في الأسابيع الأخيرة إشارات عديدة تظهر عزمهم، مثل نشر فيديوهات لصواريخ بعيدة المدى وإعادة إطلاق إنتاج اليورانيوم المخصب بنسبة 20%. كذلك، نشرت وكالة الطاقة النووية في 10 فبراير/شباط تقريرا يؤكد بأن طهران شرعت في إنتاج معدن اليورانيوم، والذي يمكن استعماله لصنع القنبلة النووية. وقد كانت إيران قد أعلنت ذلك في ديسمبر/كانون الأول 2020. وهي من خلال كل هذا تسعى إلى التأكيد على الرسالة التالية: إن أصرت واشنطن على تفويت الفرص -أي إن بقي رفع العقوبات مشروطا-، فسينفذ صبر طهران يوما ما وستقوم بصنع القنبلة. وفي ذلك اليوم، لن يبقى أي موضوع محل نقاش.
أي وساطة بالنسبة لفرنسا؟
بينما يجعل جو بايدن من العودة إلى اتفاق مع طهران حجر زاوية سياسته في الشرق الأوسط، يعبّر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن رغبته في لعب دور “الوسيط المخلص وغير المنحاز”6. لكن الطريق التي يتوخاها في ذلك مفاجئة نوعا ما. فهو يعود عمليا إلى الموقف الفرنسي كما كان تحت رئاسة نيكولا ساركوزي وفرانسوا هولاند خلال السنوات التي سبقت إمضاء خطة العمل الشاملة المشتركة، أي المزايدة في المطالب الموجهة لإيران، وكأن فرنسا تريد في الحقيقة إفشال النقاشات.
فرانسوا نيكولو: توسيع الاتفاق ليشمل الصواريخ البالستية والحد من المصالح الإقليمية لإيران، لن يسفرا سوى عن فشل أي عودة لاتفاق 2015. وإن كان الهم الأساسي هو فعلا إبعاد إمكانية صنع القنبلة النووية، فيجب أن تكون الأولوية المطلقة هي العودة إلى التطبيق التام لنص الإتفاق النووي
لكن ماكرون لم يكتف بهذا القدر. ففي مداخلته أمام المجموعة الفكرية الأميركية Atlantic Council في 5 فبراير/شباط، أكد الرئيس الفرنسي أن إيران “أقرب اليوم من القنبلة النووية مما كانت عليه قبل إمضاء الاتفاق” في 2015، ليطالب بعدها بـ“نقاشات جديدة مع طهران (…) حول موضوع الصواريخ البالستية واستقرار المنطقة”. لكنه لم يتحدث أبدا عن العودة المسبقة لجميع المشاركين لاحترام الاتفاق، وهو ما يشترطه الإيرانيون منذ اليوم الأول.
إذا تابعنا حرفيا تصريحات الرئيس الفرنسي، فهذا يعني عدم تطبيق اتفاق 2015 دون التزام إيراني مسبق بتوسيع مجال تطبيق الاتفاق القادم. وللمزيد من التوضيح، أضاف ماكرون طلبا إضافيا: “إشراك إسرائيل والسعودية في النقاشات”، بحجة أن البلدين “شريكان أساسيان في المنطقة”. لذا، “لا يمكن حل هذا الوضع دون ضمان أن جميع هذه البلدان راضية عن البرنامج الجديد”. بلغة أقل ديبلوماسية، وقبل حتى فتح النقاشات، ها هو “الوسيط الأمين” ماكرون يغلق الباب أمام أي حوار من خلال تبني موقف هو نفسه موقف أشد المعارضين لأي اتفاق.
يرى السفير الفرنسي السابق في إيران فرانسوا نيكولو أن ماكرون مخطئ في ما تقدم به. صحيح أن إيران شرعت في إعادة تكوين مخزوناتها من المواد الانشطارية. لكن من غير المعقول أن يفوق مخزونها اليوم ما كان بحوزتها قبل 2015. من جهتنا، يمكننا تأكيد أنه حتى لو كان ماكرون على حق، فهو أول من يسقط حجته. فإن كانت إيران تمكنت فعلا من إعادة تكوين مخزوناتها خلال فترة وجيزة مثل هذه وبرغم الضغوطات الدولية، وذلك بعد أن قامت بالتخلص من جزء من هذا المخزون لاحترام الاتفاق، فهذا يعني فقط أن عدم العودة لاتفاق 2015 أمر خطير.
كما أن الشرطين الإضافيين – أي توسيع الاتفاق ليشمل الصواريخ البالستية والحد من المصالح الإقليمية لإيران – لن يسفرا سوى عن فشل أية عودة لاتفاق 2015. لكن نيكولو يؤكد: “إن كان الهم الأساسي هو فعلا إبعاد إمكانية صنع القنبلة النووية، فيجب أن تكون الأولوية المطلقة هي العودة إلى التطبيق التام لاتفاق 2015”7.
تناقضات ماكرون
كان بإمكان السفير السابق أن يضيف عائقا إضافيا يهدد بإفشال العودة إلى الاتفاق، وهو طلب ماكرون الغامض بـ“إشراك ولسعودية وإسرائيل في النقاشات”. عن أي نقاشات يتحدث؟ تلك التي ستدور حول الطاقة النووية؟ أو تلك التي ستأتي بعد عودة مسبقة إلى تطبيق الاتفاق؟ في الحالة الأولى، نكون أمام خرق تام لاتفاقية منصوص عليها في القانون الدولي (بموجب قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2231) وسيكون رد الإيرانيين بلا شك الرفض القاطع. وهكذا يصبح “الوسيط” صانع الفشل. أما إذا كان ماكرون يقصد الحالة الثانية، فلم لا يعبر عن ذلك بوضوح أكثر؟
في جميع الأحوال، فنحن نعرف إجابة الإيرانيين. لن تقبل طهران بنقاش حول الصواريخ بحضور تل أبيب والرياض، إلا إذا طُلبت من إسرائيل والسعودية جهود مماثلة. لكن هل نتخيل لحظة واحدة أن إسرائيل – وهي الوحيدة التي تتمتع بالقنبلة النووية في المنطقة والتي لم تُوقع معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية – ستقبل بزيارة محققي وكالة الطاقة النووية لمراقبة ترسانتها الذرية والتخلص منها؟
يبقى السؤال مطروحا: كيف ترى الديبلوماسية الفرنسية “النقاشات الجديدة” مع طهران التي تحدث عنها ماكرون؟ بالنسبة للخارجية الفرنسية، ووفق ديبلوماسي أوروبي، “يرى الإيرانيون أن الأميركيين مدينون لهم وأن الوقت يجري في صالحهم. لذلك، إن قبلنا بعودة تطبيق اتفاق 2015 قبل أي نقاشات، سيعني ذلك ارتياحا كبيرا بالنسبة للإيرانيين. لكن من يضمن لنا أنهم سيقبلون مواصلة النقاشات عندما ستُرفع العقوبات؟ وهكذا، لن يحصل بايدن على أي شيء آخر”. هذا الخطاب هو نفسه خطاب هولاند ووزير خارجيته لوران فابيوس، اللذان كانا يعتبران خطة العمل الشاملة المشتركة غير كافية.
منذ عقد من الزمن، انتشرت عقلية المحافظين الجدد في أعلى مستويات الخارجية الفرنسية. منذ ست سنوات، كان الرئيس أوباما راغبا في تحقيق هذا النجاح ولم يكترث بمشاعر الفرنسيين ومضى قدما بدونهم. وطبعا، قبلت باريس في آخر المطاف بتوقيع الاتفاق. أما اليوم، فلا يزال عداء اليمين الأميركي وجزء من الديموقراطيين المنتخبين تجاه إيران قوياً. كما تفاقم عداء إسرائيل ومملكات الخليج، وقد باتوا حلفاء في هذا المجال. فهل سيفرض بايدن على ماكرون ما فرضه أوباما على هولاند؟
(*) بالتزامن مع “اوريان 21“