لنبدأ من الداخل اللبناني. يمكن للحكومة أن تولد خلال دقيقة واحدة. العقبة الوحيدة العالقة في يومنا هذا باتت محصورة في نقطة واحدة: وزارة الداخلية. لم يعد العدد عائقاً. حكومة من 18 وزيراً إختصاصياً. لا ثلث معطلاً لأحد فيها. التيار الوطني الحر ورئيس الجمهورية يسميان ستة وزراء فيها. لماذا لا تولد الحكومة إذاً؟
“إنها الداخلية”، حسب الوسيط الذي تحرك في كل الإتجاهات وأمكن له أن يضيّق هامش التباينات بين “المُكلفين”. لكن السؤال البديهي: هل تستحق حقيبة الداخلية خراب البلد بعد أن تخطى الدولار الواحد عتبة العشرة آلاف ليرة؟
“حقيبة الداخلية هي الذريعة.. إبحثوا عن الأسباب الخارجية”، يقول مرجع لبناني كبير. إذاً، يقتضي الأمر بحثاً عن أسباب خارجية، بدل الخوض طويلاً في المعطيات الداخلية.
لبنان.. والملف النووي
قبل الإنتخابات الرئاسية الأميركية، لم يكن سعد الحريري ولا ميشال عون يرغبان بولادة حكومة، ولكل أسبابه. الأول، كان يخشى أن يؤدي إدخال حزب الله إلى حكومته ولو بعنوان “وزيرين إختصاصيين” إلى عقوبات أميركية تطاله هو شخصياً أو أحد المقربين جداً منه. الثاني، كان يعتقد أن نتائج الإنتخابات قد تشكل عنصراً مساعداً لإيجاد بديل للحريري نفسه.
أما وأن الإنتخابات صارت وراء ظهر الإثنين، وصار جو بايدن أمراً واقعاً، فإن حسابات الإثنين لم تكن دقيقة أبداً. نحن أمام رئيس أميركي ثمانيني يعرف المنطقة جيداً. حساباته لا تتخطى الولاية الواحدة. الأربع سنوات عملياً هي أقل من سنتين. سقفها الإنتخابات النصفية في تشرين الثاني/ نوفمبر 2022. أولوياته المحلية كبيرة، صحةً (كورونا) وإقتصاداً. أولوياته الخارجية محددة المعالم دولياً (إعادة بناء تحالفات أميركا وإلتزاماتها وشراكاتها مثل الناتو؛ التحشيد ضد الصين وروسيا). أولوياته الإقليمية، ملف إيران النووي. موضوعياً، بات لبنان ومعظم المنطقة جزءاً لا يتجزأ من هذا الملف.
أقصى تنازل إيراني للأميركيين هو ما قدمته طهران للوكالة الدولية للطاقة بصيغة “حل مؤقت”: إنسحاب مفتشي الوكالة وتعطيل عيونهم في قلب المنشآت النووية الإيرانية يقابله إلتزام بإبقاء الكاميرات شغّالة لثلاثة أشهر.. بعدها، يُبنى على الشيء مقتضاه. إذا ردّ حكام الوكالة الدولية يوم الجمعة المقبل بإدانة طهران، ستكون هناك خطوة إيرانية سريعة، الأمر الذي يشي بتدحرج سريع للملف النووي في سياق تصعيدي، تبدت ملامحه بفشل أكثر من وساطة دولية، وآخرها القطرية.
هذه السردية ربما تكون معروفة للكثيرين. ترجمتها اللبنانية في مكان آخر. ليس مسموحاً لسعد الحريري في هذه المرحلة الإقليمية الإنتقالية أن يقدم أية تنازلات يمكن صرفها إيرانياً أو حزب اللهياً. هذا الموقف يدركه الحريري جيداً، ولذلك، ممنوع عليه أن يتنازل عن وزارة الداخلية. الحقيبة السيادية المحسوبة على الطائفة السنية منذ سنوات، باتت هي الدرع، بعدما أخطأ الرئيس المكلف برفع شعار “المداورة”. لذلك، إضطر إلى “تغليف” تمسكه بها بحقه في تسمية وزير مسيحي (محايد) لها، الأمر الذي لن يقبل به عون وباسيل نهائياً.
الحريري.. وبن سلمان
منذ أن تم تكليفه برئاسة الحكومة، حاول الحريري طرق أبواب المملكة العربية السعودية. كل المحاولات، وآخرها عن طريق ولي عهد الإمارات محمد بن زايد باءت بالفشل. قال له السعوديون تفضل للإجتماع بوزير الخارجية فيصل بن فرحان. أجابهم “أريد موعداً مع ولي العهد”. قيل له لاحقاً “سنحاول ترتيب موعد مع خادم الحرمين الشريفين”. رحب الحريري بطبيعة الحال، لكنه تمنى أيضاً تحديد موعد له مع محمد بن سلمان. حتماً سيعود قريباً إلى أبو ظبي. زيارته المقبلة إلى الكويت تندرج في الخانة إياها. طرق أبواب ولي العهد المقفلة بإحكام بوجهه حتى الآن.
نصيحة واحدة تلقاها الحريري من أكثر من عاصمة إقليمية ودولية: حذار إستفزاز ولي العهد السعودي في هذه اللحظة الحرجة!
“الإستفزاز” من منظور هؤلاء، خاصة بعد صدور تقرير المخابرات الأميركية، له ترجمة وحيدة فقط لا غير. أن يتمثل حزب الله، تحت أي مسمى كان، في حكومة برئاسة سعد الحريري. إذا حصل ذلك، على الحريري أن ينسى هويته الثانية وأن يشطب هذه السعودية من حساباته كلياً. حراجة وضع الحريري نقطة بات يدركها معظم أطراف الأزمة السياسية في لبنان، حتى جبران باسيل. الأخير ألمح قبل عشرة أيام إلى أن قناعته راسخة بوجود أسباب خارجية تؤخر تأليف الحكومة “منتركها لوقت لاحق اذا لزم الأمر”. رئيس التيار الوطني الحر كان بتلميحه يشير إلى هذه النقطة تحديداً.
معضلة الحريري مزدوجة الأبعاد: إستفزاز محمد بن سلمان مصيبة وإستفزاز حزب الله مصيبة أكبر. فليكن تكليف بلا تأليف. فرنسا تدرك حراجة موقفه وكذا مصر والإمارات. فليكن الضغط إذاً محصوراً بجبران باسيل. هذا الأمر أخضعه نادي رؤساء الحكومات إلى “التدقيق السياسي”. بادر فؤاد السنيورة إلى سؤال الحريري عما إذا كان يتعرض لضغط فرنسي لتقديم تنازلات لميشال عون، فأجابه رئيس الحكومة المكلف: رئيس فرنسا يدعم موقفي ولا يريد مني أن أقدم أية تنازلات. بالفعل، تواصل الفرنسيون مع رئيس التيار الحر أكثر من مرة طالبين منه هو تقديم التنازلات. قناعتهم راسخة بمعزل عن الصح أو الغلط: مفتاح الحكومة في جيبة جبران باسيل!
الإنهيار وصولاً إلى الفوضى
هذا المناخ يشي بإنسداد سياسي كبير. لكن ما الذي يمكن أن يكسره: إنفجار إجتماعي كبير.
ما شهدته مدينة طرابلس قبل شهر وما يجري حالياً في بيروت ومعظم مناطق لبنان يندرج في خانة “البروفه” قبل الفوضى “الوطنية” الشاملة. الدولار سيتجاوز العشرة آلاف. الدعم سيتوقف حتماً. إحتياطي مصرف لبنان من العملات الصعبة بات عند عتبة الـ 16 مليار دولار. قرض البنك الدولي الأخير بقيمة 246 مليون دولار هو الخرطوشة الدولية الأخيرة بالعملة الصعبة. سفارات الدول الغربية الكبرى والأمم المتحدة تناقش مع الحكومة اللبنانية “المستقيلة” (بكل معنى الكلمة) كيفية تحويل أموال بقيمة ملياري دولار هذه السنة للبنان (رواتب وبرامج بينها دعم اللاجئين السوريين غذائياً)، شرط عدم إستفادة مصرف لبنان المركزي منها ولو بدولار واحد! هذا مؤشر دولي خطير وكبير، يصح معه القول إن الإنهيار اللبناني إلى حد الإرتطام الكبير والفوضى الشاملة لم يعد دونه اي محظور دولي أو إقليمي.
هكذا إنهيار إن حصل إلى أين سيقود؟
حتماً إلى مؤتمر تأسيسي “على الحامي” وليس “على البارد”. هذه عادة اللبنانيين منذ القائمقامية والمتصرفية إلى يومنا هذا.
من سيكون معنياً بتقديم تنازلات في هكذا مؤتمر؟
إذا كنا نتحدث عن الصيغة، حتماً ليس المسيحيون. ليس الشيعة. ليس الدروز.
إذا كان المقصود الصيغة ومن ضمنها السلاح، فهذا أمر يتجاوز لبنان إلى الإقليم.
هل يملك محمد بن سلمان الجواب، فينصح سعد الحريري ويلاقيه حزب الله بنصيحة مماثلة لجبران باسيل: إنتهى زمن اللعب بمصير لبنان واللبنانيين.. للبحث صلة.