خطأ بايدن “القاتل”.. خطآن استراتيجيان
WASHINGTON, DC March 25, 2021: US President Joe Biden answers questions from reporters during his first formal news conference in the East Room of the White House on March 25, 2021. (Photo by Demetrius Freeman/The Washington Post via Getty Images)

في ذروة التصعيد الاميركي ضد الصين والاستنفار الشامل ضدها، وصف الرئيس جو بايدن نظيره الروسي فلاديمير بوتين بالقاتل ما استجلب تلاسناً غير مألوف بين زعيمي دولتين كبيرتين، واستيقظت معه اشباح الحرب الباردة.. فاين الحكمة وفي أي سياق إستراتيجي قررت واشنطن خوض هجوم ضد خصمين دوليين في التوقيت نفسه؟ وماذا ستكون ارتداداته؟

“الفيتو” المزدوج الروسي – الصيني الذي تكرر اكثر من مرة في السنوات الاخيرة في مجلس الامن الدولي، في قضايا وملفات دولية عديدة، شكّل سابقة في العلاقات الديبلوماسية، واظهر تقارب موسكو وبيجينغ في مواجهة السياسات الغربية ولا سيما الاميركية.. لكن مهلاً هذا التقارب لم ينتج بعد تحالفاً تتلاشى فيه الخصوصيات والمصالح القطرية والحسابات المعقدة، ويذوب فيه الطرفان حتى يصيران واحداً.
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، شهدت العلاقة الروسية – الصينية الكثير من التعقيدات والتقلبات بين تحالف وتنافس وصولا الى نزاعات محدودة. صحيح ان مؤشرات العلاقة الاقتصادية بين الجانبين تتطور ايجابياً ويبرز ذلك بتوقيع اتفاقيات الشراكة الإستراتيجية (بينها صفقات عسكرية بعشرات مليارات الدولارات)، لكن الجانبين أمكنهما تجاوز خلافات أساسية ومهمة وأبرزها نزاعهما الحدودي. كما جمعتهما ديبلوماسية التضامن على الساحة الدولية في مواجهة سياسة العقوبات الغربية، والرغبة الثنائية في الحد من تأثير التفرد الأميركي في قيادة العالم، بعد إنهيار الإتحاد السوفياتي.
هذا التنامي المضطرد في العلاقات بين الجانبين، لا يلغي المخاوف والهواجس المتبادلة، وهو ما يجعل التباين في الرؤية الإستراتيجية بين هاتين القوتين حاضراً في أذهان صناع القرار والمهتمين. بالنسبة الى روسيا، فإن هناك جملة من المخاوف حول مستقبل العلاقة مع الصين، تستند إلى التنافس بينهما في آسيا الوسطى، ومنطقة الشرق الأقصى. ففي آسيا الوسطى، تتمدد الصين في منطقة نفوذ روسية تقليدية، وفي الشرق الأقصى، تنظر موسكو بارتياب الى امتلاك الصين لأكبر قوة دبابات في العالم، وهو ما يعطي إشارة بأن العقل الإستراتيجي الصيني لا يزال يعتبر أن الجوار البري هو مصدر التهديد الرئيسي، بينما تبرز التحديات الصينية الأمنية والإستراتيجية من مصدر آخر هو البحار المشاطئة لها!
وتظهر مشكلة الروس بشكل واضح في التفاوت الديموغرافي الهائل على جانبي الحدود في السهوب السيبيرية، حيث يعيش 120 مليونا على الجانب الصيني، بتشجيع من بكين، مقابل أقل من 15 مليون روسي على الطرف الآخر.
وفي الاتجاه الآخر، تتحكم بالصين مخاوف تتعلق بطبيعة النخبة الروسية الحاكمة وتوجهاتها المستقبلية، ولا سيما منها ما يسميه الصينيون “الجناح الليبرالي الغربي في أروقة صنع القرار بموسكو.” واذا كان فلاديمير بوتين ونظيره الصيني شي جين بينغ يضطلعان اليوم بدور رئيسي في تحديد مسار ومستقبل العلاقات بين البلدين، فان بيجينغ تخشى من وجود نزعات لدى بعض النخبة الروسية تبتعد عن توجهات بوتين الحالية وتريد دفع روسيا بإتجاه آخر.
ويعد التباين في المقومات بين الجانبين أحد أهم تحديات العلاقة، وخاصة من الجانب الصيني. ترى بيجينغ أن السوق الروسية محدودة مقارنة بالأسواق الغربية والآسيوية. فروسيا، التي يبلغ عدد سكانها عُشر سكان الصين (147 مليون نسمة مقابل 1.5 مليار نسمة)، ويمثل حجم اقتصادها أقل من عُشر نظيره الصيني (1.6 تريليون دولار مقابل 18.8 تريليون دولار) لا يمكنها مجاراة الصين. وعسكريا لا يمكن لروسيا ولا للصين دعم الاحتياجات الإستراتيجية للطرف الآخر. فالتهديد الأساسي الذي يواجه الصين آت من البحر، والقدرة البحرية الروسية محدودة. في حين ان التهديدات الرئيسية التي تواجه روسيا هي بالأساس برية. وقدرة الصين على إرسال قوات إلى المناطق ذات الاهتمام الروسي محدودة. كما ان لدى كل من الصين وروسيا معادلة خاصة للعلاقة مع الولايات المتحدة. وفي المقابل، لدى الاخيرة محركاتها الخاصة للعلاقات مع كل من موسكو وبيجينغ، ذلك ان الاعتمادية التجارية التي تحكم العلاقة الأميركية الصينية لا وجود لها في حالة روسيا، بل يقابلها إدراك أميركي بأن موسكو تمثل الحلقة الأضعف في المعادلة بين القوى الثلاث.
باختصار التقارب الروسي الصيني تحكمه المصالح القريبة. وتعد سياسات الضغوط والعقوبات الأميركية تجاه موسكو وبيجينغ أحد أهم العوامل التي أدت إلى دفع الجانبين إلى تعزيز علاقاتهما وإنشاء أطر ثنائية وإقليمية وحتى دولية رديفة للأطر التقليدية. أما على المستوى البعيد المدى، فمن المتوقع أن يواجه مسار العلاقات تحديات تتعلق بالتنافس الإستراتيجي على النفوذ في المجال الحيوي المشترك، والتباين في طبيعة القوة ومستقبلها، والتحولات البنيوية التي قد تحدث في النخبة الحاكمة الروسية ما بعد بوتين.
في المقابل، وبدل اعتماد سياسة الاحتواء المزدوج للدولتين، او استغلال الارتياب المتبادل وعوامل الفرقة والمصالح الاقتصادية والجيوسياسية المتناقضة بين روسيا والصين وتضخيمها، للتاثير سلباً على المسار العام للعلاقات بين الطرفين، ارتكب بايدن الخطأ “القاتل” بخروجه عن اللياقات الديبلوماسية بوصفه بوتين بـ”القاتل”، وبشنه هجوما مزدوجا على الصين وروسيا في آن واحد متجاهلاً كل تحذيرات الاستراتيجيين الاميركيين الكبار امثال زبيغنيو بريجنسكي وجورج شولتس من خطر الدخول في مواجهة مع خصمين رئيسيين في وقت واحد. وهذا ما اعطى موسكو وبيجينغ جرعة اوكسيجين جديدة لتعميق تقاربهما والتلاقي اكثر واكثر. وجرى التعبير عن ذلك بزيارة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف لبيجينغ مؤخراً في اعقاب الاجتماع الصاخب الصيني ـ الاميركي في الاسكا وبعد النعت الذي اطلقه بايدن على بوتين، ليبرز مجدداً السؤال: إلى أي مدى سيدفع الضغط الأميركي الجانبين إلى مزيد من التقارب؟

على المستوى البعيد المدى، من المتوقع أن يواجه مسار العلاقات الروسية-الصينية تحديات تتعلق بالتنافس الإستراتيجي على النفوذ في المجال الحيوي المشترك، والتباين في طبيعة القوة ومستقبلها، والتحولات البنيوية التي قد تحدث في النخبة الحاكمة الروسية ما بعد بوتين

قبل عقود، كان انفتاح الرئيس ريتشارد نيكسون على الصين عنصراً أساسياً في دفع الاتحاد السوفياتي نحو إعتماد سياسة الانفراج وإبرام اتفاقيات هلسنكي. وكان يمكن لبايدن اتخاذ اجراءات مماثلة للحد من مخاطر التعاون الروسي الصيني، عبر تعزيز التعاون الاميركي الروسي، والاوروبي الروسي، لا سيما ان ملفات عدة تحتاج الى مثل هذا التعاون على غرار الملفين السوري والافغاني، وملف الطاقة والغاز. لكن واشنطن اختارت فرض العقوبات والضرب على اماكن الوجع في المدى الحيوي الروسي في اوكرانيا وبيلاروسيا والقوقاز.
وحتى لو لو كانت واشنطن تعتبر موسكو وبيجينغ عدوين، كان بامكانها التصويب على واحد وتجاهل الاخر. انطلاقا من معادلة ان هناك أعداء يمكنك تجاهلهم اليوم لأنه، يمكنك قتلهم غداً.
على الارجح ان بايدن وهو المخضرم في السياسة الخارجية، يدرك مخاطر سياسات كهذه وهو الذي جعل الديبلوماسية عنوانا لاداراته، لكن على ما يبدو، لا يزال يعيش هاجس سلفه دونالد ترامب الذي يكبل حركته ويجعله اسير ردات فعل وليس الفعل. ذلك ان ما يشتبه في انه تدخل روسي في الانتخابات الاميركية ما قبل الاخيرة، وتساهل ترامب ازاء السياسات الروسية، بات المحرك الرئيس للسياسات المتشددة لبايدن ازاء موسكو.
والامر نفسه ينطبق على الصين التي تشكل التهديد الاكبر لواشنطن، على اعتبار ان سياسات ترامب تجاهها عزز نفوذها وقوتها بدلا من تطويقها ومحاصرتها. لذا يبدو ان بايدن مهتم بإثبات أنه مناهض لسياسات ترامب أكثر من التعامل مع الخطر الفعلي لروسيا والصين. ولا يستبعد ان يتحول الانقسام الداخلي الشديد في اميركا والذي اظهرته الانتخابات الرئاسية الاخيرة وما تلاها من احداث درامية، المحرك الخفي للسياسة الخارجية الاميركية، الامر الذي قد يجر الى مغامرات غير محسوبة ومدمرة للعلاقات الدولية.. وهنا الخطأ الثاني “القاتل”.
وبرغم تأثير تنامي قدرات الصين وروسيا وتطور العلاقة بينهما، فإنه من المبكر الحديث عن تحولات جذرية يقودها تحالف بين الاثنين في بنية النظام الدولي. فلا الصين، ولا روسيا بطبيعة الحال، ولا العلاقة بينهما، تملك الأهلية لإحداث تحولات جذرية في بنية هذا النظام. لكن دفع المصالح الروسية والصينية الى مزيد من التلاقي وتعزيز تعاونهما، سيشكل أكبر تحدٍّ إستراتيجي لواشنطن، وسيحد من قوتها ومكانتها، وسيسرع عملية التحول نحو عالم متعدد الأقطاب، وبالتالي إعادة تشكيل القواعد والمعايير الدولية لصالح روسيا والصين.

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  2021: هبوط قياسي للدولار إحتفاء ببايدن ولقاح كورونا
أمين قمورية

صحافي وكاتب لبناني

Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  نائل الشافعي لـ"180": الصراع على غاز المتوسط أميركي – روسي