أوروبا المأزومة إقتصادياً تضع يدها بيد الصين!

خلال الساعات الماضية، قام الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون تصاحبه أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، وعدد من رجال الأعمال الفرنسيين بالإضافة إلى عدد آخر من المسئولين الأوروبيين بزيارة رسمية إلى الصين تستمر لمدة ثلاثة أيام. الزيارة هى الخامسة لزعيمة وزعيم أوروبى إلى بكين منذ نوفمبر/تشرين الثاني الماضى

سبق إيمانويل ماكرون وأورسولا فون دير لاين، إلى العاصمة الصينية، كل من المستشار الألمانى أولاف شولتس، رئيس المجلس الأوروبى تشارلز مايكل، ورئيس الوزراء الإسبانى بيدرو سانشيز. وباستثناء بعض المباحثات لدعم العلاقات التجارية بين أوروبا والصين، لم يتمكن أى من هؤلاء القادة من التوصل إلى اتفاق سياسى مع الصين بشأن أوكرانيا وتحديدا بخصوص التوصل إلى شجب صريح للاحتلال الروسى للأخيرة!
ففى خلال زيارة المستشار الألمانى إلى بكين، تم استئناف المباحثات التجارية بين البلدين، كما شجبت الصين السباق النووى دون إشارة أو شجب واضح وصريح للسياسة الروسية فى هذا الإطار. وخلال زيارة رئيس المجلس الأوروبى، حصل الأخير على دعم صينى عام لوساطة الاتحاد الأوروبى لإنهاء الحرب فى أوكرانيا دون مزيد من التوضيح!
أما أكبر المكاسب السياسية فقد كانت بحسب «فايننشال تايمز» خلال زيارة رئيس الوزراء الإسبانى، حيث أكدت الصين اعترافها بسيادة أوكرانيا وحقها فى الوجود، لكن مرة أخرى من دون الحديث عن طبيعة أو حدود هذا الوجود وفى ظل سكوت تام عن الاحتلال الروسى! أما هذه المرة وبرغم محاولات ماكرون الحصول من بكين على تعهدات أو التزامات أكثر صراحة بخصوص الحرب الأوكرانية، فإن بكين مرة أخرى فضلت أن تمسك العصا من المنتصف، فرغم إعلان الرئيس الصينى شي جين بينج رفضه صراحة للتلويح باستخدام السلاح النووى، إلا أنه مجددا لم يشر لا من قريب ولا من بعيد إلى روسيا!

***

يرى بعض المحللين، أن زيارة ماكرون مختلفة كونها ليست فقط زيارة لدعم العلاقات الثنائية الفرنسية الصينية، ولكنها تحمل طابعا أكثر أوروبية من الناحية المؤسسية بسبب وجود رئيسة المفوضية الأوروبية فى نفس الزيارة، لكن آخرين قللوا من أهمية وجود أورسولا فون دير لاين، كون الأخيرة لم تحظَ بنفس الاستقبال الذى حظى به ماكرون وتم الاكتفاء باستقبالها بشكل شديد المحافظة مما يقلل من إمكانية اعتبار هذه الزيارة «قمة» أوروبية ــ صينية!
من زاوية الاتحاد الأوروبى ودوله، فإن هناك قناعة واضحة، أن الصين وحدها هى من فى يدها الضغط على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للانسحاب من أوكرانيا، كذلك فهناك رغبة أوروبية موازية فى عدم التضحية بالعلاقات التجارية مع الصين والحفاظ على العلاقات الاقتصادية معها! فماكرون الذى حاول إقناع الرئيس الصينى بضرورة التحدث مع الرئيس الأوكرانى فولوديمير زيلنيسكى عبر الهاتف، حرص فى الوقت نفسه على اصطحاب عشرات رجال الأعمال الفرنسيين لعقد صفقات تجارية واقتصادية مع الصين! وبرغم أن الرئيس الصينى قد أكد على استعداده للحديث مع زيلينسكى، إلا أنه وفى الوقت ذاته أشار إلى أن ميعاد وظروف هذه المكالمة لم تأتِ بعد وأنه فى انتظار الظروف المناسبة، دون أن يحدد ماهية هذه الظروف!

***

مرة أخرى تواصل الصين منهجها الواضح التى بدأت باتباعه خلال الشهور القليلة الماضية فى سياستها الخارجية، حيث السعى للعب دور الوسيط الدولى والاستخدام المكثف للأدوات الدبلوماسية، ولكن من دون وضع تعهدات أو التزامات صارمة مما يجعل الكثير من المتابعين يتهمونها دائما بالمراوغة!

وفى مقابل ذلك، لا تجد أوروبا المأزومة اقتصاديا بدا من الحفاظ على علاقاتها التجارية ببكين واستمرار الضغط على الأخيرة لإقناعها بحل الأزمة الأوكرانية برغم المراوغة الواضحة للأخيرة، فلا تملك أوروبا أى خيار آخر ليس فقط بسبب ظروفها الاقتصادية، ولكن بسبب تدهور العلاقات الصينية الأمريكية إلى أدنى مستوياتها خلال العقدين الأخيرين، وهو ما أدى إلى ضعف حضور الولايات المتحدة فى المسرح الأوروبى وهو وضع لم تعتد عليه أوروبا من واشنطن، خصوصا أن الغياب الأمريكى الدبلوماسى عن هذه الساحة من المتوقع أن يتزايد خلال الأشهر القادمة وخصوصا مع بداية المعركة الانتخابية على الرئاسة الأمريكية، وهو غياب قد يغرى روسيا بالمزيد من التوسع وإشعال المزيد من الأزمات التى لن يتحمل كلفتها الاتحاد الأوروبى!
ففى الوقت الذى يزور فيه الزعماء الأوروبيون بكين، فإن التلاسن الصينى الأمريكى لا يزال مستمرا بسبب عبور رئيسة تايوان الولايات المتحدة فى طريقها ذهابا وإيابا إلى أمريكا اللاتينية، فبعد أن قابلت الرئيسة التايوانية رئيس مجلس النواب الأمريكى فى لوس أنجلوس يوم الأربعاء الماضى، هددت وزارة الخارجية الصينية بالرد القاسى على الزيارة والمقابلة معلنة استعداد بكين لمناورة عسكرية كبيرة بالقرب من مضيق تايوان واتخاذ ما يلزم من إجراءات أخرى للدفاع عن سيادتها، بل وفى رسالة تهديد واضحة فقد عبرت ٩ مقاتلات صينية المضيق ما دفع تايوان لمطالبة الرئيس الأمريكى جو بايدن بإمدادات عسكرية إلى حكومة تايبيه، وبرغم تردد إدارة بايدن فى تزويد تايبيه بهذه الأسلحة فإن عضو لجنة العلاقات الخارجية بمجلس النواب مايكل ماكول والذى يقوم بزيارة تستمر لثلاثة أيام إلى تايوان أكد أن جدول أعماله يشمل مناقشة تلك الصفقة المحتملة، منوها أن الكونجرس لن يتردد فى مناقشة جادة لتزويد تايوان بالأسلحة في حال تعرض الأخيرة لهجوم صينى، بل وتعالت بعض الأصوات المقربة من الحزب الجمهورى فى واشنطن أخيرا لمطالبة إدارة بايدن صراحة بإعلان اعترافها بالسيادة المستقلة لتايوان!

إقرأ على موقع 180  ثالث إنتخابات إسرائيلية في سنة: أزمة هوية.. و"قيصر" فساد

***

برغم التحالف الأوروبى الأمريكى فى مواجهة روسيا عسكريا وسياسيا فإن الطرفين ليسا على نفس درجة التفاهم بخصوص العلاقات مع الصين! ففى العام ٢٠٢١ صدّر الاتحاد الأوروبى إلى الصين سلعا بـ ٢٢٣ مليار يورو فيما استورد منها سلعا بمقدار٤٧٢ مليارا، وفى نفس الوقت الذى صدّرت فيه بكين إلى الاتحاد الأوروبى خدمات بمقدار ٣١ مليار يورو، صدّر الأخير إلى الأولى خدمات بمقدار ٤٧ مليار يورو! بعبارة أخرى، البعد التجارى والاقتصادى بالإضافة إلى التجاور الأوروبى لروسيا يجعل الاتحاد الأوروبى فى وضع مختلف عن الولايات المتحدة حينما يتعلق الأمر بالصين!
لا يعنى هذا بكل تأكيد وجود خلافات حادة بين الأوروبيين والأمريكيين، لكن هناك مصالح وحسابات مختلفة بين الطرفين تجعل الصين هى المستفيد الأكبر! فمن ناحية، تفهم الصين جيدا وضعها القوى فيما يتعلق بروسيا حيث لا يملك بوتين الكثير من الخيارات بشأن بكين كما سبق وشرحنا فى مقالة سابقة، كما أن الأخيرة تدرك جيدا حاجة الأوروبيين لها من الناحية السياسية والاقتصادية وهو وضع يخدم تماما سياسة الصين الساعية إلى الهيمنة العالمية على النظام الدولى، وخصوصا أن التقديرات فى بكين أن تهديدات واشنطن واهية ولا تخرج عن كونها مناورات سياسية لخدمة الصراع الديموقراطى/الجمهورى فى الانتخابات الرئاسية القادمة!

(*) بالتزامن مع “الشروق

Print Friendly, PDF & Email
أحمد عبدربه

مدرس النظم السياسية المقارنة بجامعة القاهرة وأستاذ مساعد زائر للعلاقات الدولية بجامعة دنفر

Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  هل قلتم.. قنبلة نووية في الجنوب؟