أزمة الذات الإمبراطورية.. فقدان المرجعية وأزمة التبعية

دخلت الولايات المتحدة الأميركية، منذ فترة ليست بالقصيرة، مرحلة انحدار سبق أن تحدث عنها كتّاب ومفكرون كثيرون، ومنهم المؤرخ بول كينيدي، وبدا الأمر جلياً خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة وما حدث بعد ظهور النتائج التي أسفرت عن خسارة الرئيس السابق دونالد ترامب، وخصوصاً اقتحام مؤيديه مبنى الكابيتول هيل، رمز الديمقراطية الأميركية.

كانت أنظار المراقبين في دنيا العرب والعالم مشدودة إلى الأطراف الإيرانية والعربية لـ”الإمبراطورية الأميركية”، وسط مخاوف من انفجار ينتج من التصعيد العسكري الأميركي والاستنفار المعلَن ضد إيران في منطقة الخليج، فإذا بالانفجار يقع في مركز الإمبراطورية في واشنطن، حيث تعرّض مقرّ الكونغرس الأميركي لمحاولة انقلاب استهدفت آليات الديمقراطية الليبرالية، وتحديداً عملية انتقال السلطة إلى إدارة جديدة يقودها الرئيس جو بايدن.

هذا المشهد الذي يحيل على الهيبة الأميركية في العالم، لا سابق له في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية، وقد يُغري الباحث باستحضار نظرية المؤرخ بول كينيدي بشأن صعود الدول الكبرى وهبوطها عبر التاريخ،[1] والذي تنبّأ بانحدار سريع للإمبريالية الأميركية بفعل التمدد الجغرافي المفرط لمناطق سيطرتها وقواعدها العسكرية، وعجز الموارد الاقتصادية الأميركية عن تغطية متطلبات حماية الإمبراطورية.

ولأن هذا الموضوع يثير فينا الرغبة في المتابعة نظراً إلى التشوش الذي رافق احتجاب التراجع الأميركي وراء الانهيار السوفياتي، ترانا نستعيد محاولة صاموئيل هنتنغتون في “صراع الحضارات” المنشورة في مجلة “الشؤون الخارجية” في صيف سنة 1993، والتي تنطحت لتقديم تفسير لما اعتبره مرحلة جديدة في السياسة العالمية: الانقسامات الكبرى بين البشر ستكون ثقافية، والمصدر الأكبر للصراع سيكون ثقافياً؛ صراع الحضارات سيسيطر على السياسة العالمية؛ الصراع الأكبر سيكون بين الحضارة الغربية والحضارتين الإسلامية والكونفوشية.[2] وما لبثت محاولة هنتنغتون أن تحولت إلى كتاب في سنة 1995 بعدما أثارت نقاشاً واسعاً، علماً بأنها في الحقيقة لم تكن سوى واحدة من المحاولات الفكرية والسياسية التي ظهرت مع انتهاء الحرب الباردة لرسم خريطة الوضع العالمي الجديد، ومنها أطروحة فوكوياما عن “نهاية التاريخ”، وأبحاث بول كينيدي وإريك هوبز بوم التي انكبّت على النظر في أبعاد النزاعات في الألفية الجديدة. وعندما أخضع المفكر والناقد الفلسطيني إدوارد سعيد مقولة هنتنغتون للتحليل النقدي النافذ وجد أنها في الأصل فكرة لبرنارد لويس، وأنها ليست سوى صيغة أُعيد تدويرها من أطروحات الحرب الباردة، وفحوى هذه الأطروحة هو أن الصراعات في عالم اليوم والغد ستبقى أيديولوجية لا اقتصادية واجتماعية، وأن الأيديولوجيا الغربية ستكون المركز الذي تدور حوله الأيديولوجيات الأُخرى. والنتيجة أن الحرب الباردة مستمرة، لكنها تجري هذه المرة على عدة جبهات مع وجود عدد أكبر من نُظم القيم والأفكار (كالإسلام والكونفوشية) التي تكافح من أجل التفوق على الغرب، بل السيطرة عليه. وفي المقابل أكد ادوارد سعيد أن “السؤال الحقيقي في نهاية المطاف هو ما إذا كنا نريد أن نعمل من أجل حضارات منفصلة، أو ما إذا كان علينا أن نسير في الطريق التكاملي الذي قد يكون الأصعب، وهو أن نراها كلاً ضخماً يصعب على أي فرد رؤية تضاريسه، لكننا نستطيع أن نحدس بوجوده حدساً. في كل الأحوال هناك عدد من علماء السياسة والاقتصاد والمحللين الثقافيين وهم يتكلمون عن نظام عالمي تكاملي.”[3]

التوتر والاضطراب الناتجين من التصعيد الأميركي ضد إيران، والرغبة الأميركية في التحكم في مصادر الطاقة الأوروبية واليابانية والصينية، لا يمكن سوى أن تدفع إلى اعتبار روسيا، المنتج الثاني للنفط العالمي والمنتج الأول للغاز الطبيعي، شريكاً ضرورياً

إن الوقوف عند ديناميات التفاعل البنيوي في النظام الإمبريالي، وإن كان يساعد في تحليل ظاهرة صعود الإمبراطورية الأميركية ثم انكفائها إلى طور التحلل والتفكك، يستدعي في الوقت نفسه البحث في أصل الهيمنة، أي التحولات الطارئة في القاعدة الإمبريالية، أو المتروبول، والتي يمكن تلخيصها استناداً إلى إيمانويل تود عالِم الأنثروبولوجيا والتاريخ على النحو الآتي: تراجع قدرات أميركا الاقتصادية والعسكرية والأيديولوجية لم يعد يسمح لها بالتحكم فعلاً بعالم شديد التنوع والحيوية، كما أنه في اللحظة التي يختبر العالم التعددية القطبية ويفكر في الاستغناء سياسياً عن أميركا، تبدأ هذه الأميركا بفقدان طابعها الديمقراطي، ولا يعود هدفها الدفاع عن نظام دولي ليبرالي لا يشعر بالحاجة إليها.[4]

أمام هذه المعضلة الحقيقية، كان على أميركا أن تجد مخرجاً كي تبقى في مركز العالم عبر نشاطات عسكرية “مسرحية” تركز على دول ضعيفة مثل أفغانستان والعراق والصومال وفنزويلا وسورية، أو دول أُخرى قد يُحسب لها حساب في القدرات الدفاعية مثل الصين وروسيا وإيران من دون أن تكون مستعدة للانخراط في حرب مدمرة. ويرافق هذه النشاطية العسكرية التي يصنفها إمانويل تود ضمن “النزعة العسكرية الصغيرة”، دبلوماسية استعراضية غير مُعدّة للوصول إلى حل نهائي أو حل عادل لأي مشكلة إقليمية أو دولية.

ولا تلبث النزعة العسكرية المسرحية أن تثير تحفظات الحلفاء الأوروبيين واليابانيين في نهاية المطاف، وخصوصاً مع اعتقاد المسؤولين الأميركيين أن أفضل ما قد يخسرونه جرّاء غزو العراق وتدميره (2003) هو تقارب بين روسيا والصين وإيران لا يلبث أن يدفع أوروبا واليابان كقوّتين صناعيتَين إلى قبول الخضوع الكامل للهيمنة الأميركية. لكن ذلك لم يتحقق لأن الاتحاد الأوروبي أخذ يدرك أن روسيا لم تعد تمثل تهديداً استراتيجياً.

كان يمكن لتأمين السيطرة على منابع النفط في الخليج وآسيا الوسطى، أن يبدو هدفاً معقولاً للنشاطية الأميركية في دائرة دول ضعيفة، لكن سرعان ما تبيّن أنه لم يعد مجدياً لإخراج أميركا من دائرة التبعية الاقتصادية التي باتت شاملة مع انتقال القطاع الصناعي الأميركي إلى الخارج. وعندما تعمل النشاطية الأميركية على الإيحاء بأنها قادرة على تأمين الحماية لبعض النخب الخليجية العربية في مواجهة خطر إيراني مزعوم، فإنها هنا أيضاً تثير ردات فعل سلبية واضحة؛ ذلك بأن التوتر والاضطراب الناتجين من التصعيد الأميركي ضد إيران، والرغبة الأميركية في التحكم في مصادر الطاقة الأوروبية واليابانية والصينية، لا يمكن سوى أن تدفع إلى اعتبار روسيا، المنتج الثاني للنفط العالمي والمنتج الأول للغاز الطبيعي، شريكاً ضرورياً.

 تطبيقات إسرائيلية؟

لنحاول الآن أن نجد تطبيقات للإشكالية الإمبراطورية للمركز والأطراف، في الحقل الذي يعنينا عن قرب، وهو الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي والعربي – الإسرائيلي. فإذا اعتمدنا الفرضية القائمة وفحواها أن الدينامية السوسيولوجية الأميركية تنساق نحو قبول عدم المساواة بين البشر، في ظل مناخ لحرب أهلية باردة رافق انتخاب الرئيس السابق دونالد ترامب ولا يزال قائماً مع انتقال السلطة في واشنطن إلى الرئيس جو بايدن وانقسام أميركا إلى معسكرَين أيديولوجيين إلى أجل غير مسمى من العجز الاقتصادي والاستراتيجي،[5] فإنه يمكن أن نطبّق هذه الفرضية على دولة إسرائيل التي تتلازم سياستها إزاء العرب الفلسطينيين مع تفكك داخلي جرّاء عدم المساواة الاقتصادية ومظاهر التعصب العرقي والديني. وهذا يعني أن المجتمع الإسرائيلي الذي يواجه هو أيضاً ظاهرة التفكك الداخلي، ينقاد مثل المجتمع الأميركي نحو التخبط في حمّى عدم المساواة والتمييز العنصري. وليس سراً أن التفاوت في المداخيل الإسرائيلية بات بين الأكبر في العالم “المتطور والديمقراطي”، بينما جدران الانعزال تباعد بين مختلف المجموعات المكوِّنة للمجتمع الإسرائيلي، والتي تشمل العلمانيين والمتدينين الأصوليين واليهود الغربيين والشرقيين والمزراحيم.

بات نتنياهو في غياب شريكه ترامب، على شفير السقوط النهائي أمام النائب العام الذي قدّم ضده دعوى فساد تتهدده بالسجن. ومن المستبعد أن تسفر الانتخابات الإسرائيلية المقبلة في حزيران/ يونيو عن توفير علاج للانقسامات التي تزداد حدة في المجتمع الإسرائيلي

أكثر من ذلك، فإن التناغم بين السياستَين الأميركية والإسرائيلية إلى حدّ جعل إدارة ترامب تتصور أنه يمكنها التصرف في الحقوق الثابتة وغير القابلة للتصرف للشعب الفلسطيني، ومنح دولة الاحتلال الاستيطاني والأبارتهايد السيادة الكاملة على مدينة القدس والضفة الغربية، يوحي بأن إسرائيل أُلحقت بـ”الإمبراطورية الأميركية” من دون الحاجة إلى أن تعلَن رسمياً ولاية أميركية!

طبعاً هناك تفسير آخر لهذا التعلق الأميركي العضوي بإسرائيل على حساب المصالح الأميركية في العالم العربي، وهو يقودنا إلى ذكر عوامل ثقافية توراتية وأُخرى استيطانية وتاريخية تتعلق ببنية الدولتين، لكن المجال هنا لا يسمح بالتوسع في هذا الموضوع المتعلق بالقواسم المشتركة بين الحالتَين الأميركية والإسرائيلية، فكلتاهما في وضع حرج للغاية يفسر قرار نقل إسرائيل لتكون تحت مظلة القيادة الأميركية في الشرق الأوسط.

في أي حال، لقد أُسدلت الستارة على الفصل الأول من المشهد الأميركي الحافل بأجواء الانقسام والارتباك، مع سقوط دونالد ترامب “عرّاب” مشروع التطبيع الصغير (مقارنة بالتطبيع المصري والأردني)، ومروّج صفقة “الحل النهائي” التي تريد أن تسوّق لتسوية وهمية للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي؛ كما أن الفرصة لم تتوافر للرئيس الأميركي السابق كي يقطف ثمار اتفاقات التطبيع بين إسرائيل ودولة الإمارات ومملكة البحرين والسودان والمغرب، إذ انفجرت الأزمة السياسية الإسرائيلية بانهيار تحالف بنيامين نتنياهو مع منافسه “أزرق – أبيض” وحلّ الكنيست وإعلان الذهاب إلى انتخابات جديدة وانقسام تكتل الليكود. وهكذا بات نتنياهو في غياب شريكه ترامب، على شفير السقوط النهائي أمام النائب العام الذي قدّم ضده دعوى فساد تتهدده بالسجن. ومن المستبعد أن تسفر الانتخابات الإسرائيلية المقبلة في حزيران/ يونيو عن توفير علاج للانقسامات التي تزداد حدة في المجتمع الإسرائيلي.

ويبقى أن الأمر المثير للسخرية والقلق في آنٍ معاً، هو مفهوم المقايضة في هذه الدبلوماسية الأميركية الاستعراضية، كأن يُرفع اسم السودان من قائمة للإرهاب، وهو غير معنيّ بهذا، وذلك في مقابل التطبيع مع إسرائيل الذي يخفي رهاناً على تسهيل حصول الخرطوم على قروض دولية؛ أو أن يجري إغراء السلطات المغربية عن طريق تعديل الموقف الأميركي من قضية الصحراء الغربية، وهذه خطوة بات معروفاً أن الإدارة الأميركية الجديدة ستتراجع عنها، علاوة على أن تحقق رهان الخرطوم ليس مؤكداً.

إقرأ على موقع 180  حزب الله في مواجهة أميركا والداخل.. والذات!

وإذا كانت الخطط المعلنة والخطوات التنفيذية الأولى لإدارة بايدن، تشير إلى أسلوب مغاير في التعامل مع المشكلات الداخلية والخارجية التي تعصف بالإمبراطورية، ولا سيما الأزمة الصحية الناتجة من تفشّي فيروس كورونا ومشكلة الهجرة، فضلاً عن إعادة النظر في قرار ترامب الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ والعودة إلى منظمة الصحة العالمية، فإنه يتعين خفض التوقعات العربية في شأن أي اختراق للجدار الجيوسياسي الذي ساهمت دبلوماسية ترامب في بنائه حول “إسرائيل”، حتى إن كان الالتزام بإعادة إحياء “خيار الدولتين” في فلسطين ما زال ممكناً نظرياً في إطار مفهوم إدارة الأزمة التي تفيد الكيان الصهيوني. كما بات واضحاً، انطلاقاً من التزامات بايدن الصهيونية، أن الضغوط الأميركية ستتواصل في محاولة لدفع مزيد من الدول العربية والإسلامية كي تحذو حذو دولتَي الإمارات والبحرين في تطبيع العلاقات مع إسرائيل، من دون أن يمنع هذا الاتجاه من محاولات التهدئة مع إيران وربط الاستعداد المبدئي للعودة إلى الاتفاق النووي بمفاوضات طويلة لتوسيع “خطة العمل المشتركة الشاملة” بحيث تشمل سلاح الصواريخ الباليستية وتوسُّع دائرة النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط، وهذا طبعاً من دون أن تتخلى الإدارة الأميركية الجديدة عن مكتسبات سياسة العقوبات.

الموضوع المهم في الظروف الحالية هو الوقوف على متغير تفسيري مقنع للسلوك الأميركي في السياسة الخارجية التي يكمن المفتاح فيها في الاستدارة من الشرق الأوسط إلى الصين، في مسار جيواستراتيجي يتّسم بالتخبط والعدوانية

 التوازن مع التحدي الصيني

في هذا الوقت، ينشغل مفكرون وخبراء من النخبة الأميركية البارزة بدراسة التحديات التي تواجه الإدارة الأميركية الجديدة نتيجة تضافر عوامل الانقسام العرقي والسياسي الداخلي وجائحة كورونا وانعكاساتها المدمرة على الاقتصاد، فضلاً عن تراجع الهيمنة الأميركية في مدار صعود قوى منافسة تتقدمها الصين وروسيا. وأحد هؤلاء المفكرين البارزين هو جون ميرشايمر أستاذ العلوم السياسية في جامعة شيكاغو وعَلَمٌ من أعلام مدرسة الواقعية الجديدة، والذي يدعو في مقالة له في موقع “ذا ناشيونال إنترست” الرئيسَ بايدن إلى “التخلي عن كراهيته لروسيا والعمل على ضمّها إلى الائتلاف الذي يهدف إلى إحداث التوازن مع الصين، ذلك بأن بيكين وليس موسكو هي التهديد الرئيسي للمصالح الأميركية اليوم، وروسيا قد تكون حليفاً ثميناً لمواجهته”، غير أن كراهية روسيا لها جذور عميقة في صفوف فريق بايدن وفي مؤسسات الدولة العميقة في واشنطن.[6] وفضلاً عن هذه الصعوبات التي تكتنف محاولة التوصل إلى تفاهم مع روسيا في ظل التدهور المستمر للعلاقات الأميركية – الروسية، يعترف جوزف ناي صاحب مفهوم “القوة الخارقة” الأميركية الذي عرضه في كتابه “ملزمون بالقيادة” (Bound to Lead, 1990)، بأن السؤال الكبير الذي تواجهه المؤسسة الاستراتيجية الأميركية يدور حول صوغ استراتيجيا في مواجهة صعود الصين، مشيراً إلى الخوف الكبير الذي يثيره هذا الموضوع في أميركا، وهو يدعو الاستراتيجيين إلى عدم الوقوع في الحسابات الخطأ التي قد تنشأ من سوء تقدير القوة الصينية. وفي مقالة بعنوان “آفاق لاستراتيجية صينية” (Perspectives for a China Strategy) يرى جوزف ناي أن القوة الصينية الصاعدة توازنها اليابان والهند وأستراليا وغيرها من الدول الآسيوية، وكلها لا تقبل بالخضوع لسيطرة الصين على ما يعتقد. ويخلص إلى أنه في حال حافظت أميركا على تحالفاتها مع هذه الدول أو القوى الآسيوية، فإنه سيكون صعباً على الصين في إطار منافسة تقليدية بين الدول، أن تُخرج أميركا من جنوب الباسيفيك، بل إن الأمر الأصعب سيكون إنهاء سيطرتها على العالم.[7]

الموضوع المهم في الظروف الحالية هو الوقوف على متغير تفسيري مقنع للسلوك الأميركي في السياسة الخارجية التي يكمن المفتاح فيها في الاستدارة من الشرق الأوسط إلى الصين، في مسار جيواستراتيجي يتّسم بالتخبط والعدوانية ولا يمكن أن يجد تفسيراً مقبولاً بعيداً عن تحليل التناقضات الأميركية المستمرة وغير القابلة للحل. وفي الواقع، فإنه في المسار الانتقالي لعالم متحول تحرّكه قوى متعددة يصعب السيطرة عليها، لم يعد هناك فائدة من أميركا تُنصّب نفسها حامية للديمقراطية وحقوق الإنسان، بينما التهديد المتأتي من اختلال التوازن الشامل يبدو مصدره أميركا نفسها. فهل يمكن لأي استراتيجيا أن تتيح لأميركا إعادة إحياء الإمبراطورية بصورة فعلية، بعدما صارت ضعيفة جداً اقتصادياً وعسكرياً وأيديولوجياً، وباتت أي خطوة تُقْدم عليها من أجل تعزيز سيطرتها المتراجعة تثير ردات فعل سلبية تُضعف أكثر موقعها الجيواستراتيجي؟

في الحقيقة، باتت السيطرة على العقبات المانعة للهيمنة الأميركية (الصين وروسيا وأوروبا والهند)، هدفاً يستحيل تحقيقه، إذ مع هؤلاء اللاعبين الكبار يتعين على أميركا أن تفاوض، وبالتالي أن تتنازل في معظم الأحيان. وهذا يعني أن عليها أن تجد حلاً حقيقياً أو افتراضياً لهاجسها الخاص بالبقاء في مركز العالم على الأقل رمزياً، والعمل من أجل هذه الغاية على “مسرحة” قوّتها، ولذلك لم يكن مستغرباً أن نرى الدبلوماسية الاستعراضية تتعامل مع المسألة الفلسطينية تحت عنوان “صفقة القرن” من دون أن تُقدّم أي حل حقيقي، وذلك تزامناً مع استدعاء النزعة العسكرية المسرحية في وجه إيران لطمأنة بعض الحكام العرب السائرين على طريق التطبيع مع إسرائيل. وتكفي نظرة سريعة إلى المسرح الجيوسياسي للمواجهة الأميركية مع إيران، كي نرى دائرتين متداخلتين: الأولى تضم شبكة من القواعد العسكرية الأميركية التي تحيط بالجمهورية الإسلامية الإيرانية وأبرزها في أذربيجان وكردستان العراق وقطر والبحرين والكويت، والثانية تستقبل الحشد العسكري الأميركي في مياه الخليج وبحر عُمان على جانبَي مضيق هرمز. وتفيد المقارنة بين الدائرتين، بأن العراضة العسكرية المعززة بحاملة طائرات وطائرات استراتيجية من طراز “B 52″، تدخل في باب “مسرحة القوة”، نظراً إلى القدرات والإمكانات العسكرية الثابتة في القواعد المذكورة. وتوحي المفارقة بين الثابت والمتحرك أن وظيفة الدائرة الثانية ليست الإعداد لشنّ الحرب على إيران بحجة تعرّضها للمصالح الأميركية، وإنما التهويل باستخدام “القوة القاهرة” في سياق “النزعة العسكرية الصغيرة” التي تهدف إلى ردع خصوم لا يملكون قدرات عسكرية حقيقية، الأمر الذي لا ينطبق على إيران ذات القدرات العسكرية.

سيكون صعباً على الذين اختاروا الاستقرار في ظل الهيمنة الأميركية أن يتخيلوا أن العالم الذي يولد في خضمّ تراجع الإمبراطورية الأميركية، لن يأتي على صورة إمبراطورية أُخرى، محكومة بسلطة مركزية واحدة، لأن من المتوقع من النظام الجديد أن يكون متوازناً بصورة معقدة تتسع لمنظومة من الأمم الكبيرة أو الدول/ القارات، وإن كان بعض هذه، مثل القطب الروسي أو القطب الصيني، سيظل محافظاً على نمط أمة واحدة محوراً لدولة مركزية، فضلاً عن أن رؤية العالم في دينامياته الحيوية تدعونا إلى إدراك أن أميركا لم تعد تلك القوة العظمى القادرة على بسط هيمنة كونية.

إن ظاهرة أزمة الذات الإمبراطورية مثلما تجلّت في انتهاك مقر الديمقراطية الليبرالية في واشنطن، من شأنها أن تتسبب بأزمة نفسية حقيقية لمؤيدي أميركا ومعارضيها على حدّ سواء، ذلك بأن هؤلاء جميعاً سيجدون أنفسهم في مأزق فقدان “المرجعية” التي يحتاجون إليها، أكان ذلك للموالاة أم للمقاتلة. وقد تتخذ أزمة التبعية العربية طابعاً مأسوياً في مرحلة انتقالية قد لا تستدعي أي نشاط خاص من الولايات المتحدة للرعاية أو لحماية النظم أو السلالات، الأمر الذي يعيد إلى أذهان حكام الخليج سابقة التخلي عن حسني مبارك، والتي يبدو أنها حركت عجلة التطبيع الأمني مع إسرائيل.

(*) بالتزامن مع “مؤسسة الدراسات الفلسطينية”

المصادر والمراجع:

[1] Paul Kennedy, The Rise and fall of Great Powers: Economic Change and Military Conflict from 1500-2000 (London: Fontana Press, 1988).

[2] Samuel P. Huntington, “The Clash of Civilizations”, Foreign Affairs (Summer 1993), pp. 3–27.

[3] إدوارد سعيد، “تأملات حول المنفى – الجزء الثاني” (بيروت: دار الآداب، 2020)، ص 349.

[4] Emmanuel Todd, Arprè l’mpire: Essai sur la décomposition du système américain (Paris: Gallimard, 2004), pp. 11-40.

[5] Emmanuel Todd, Où en somme–nous?: Une esquisse de l’histoire humaine (Paris: Editions du Seuil, 2018), pp. 413-447.

[6] John J. Mearsheimer, “Joe Biden Must Embrace Liberal Nationalism to Lead America Forward”, The National Interest, December 29, 2020.

[7] Joseph S. Nye, Jr., “Perspectives for a China Strategy”, Prism, vol. 8, no. 4 (June 2020), pp. 121–130, 

Print Friendly, PDF & Email
ميشال نوفل

كاتب وصحافي لبناني

Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  ثورة العرب.. من أميركا!