تبدو القبضة الأردوغانية الّتي أحكمت الإمساك بالسلطة في تركيا منذ ما يقرب العشرين عامًا، آخذة بالتراخي، فإستطلاعات الرأي الأخيرة تشير إلى تراجعٍ ملحوظ في شعبيّة حزب العدالة والتنمية، الذي تأذى من انشقاق ثلاثة من كبار قادته: عبد الله غول، أحمد داوود أوغلو وعلي باباجان؛ ومن تراجع حليفه حزب الحركة القوميّة، بالتوازي مع تراجع الأداء الإقتصادي وتدهور سعر صرف الليرة التركية (يبقى الإقتصاد التركي قويًا)، ما يضع مصير أردوغان في الإنتخابات الرئاسية المقررة في العام 2023 على المحك. بالرّغم من ذلك وغيره، ما زال أردوغان قادرًا على استنهاض الجماهير بلغة تتصف بالشّعبويّة.
إمكانات الرئيس التركي الخطابية وتحكمه بانفعالاته مثيرة للإنتباه، والأكثر إثارة قدرته على إقناع قاعدته الشعبيّة بجمع التناقضات. فهو إسلاميٌ عابر لكلّ التصنيفات من جهة، وقومي متعصب لطورانيّته من جهة أخرى؛ يقدّم نفسه كحامٍ ومدافعٍ ومتحدث باسم قضايا الأمّة الإسلاميّة حينًا، ويؤكد على انتمائه لحلف شمال الأطلسي (الناتو) حينًا آخر؛ ينسج علاقات جيدة مع كلّ من الولايات المتحدة وإسرائيل وكذلك مع كل من الصين وروسيا والجمهورية الإسلامية في إيران؛ يمارس التنكيل ضدّ خصومه الداخليين، لكنّه يستهوي الظهور بصورة المخلّص المُضطهَد والمُهدَّد دائمًا.
قد يُقال إنّها السياسة أو إنها البراغماتيّة بأبهى صورها، لا بأس، لكن لا ضير في استحضار عددٍ من مواقف الرئيس أردوغان وتشريحها، فقد تكون مفيدة لمن يتابع الملف التركي.
الشعبوية.. والحاجة إلى عدو
حين نحاول الدخول إلى تفسير الشعبوية لا نجد إطارًا تعريفيّا موحدًا لها، كما أن تصنيف الشعبوية كأيديولوجيا مستقلة أو ملحقة بأخرى يظل موضع جدل وخلاف. غير أن الثابت بتعريف الشعبوية، بحسب يان مولر، أنّها ظاهرة مرتبطة بالأنظمة الديموقراطية، وأنها تعتبر الشعب وحدة واحدة منسجمة، وهي التي تعبر عنه في جوهره، أي الشعبوية، دون غيرها، وبالتالي، فهي على طرف نقيض من التعدديّة التي تصطدم مع فكرتها الجوهرية بكون المجتمع وحدة واحدة. ويضيف مولر في كتابه “ما الشعبوية” (يان فيرنر مولر، منتدى العلاقات العربية والدولية، 2017)، أنّ الشعبويين يلتقون في عدائهم للنخب الحاكمة سواء كانت منتخبة أم لا، لكونها الجماعة المتحكمة بآليات الحكم المتعددة، ولكونها طبقة فاسدة ومنفصلة عن عموم الشعب، وأنّ الذي يمثّل الشعب هو “الزعيم” القادر على تحقيق إرادة الشعب. ويضيف، أنّ الشعبوية تحتاج إلى وجود عدو، والبحث الدائم عنهم، من أجل الإستمرار في استثارة الجمهور والسيطرة عليه.
الشبهة التي حصلت، خاصة عند العرب، أن الحزب ذا الخلفية الإسلامية هو الذي أسقط القرار (منع إستخدام الأراضي الرتيكة لغزو العراق)، وذلك بسبب حدّة الخطاب المرتفع الذي أطلقه قادة الحزب وعلى رأسهم أردوغان ضدّ الحرب، في حين أن حزب الشعب العلماني هو الذي أسقطه مستفيدًا من تذبذب كتلة العدالة والتنمية
هي حالة من تأجيج الجماهير بطريقة انفعالية واعتراضية وبلحظة استثنائية، أي خارج سياق تاريخي تثقيفي وبناء تراكمي، ولذلك لا تستطيع الجماهير أن تلحظ الفارق والهوّة بين الخطاب والأداء. مجرد انتهاز للحظة المناسبة في تفجير غضب الجماهير وقيادتها في ظل اختلال المجتمع أو الدولة نتيجة أخطاء سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، ضمن مجموعة من الخصائص، كتلك الّتي عاشتها تركيا لحظة وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة. ولأنّها عادة ما تكون ملازمة للأزمات الحادة، كما يصفها كتاب “عودة الشعبويات” ( برتران إدي ودومينيك فيدال، مؤسسة الفكر العربي، بيروت 2019، يفرد الكتاب فصلًا خاصًا عن أردوغان) فهي كأسلوب للتعبئة والإحتجاج لا تعتمد على نظريّة أو أيديولوجيا، بل ممارسة سياسة تتكوّن من خليط أو مزيج من الأفكار التي تصل إلى حدّ التناقض أحيانَا.
منذ اللحظة الأولى
عام 2002 أثناء إستعداد الولايات المتحدة لغزو العراق، وصل حزب العدالة والتنمية، بشعارات ووجوه غير تقليدية، وبتوليفة ليبرالية وإسلامية غريبة، إلى السلطة، مستفيدًا من لحظة فقدان التوازن الداخلي في كل المجالات: السياسيّة والإقتصادية والأهم الهوياتيّة (من هويّة).
أولى الإختبارات الحقيقية للعدالة والتنمية كانت مسألة السماح للقوات الاميركية باستخدام الأراضي التركية لغزو العراق. لم يحصل ذلك الأمر، حيث صوّت البرلمان المنتخب حديثًا ضدّ قرارٍ يسمح لتلك القوات باستخدام تركيا كمعبر للغزو. لكن الشبهة التي حصلت، خاصة عند العرب، أن الحزب ذا الخلفية الإسلامية هو الذي أسقط القرار، وذلك بسبب حدّة الخطاب المرتفع الذي أطلقه قادة الحزب وعلى رأسهم أردوغان ضدّ الحرب، في حين أن حزب الشعب العلماني هو الذي أسقطه مستفيدًا من تذبذب كتلة العدالة والتنمية.
كانت حكومة حزب العدالة والتنمية تتباطأ في تلبية طلبات الولايات المتحدة في محاولة منها لتحصيل الحدّ الأقصى من المكاسب، وليس من منطلق حماية العراق، لدرجة أن إحدى الصحف الأميركية وصفت تركيا، بأنها مجرد “بائع هوى” يهمه زيادة مكاسبه من الصفقة. لكن عندما استشعرت تركيا جدية القرار الأميركي بتجاوزها وإختيار كردستان العراق بديلًا لها، أعادت حكومة العدالة والتنمية طرح القرار وتمريره أمام البرلمان، غير أن هذه الخطوة أتت متأخرة لأن الإدارة الأميركية كانت قد أنهت استعداداتها لفتح جبهة جنوبية واحدة، وأخرجت من حساباتها الجبهة التركية. غير أن “الزعيم الإسلامي” عاد ودخل العراق بعد ستة أشهر تحت مظلة الإحتلال الأميركي، في وقت بدأت تظهر ملامح الصدام بين حكومته ومؤسسات الدولة الأتاتوركية: الجيش والقضاء والنخب والإعلام، ليتمكن بعد سنوات قليلة من إحكام قبضته عليها جميعًا، تحت عين واشنطن ومباركتها، وبرغم ذلك ظلّ أردوغان يمارس دور الضحية في خطابه ضدّ كلّ من يتجرّأ على نقده.
“انتفاضة” دافوس
كانت قناة “الجزيرة” أول فضائية عربية تفتح هواءها للصوت والرأي الصهيوني. صحيح أنها غالباً ما كانت تهاجم “إسرائيل” بقسوة وتظهر تعاطفها مع الفلسطينيين، إلا أنها استطاعت أن تزرع في اللاوعي قبول المحتل وأنسنته ومحاورته والجلوس معه على طاولة واحدة، لتنجرّ لاحقا العديد من القنوات العربية، بعد أن تطبّع العقل العربي، إلى فتح هوائها للأصوات “الإسرائيلية”.
قال أوغلو إن أردوغان، وبعد دقائق من مغادرته منصة دافوس، كلّفه شخصيًا إستخدام ديبلوماسية الباب الخلفي من أجل الإعتذار شخصيًا من بيريز، بسبب تخوفه من عواقب موقفه الإستعراضي!
لم يسأل أحد أردوغان ما الذي كان يفعله أساسًا على المنصة نفسها مع “الإسرائيلي” شيمون بيريز في منتدى دافوس (2009)، وكيف قرر فجأة رفض اللقاء مع “قاتل الأطفال” هذا كما وصفه، قبل أن ينتفض ويغادر المنصة بشكل إستعراضي. لقد إنتظرنا 11 عامًا، قبل أن يخرج علينا أحمد داود أوغلو، السنة الماضية، ليكشف حقيقة ما جرى. قال أوغلو إن أردوغان، وبعد دقائق من مغادرته منصة دافوس، كلّفه شخصيًا إستخدام ديبلوماسية الباب الخلفي من أجل الإعتذار شخصيًا من بيريز، بسبب تخوفه من عواقب موقفه الإستعراضي!
ولعل المفارقة الغريبة في العلاقات التركية ـ “الإسرائيليّة”، أنّ عموم الجماهير المنتشية بموقف أردوغان (وقد كنت واحدًا منهم)، لم تلحظ بأن التبادل التجاري بين كل من تركيا و”إسرائيل” إرتفع منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة من 1,4 مليار دولار عام 2002 إلى 6.2 مليار دولار عام 2018، أي بعد قضية مرمرة و”انتفاضة دافوس” وحرب غزة، وهي اليوم تُعدّ سادس أكبر شريك تجاري لتركيا.
الأكثر شعبويّة من أردوغان
“إن من يظنون أن بإمكانهم ردعنا باستخام لغة التهديد او فرض عقوبات لم يعرفوا هذا الشعب بتاتًا. من الواضح أن من يتهموننا بعدم معرفتنا بحيثيات النظام الأميركي لا يعرفون شيئًا عن تاريخ أمتنا. ونحن لن ننحني بتاتًا لهذا النوع من الضغوطات”. هذا النص الأردوغاني جاء في خضم أزمة “غولن ـ برونسون” عام 2018. فبعد محاولة الإنقلاب الفاشلة التي حدثت صيف 2016، استطاع أردوغان إحكام قبضته على جميع مفاصل الدولة، وعلى كسر نفوذ فتح الله غولن المتجذّر في مؤسّسات الدولة العميقة، ولم يتبقَ سوى غولن نفسه، حيث سعى لمبادلته بالقسّ الأميركي أندرو برونسون المتهم بالتجسّس والذي عدّه أردوغان إرهابيًّا.
أظهر أردوغان في البداية تصلّبًا شديدًا في ما خص قضيّة القسّ الإنجيليّ (بالمناسبة، في العام 2003 أعادت تركيا السماح للأعمال التبشيرية داخلها)، قد يعلّل البعض السبب بعدم فهمه لأهميّة الصوت الإنجيلي في الإنتخابات الأميركية، خاصة الجمهوريين، أو لإساءة تقديره لردّة فعل الرئيس السابق الأكثر شعبويّة منه، دونالد ترامب. تحولت قضيّة برونسون إلى ساحة مزايدة بين أردوغان وترامب، في عمليةٍ شعبويّة الهدف منها جذب الجمهور واستقطابه، وقد إنتهت لمصلحة ترامب الّذي عَرِفَ كيف يُطوّع اندفاعة أردوغان، حيث فرض عقوبات اقتصادية على تركيا، ما تسبب بإنهيار الليرة التركية بشكل حاد (فقدت حوالي 40 بالمئة من قيمتها).
في المحصلّة، أُطلق سراح برونسون، وبقي فتح الله غولن ينعم بحريّته في الولايات المتحدة، وتغريدة ترامب المتعلّقة بإطلاق سراح القس، كما يذكر مدير الأبحاث التركية في معهد واشنطن سونر جاغايتاي، حصلت على 125 ألف إعجاب، في حين أنّ معدل الإعجابات المتوسط لتغريداته، يتراوح بين 30 و50 ألف إعجاب، أمّا أردوغان فقد ظلّ صدى صوته يتردّد: “لن نركع، ولن نسلّم القس”!
يجب أن تظلّ قويًا
ما من شكّ بأنّ التاريخ سيذكر أردوغان كثاني أهم شخصيّة في تاريخ الجمهورية التركيّة بعد بانيها مصطفى كمال أتاتورك، وليس مبالغًا القول إنه أحدث إنقلابًا نوعيًا، في هويّة وطبيعة نظام الجمهورية التركية، والحديث هنا ليس تقييمًا أخلاقيًّا، بل محاولة لفهم آليّات العمل لدى أردوغان ووضع شعاراته و”مقدّساته” السياسيّة في إطارها الحقيقيّ والواقعي بعيدًا عن الإنفعال والشعبويّة.
في الختام، ثمة إستعادة لا بد منها. ينقل موقع BBC HISTORY MAGAZINE وقائع استعداد ألمانيا لغزو بريطانيا تحت إسم “أسد البحر” (SEA LION) والأسباب التي دفعت هتلر إلى العدول عن تنفيذ عملية الغزو تلك. باختصار، لقد كان متهيّبًا وغير واثقٍ من قدرته على هزيمة إنجلترا. مع تركيا أردوغان، وكي تبقى في موقع الندّ والإحترام، عليك أن تظلّ قويًا ومُهابًا، وإلّا، فإنّ أردوغان حين يشعر بفائض القوة، سيحاول حذفك من المشهد السياسي حتى لو كنت حليفه الأوفى وصاحب فضل عليه، مثل فتح الله غولن وعبد الله غول وأحمد داوود أوغلو، أو سينقضّ عليك كما فعل بسوريا، حتى لو كان بينه وبين قيادتها خبزُ وملحُ دمشق.