سوريا: “الإدارة الكردية” مُهددة أميركياً لمصلحة التمدد الروسي

المزيد من الضغوط تنتظر أكراد "الإدارة الذاتية" في شمال شرقي سوريا، في ظل "ضبابية" الموقف الأميركي المتردد، والتهديدات التي طالت أحد أبرز مصادر دخلهم، المتمثل بالنفط السوري، الذي تعرضت المشاريع التي بنيت حوله لتجميد قد تنتهي بسحبه وإعادته إلى دمشق بشكل مباشر، أو عبر موسكو.

لا يختلف المشهد الذي تعيشه مدينة منبج شرقي حلب حالياً، حيث تمرد الأهالي ضد “قوات سوريا الديموقراطية” (قسد) التي تسيطر على معظمها، وقاموا بقطع الطرقات والهجوم على حواجز ومقرات أمنية كردية في المدينة، وطرد مقاتلي “قسد” من بعض القرى، عن مشاهد أخرى شهدتها مناطق مختلفة يسيطر عليها الأكراد تحت عنوان “الإدارة الذاتية”.
أحداث منبج الدامية، التي راح ضحيتها عدد من المواطنين، جاءت نتيجة الرفض الشعبي لعمليات التجنيد الإجباري التي تمارسها “قسد” بحق أهالي المنطقة الذين ينتمون إلى عشائر عربية، الأمر الذي دفع “قسد” في نهاية المطاف إلى إصدار قرار بوقفها وإطلاق سراح الشبان الذين تم اعتقالهم خلال الحملة الأخيرة.
سبقت هذه الأحداث بنحو أسبوعين تقريباً احتجاجات مماثلة إلى حد ما، شهدتها مناطق يسيطر عليها الأكراد في الحسكة، شرقي سوريا، بسبب رفع أسعار الوقود ثلاثة أضعاف تقريباً، وتدني مستويات المعيشة بشكل عام، الأمر الذي حاولت القوات الكردية تفاديه عن طريق إلغاء القرار، بعد سقوط عدد من الضحايا بين المحتجين.
كذلك، شهدت مدينة القامشلي مواجهات عنيفة بين “قسد” و”قوات الدفاع الوطني” انتهت بوساطة روسيّة، في حين تستمر الاشتباكات اليومية بين عشائر عربية وقوات كردية في ريف دير الزور، بالتوازي مع استمرار الاقتتال وتبادل عمليات القصف بين القوات الكردية وقوات تابعة لتركيا في مناطق التماس، والتي باتت تمثل عملية استنزاف دائمة وتشكل خطراً مستمراً لتقدم تركي وقضم مناطق جديدة خاضعة لسيطرة الأكراد.
هذه الأوضاع بمجملها تترافق مع أزمة اقتصادية يبدو أنها تشتد في مناطق “الإدارة الذاتية”، الأمر الذي دفعها إلى إعداد “خطة عاجلة” لمواجهة هذه الأزمة المتفاقمة، من دون وجود أرقام واضحة حول حجم الدخل الذي يدره لها النفط الذي يتم تكرير بعضه بشكل بدائي، ويجري تهريبه، سواء مكرر أو بشكله الخام، إلى إقليم “كردستان العراق”.

رهان على بنية هشة

بالرغم من الدعم الأميركي المتواصل، لم تستطع “الإدارة الذاتية” من تحقيق استقرار اقتصادي في مناطق سيطرتها، الأمر الذي يظهر بوضوح في مستويات المعيشة المتدنية، والأزمات المتلاحقة، سواء أزمات المخابز أو الوقود أو الماء أو الكهرباء، بالإضافة إلى التظاهرات والمواجهات المتقطعة والمستمرة في مناطق عدة، سواء المناطق ذات الغالبية الكردية، أو المناطق العربية.
بالإضافة إلى ذلك، ازدادت حدة المواجهات بين القبائل العربية والقوات الكردية في الشرق السوري، الأمر الذي يمكن اعتباره فشلاً كردياً في احتواء تلك القبائل واستمالتها ودمجها بالمشروع الأميركي، ما يجعل مشروع “الإدارة الذاتية” مشروعاً غير مستقر، لا يمكن البناء عليه.
هذه البنية يبدو أنها دفعت الولايات المتحدة، بعد تولي جو بايدن مقاليد الحكم، إلى إعادة تقييم الوجود الأميركي وأهداف الولايات المتحدة في سوريا، خصوصاً أن إعلان الرئيس السابق دونالد ترامب عن أن هدف واشنطن هو النفط أثار ردود أفعال عالمية رافضة، ولا سيما في الداخل الأميركي.
وبينما تزعم الولايات المتحدة أن وجود قواتها هدفه القضاء على “داعش” وضمان الوصول إلى حل سلمي يضمن الحريات، لا يبدو أن للقوات الأميركية تأثيراً حقيقياً مباشراً ضمن هذه الأهداف، حيث ينحصر في المناطق النفطية، وهو ما يضع هذه القوات في مواجهات واحتكاكات مستمرة مع القوات الروسية التي تمكنت من تحصين وجودها في الشرق السوري، وعلى مقربة من مناطق الانتفاضات العشائرية المستمرة.

فشل أميركي.. بإعتراف فورد
كذلك، ساهم اهتمام واشنطن المبالغ فيه بالمناطق النفطية في سوريا، وإهمال ملفات أخرى عالقة (الشمال السوري الذي تتقاسم تركيا وفصائل راديكالية السيطرة على مناطق منه) في ترسيخ صورة البراغماتية الأميركية، وعدم اتساق الأهداف “الإنسانية” المعلنة مع حقيقة هذا الوجود.
ويبدو أن واشنطن كانت تعول على تمكن “قسد” من خلق بيئة مستقرة تضمن مصالح أميركا وتفسح المجال لسحب قواتها وخفض فاتورتها العسكرية، وإعادة ترميم الصورة الأميركية المشوهة، إلا أنها اصطدمت بحقيقة عدم تحقيق الحد الأدنى من هذه الأهداف.

في هذا السياق، تظهر روايات وآراء أميركية عدة، بعضها من داخل الإدارة الأميركية نفسها، تتحدث عن توسيع دائرة الاهتمام لتشمل الشمال السوري، والذي تعلن واشنطن بشكل مستمر رغبتها في فتح “ممرات إنسانية” فيه، ليتم ربط العقوبات التي طالت أخيراً شركة “دلتا كريسنت إنرجي” النفطية الأميركية ذات الطابع الاستخباراتي التي سهلت إدارة ترامب حصولها على عقود صيانة وتطوير حقول النفط وعمليات التصدير، ومنعها من متابعة العمل في سوريا بـ”الممرات الإنسانية” في الشمال السوري، ما قد يساهم بتحسين صورة واشنطن المشوهة، حيث نقل موقع “المونيتور” عن مصدر في الإدارة الأميركية أن الرئيس بايدن “لديه سياسة تجاه سوريا، وهذه السياسة هي أننا لسنا في سوريا من أجل النفط، نحن في سوريا من أجل الناس”!
كذلك، تأتي توصيات السفير الأميركي السابق في سوريا روبرت فورد في مقالة له نشرها في “فورين أفيرز” تحت عنوان: “الإستراتيجية الأميركية في سوريا فشلت” بخروج أميركي من الساحة السورية، وتسليم كل من روسيا وتركيا الملف، ما يعني وضع “قسد” أمام خيار من اثنين: إما إعادة منابع النفط للحكومة السورية، والوصول إلى تسوية سياسية تعيد رفع العلم السوري على مناطق “الإدارة الذاتية”، أو الدخول في مواجهة مع تركيا، الأمر الذي يعتقد فورد أنه سينتهي باتفاق بين دمشق و”قسد”.

إقرأ على موقع 180  "فورين أفيرز": هل تحتمل إيران عواقب تأجيل الإتفاق النووى؟

خيبة كردية وخيارات محدودة

التوجه الأميركي للإدارة الجديدة، والذي جاء بعد وقت طويل، ولم تتضح كامل ملامحه بعد، يصطدم مع الآمال الكردية، حيث كانت “قسد” تمني نفسها بموقف أميركي حازم في مواجهة تركيا والحد من التمدد الروسي الداعم للحكومة السورية، الأمر الذي يفسر سلوكها العدواني المتكرر تجاه دمشق في الآونة الأخيرة، والذي تحتويه موسكو في كل مرة وسط صمت أميركي، ناهيك عن الارتفاع النسبي لحدة المواجهات في بعض نقاط التماس مع القوات التابعة لتركيا.

الظروف السياسية والاقتصادية، وحتى المجتمعية، يمكن أن ترسم بمجملها صورة لمستقبل كردي قريب أكثر تعقيداً، حيث سيواجه الأكراد ومشروعهم “الإدارة الذاتية” مزيداً من الضغوط، خصوصاً في حال سحبت واشنطن جنودها فعلاً، وتخلت عن خطوط الدعم المقدمة لتصريف النفط

إلا أن ما يجري يمكن أن يكون عكس التوقعات، فعلى الرغم من احتدام الموقف التركي الأميركي بعد اعتراف واشنطن بالمذابح التركية بحق الأرمن، وعلى الرغم من التطمينات التي جاء بها وفد أميركي ضم المكلف بمنصب مساعد وزير الخارجية الأميركية جوي هود، ومديرة ملف سوريا والعراق في مجلس الأمن القومي الأميركي زهرة بيل، والذي زار مناطق سيطرة “قسد” شرق الفرات، بدأت واشنطن إعادة رسم وجودها بشكل يلائم “الدعاية الإنسانية” ويتجاهل الأوضاع الصعبة التي تعيشها “الإدارة الذاتية”، بل ويضيق عليها أكثر.
ويبدو أن السلوك غير المنتظم، والذي اتخذ طابعاً عصاباتياً في طريقة تعامل “قسد” وحتى الشركة النفطية الأميركية المحدثة التي أوكلت إليها مهمة تطوير النفط، والتي كشف تقرير نشره موقع “ذا ديلي بيست” بعض تفاصيله، قد ساهم في تسريع عملية إلغاء الاستثناء الذي كان ممنوحاً لها، حيث وقعت الشركة عقوداً عدة لتصدير النفط بمبالغ وصل بعضها إلى أكثر من مليار دولار، من دون الإفصاح عن وجهتها، بالتزامن مع استمرار عمليات تهريب النفط إلى مناطق في العراق، وحتى إلى تركيا، والغموض الذي يحيط بهذا الملف… وكل ذلك وضع واشنطن ضمن صورة سيئة تتعارض مع الدعاية الإنسانية لوجودها في سوريا.
ويرتبط الملف السوري بالنسبة إلى واشنطن بمجموعة من الملفات المتداخلة الأخرى التي تبدو أكثر أهمية بالنسبة لإدارة جو بايدن، أبرزها الملف النووي الإيراني، وهو ما يمكن قراءته أيضاً من خلال رؤية السفير الأميركي السابق روبرت فورد الذي أعلن فشل واشنطن في الحد من الوجود الإيراني في سوريا عن طريق حضورها العسكري، خصوصاً أن العلاقات السورية – الإيرانية قديمة ومتشابكة، وهو ذات الفشل الذي منيت به واشنطن تجاه روسيا التي توسع حضورها في سوريا.
الظروف مجتمعة، السياسية والاقتصادية، وحتى المجتمعية، يمكن أن ترسم بمجملها صورة لمستقبل كردي قريب أكثر تعقيداً، حيث سيواجه الأكراد ومشروعهم “الإدارة الذاتية” مزيداً من الضغوط، خصوصاً في حال سحبت واشنطن جنودها فعلاً، وتخلت عن خطوط الدعم المقدمة لتصريف النفط، الأمر الذي سيضع “قسد” أمام خيارات محدودة، تصب جميعها في بوتقة إنهاء تجربة “الإدارة الذاتية” وفق وضعها الحالي، والانتقال إلى شكل آخر يبدو أنه أكثر قرباً إلى دمشق.

Print Friendly, PDF & Email
علاء حلبي

صحافي سوري

Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  "هآرتس": نتنياهو يَخضَع لبايدن ويُحمّل المسؤولية لكوخافي