بقدر ما يحمل خبر تبلغ الرئيس اللبناني ميشال عون، قرار الإدارة الأميركية بمساعدة لبنان عبر استجرار الطاقة الكهربائية من الأردن عبر سوريا، تفاؤلاً لدى المواطن اللبناني، الذي يعاني الأمرين من ضائقات اقتصادية عديدة، أبرزها أزمة الطاقة في بلاده، إلا أن لبنان العائم على كنز موعود من الغاز الطبيعي في بحره، بات على موعد إما مع جولة جديدة من التجاذب الإقليمي والدولي، قد يكون هو نفسه مسرحها في قادم الأيام أو على موعد مع ملاقاة تسويات الإقليم.
تكاد تكون تناقضات المنطقة مصدر الشر والخير للبنان في آن معاً. لبنان الذي يمكنه استخراج غاز طبيعي بمليارات الدولارات سنويًا من المنطقة المتنازع عليها بينه وبين إسرائيل، ها هو يدفع ثمن عدم وضوح خياراته الطاقوية. فشل مفاوضات ترسيم الحدود البحرية بين الجانبين اللبناني والإسرائيلي التي إنطلقت قبل أقل من سنة من الآن، يحمل في طياته ما يتجاوز الأبعاد اللبنانية أو الإسرائيلية. توقيت أزمة الطاقة في لبنان، غداة أزمة سوريا التي وقف إلى جانبها حلفاء دوليون وإقليميون أبرزهم روسيا وإيران، يُفشي الكثير من أسرار الأزمات في المنطقة، التي وإن حملت علناً عنوان “تحرر الشعوب” و”الثورات العربية”، إلا أنها كانت بالمضمون الحقيقي حروب منابع الغاز وممرات أنابيب الغاز نحو أوروبا.
لقد خاضت روسيا حرباً وجودية على الأراضي السورية لمنع مد أنبوب الغاز القطري عبر السعودية ـ الأردن ـ سوريا نحو أوروبا وهو ما كان يسمى (خط الغاز العربي)، الأمر الذي كان سيهدد مصالح روسيا، وهي التي تعد مُصَدِر الغاز الأكبر إلى أوروبا.
ومع اشتداد تداعيات “قانون قيصر” الذي إستهدف سوريا بعد حوالي العقد من إندلاع أزمتها، راحت الأزمة تشتد في لبنان، إلى أن بلغت ذروتها في صيف العام 2020 مع انفجار مرفأ بيروت، ومن ثم تَصَاعُدْ أزمة الطاقة التي جاءت تعبيراً عن انهيار مجمل النظام الإقتصادي والمالي والإجتماعي في لبنان.
تخفيف مفاعيل “قانون قيصر”
استفاق اللبنانيون صبيحة أمس (الخميس) على خبر إعلان الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله استعداد سفينة إيرانية محملة بالوقود للإبحار نحو لبنان، ليتبعه بعد ساعات إعلان رئاسة الجمهورية اللبنانية خبر تلقي الرئيس ميشال عون، في اليوم نفسه اتصالا هاتفيا من السفيرة الأميركية في لبنان دوروثي شيا التي أبلغته قرار الإدارة الأميركية بمتابعة مساعدة لبنان لاستجرار الطاقة الكهربائية من الأردن عبر سوريا، وذلك عن طريق توفير كميات من الغاز المصري الى الأردن تمكّنه من انتاج كميات إضافية من الكهرباء لوضعها على الشبكة التي تربط الأردن بلبنان عبر سوريا.
القرار الأميركي إتخذته إدارة جو بايدن الجديدة، التي تتجه على ما يبدو من مؤشرات إلى التساهل مع مفاعيل “قانون قيصر” الذي يستهدف الدولة السورية. هذا الأمر بدأ بقرار تسهيل فتح معبر نصيب – جابر الحدودي بين الاردن وسوريا في أواخر شهر تموز/ يوليو الماضي، فهل يمكن اعتبار السماح بمرور الكهرباء من الأردن عبر سوريا إلى لبنان، خطوة أخرى في إطار القفز فوق “قانون قيصر”؟
من غير الممكن أن يتم طي صفحات أزمات المنطقة بلا تسويات بين روسيا والولايات المتحدة الأميركية، فأميركا التي تسعى للانسحاب من المنطقة على المدى البعيد، لن تترك ربيبتها “إسرائيل” في مواجهة أعدائها.
خط الغاز العربي
سماح الأميركيين بمرور الكهرباء التي سيولدها الأردن من الغاز المصري عبر سوريا إلى لبنان، خطوة من شأنها التخفيف من وطأة “قانون قيصر”، بل هنالك مفاوضات جارية مع البنك الدولي لتأمين تمويل ثمن الغاز المصري وإصلاح خطوط نقل الكهرباء وتقويتها وإجراء الصيانة المطلوبة لأنابيب الغاز. العثرة المالية في هذا الموضوع كانت تواجه كلاً من الأردن ولبنان. ويرى مصدر أردني متابع أن موضوع السفينة الإيرانية سرّع إنضاج “هذه الطبخة” الموضوعة على نار هادئة منذ أشهر وليس اليوم. ويستشهد على ما سبق بزيارة وزير النفط السوري بسام طعمة ووزير الكهرباء السوري غسان الزامل إلى الأردن ولقائهما وزيرة الطاقة الأردنية هالة زواتي في 23 حزيران/ يونيو الماضي.
ووفق بيان وزارة الطاقة الأردنية في حينه، استعرض الجانبان خلال الاجتماع الذي عقد في عمّان، “وضع شبكة الربط الكهربائي بين الأردن وسوريا ووضع البنية التحتية لخط الغاز العربي الواصل بين البلدين وناقشا سبل تعزيز التعاون في مجال الطاقة المتجددة وكفاءة الطاقة”.
“خط الغاز العربي” الذي كان أحد بنود المباحثات الطاقوية السورية الأردنية، لعله يترجم مشروع “الشام الجديد” الذي كانت نواته الأولى مصر والعراق والأردن، عبر التعاون التنسيقي الاقتصادي في ما بين هذا الثلاثي العربي المشرقي، وإذا كان الغاز المصري في أخبار اليوم هو أحد اطراف المعادلة، من المؤكد أن ما ذهب إليه مراقبون خلال الأشهر الماضية من أن سوريا ولبنان سينضمان إلى هذا التعاون التنسيقي وليس “الحلف” قد يكون واقعاً على المدى المتوسط.
وتجدر الإشارة إلى أن مراقبين وسياسيين، يعتبرون أن وصف هذا التعاون التنسيقي بالحِلف، سيكون مبرراً لوأد هذا الجنين في مهده.
نواة هذا “التعاون التنسيقي” الأولى تشكلت، بسبب يقين كل من الأردن ومصر بأنه لا فرصة للحصول على مساعدات مالية جديدة من السعودية، وذلك وفق تقرير صادر عن معهد بروكنغنر (مقره في واشنطن) في تموز/ يوليو الماضي، وبالتالي في حال نجاح هذا التعاون التنسيقي، ربما تحمل الأيام القادمة تقليلاً لنفوذ السعودية في المنطقة، بل إن التقرير يرى أن التحالف الجديد يمكن أن يمنح الأردن ومصر والعراق نفوذاً أكبر في مواجهة نفوذ السعودية وباقي دول الخليج.
ما سبق يعني أن خطوة إمداد لبنان بكهرباء يولدها الأردن من الغاز المصري عبر سوريا، إنما هي إحدى أبجديات تشكيل المنطقة في صورتها الجديدة بعد الأزمة السورية.
تعاون تنسيقي.. وأسئلة كبرى
يبدو التعاون التنسيقي الذي يجمع كلاً من الأردن والعراق ومصر، مصدر أمل لشعوب البلدان الثلاثة في ظل الأزمات المتلاحقة على المنطقة، بدءاً من سقوط بغداد (2003) مرورا بالأزمة السورية (2011) وآثارها على دول الجوار، وانتهاء بأزمة كورونا التي تركت ظلها الثقيل على المنطقة كما العالم، ويبدو أن هذا التعاون سيحمل أملاً أكبر لكل من سوريا ولبنان في حال انضمامهما إلى هذا التعاون الاقتصادي الثلاثي، لكنه في ذات الوقت يحمل أسئلة كُبرى، إجاباتها قد تُفضي إلى صراعات أو إلى تسويات جديدة.
قبل طرح الأسئلة لا بد من الاستشهاد بحديث العاهل الأردني الملك عبد الثاني خلال قمة ثلاثية جمعته نهاية الشهر الماضي مع الرئيس القبرصي ورئيس الوزراء اليوناني، في أثينا. قال العاهل الأردني خلال القمة “نحن دول تتشارك بشرق المتوسط، وبرأيي أننا سنلعب دورا أساسيا في التعاون الموسع ليس في بلاد الشام وشرق المتوسط فحسب، بل أيضا في التعاون الدولي لأن هناك إمكانيات كثيرة”.
وتابع العاهل الأردني قائلا “هناك إمكانية للبناء على شراكتنا المميزة مع العراق ومصر، والتضافر مع هذين البلدين لبحث القضايا المشتركة، فقد ناقشنا هذا الموضوع عدة مرات. وكما تعرفون، عقدنا القمة الثلاثية الرابعة مع مصر والعراق. ومن ذلك المنظور، أتأمل أن تتطرق مباحثاتنا اليوم إلى هذين البلدين كجزء من التكامل الإقليمي الأوسع”.
فإن أضفنا إلى تلك المعادلة، أن إسرائيل وقبرص واليونان يهددون مصالح روسيا بما يخص احتمالية تصدير الغاز “الإسرائيلي” إلى أوروبا، في حال تحقق طموح هذه البلدان الثلاثة، وأن الحدود المتنازع عليها بين لبنان و”إسرائيل” هي أحد أبجديات هذا الصراع، هل يمكن لروسيا التي خاضت حربها الوجودية في سوريا لمنع مد أنبوب الغاز العربي (قطر – السعودية – الأردن – سوريا – أوروبا) أن تسمح لسوريا في أن تكون جزءا من تعاون تنسيقي (تحالف) قد يكون شريكاً بشكل او بآخر مع قبرص واليونان؟ أو أن التعاون التنسيقي بين العراق والأردن ومصر وسوريا ولبنان سيحقق لسوريا ما يمكنها من التعافي بعد سنوات عجاف من الحرب، وبما لا يؤذي مصالح روسيا في ما يخص الغاز الطبيعي، كما أنه سيمكن لبنان من التنفس قليلاً و”يفرمل” إنهياره، أيضاً بما لا يُهدد مصالح روسيا وحلفاءها في لبنان؟
إن خط الغاز العربي “الجديد” الذي سيمتد عبر بلاد الشام مستثنياً بذلك قطر والسعودية، وواضعاً مصر والأردن في قلب الحدث، يحمل أسئلة كبرى، ولعل الأجوبة عليها مرتبطة إما بتسويات تعيد ترسيم المصالح بما يتوافق مع مصالح الدول الكبرى أو بوجبة جديدة من النزاعات.
ومن يُدقق في مضمون زيارة رئيس المخابرات الأميركية وليام بيرنز الأخيرة إلى بيروت والتي إقتصر برنامجها على لقاء قادة عسكريين وأمنيين، يستنتج أن لا أولوية تتقدم عند الأميركيين على ملف الغاز، بدليل أنه قال لمن إلتقاهم أن موجبات ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل وفق “خط فريدريك هوف” (ناقص أكثر من 300 كلم2 عما يطالب به لبنان)، إذا إقتضت إنسحابا إسرائيليا من مزارع شبعا اللبنانية المحتلة، فنحن مستعدون للدفع في هذا الإتجاه.