لم يكن متوقعاً من دولة عظمى كالصين أقل مما شهدنا من فقرات مدهشة خلال حفل افتتاح الأولمبياد. استخدام وسائل التكنولوجيا الممكنة والإمكانات التنظيمية المثالية، ناهيك عن جداول تسيير البطولة المنضبطة بدقة عقرب الثواني، وبنية تحتية رياضية متقنة الرسم بمسطرة هندسية وبابداع يكسر القواعد المعتادة. حتى الشعلة الأولمبية لم يتم استخدامها – كما هو متعارف – بإشعال المرجل الأولمبي المعتاد، بل تمت مركزتها وسط ندفة ثلجية (Snowflake) عملاقة، تحمل في تصميمها نجمات سداسية شفافة متراصة، تحمل كل واحدة منها اسم اللجان الأولمبية المشاركة في البطولة، وعددها 91 لجنة أولمبية (دولة).
قطاع الخدمات في إمبراطورية الشمس لم يكف عن إدهاش كل من اشترك أو تابع الدورة. فمثلاُ وليس حصراً، تم تخصيص قطار على خط سكك حديد بكين- تشانغجياكو من أجل دورة الألعاب الشتوية منذ مطلع العام 2022، مزوداً باستوديو متنقل لتلفزيون الصين المركزي CCTV، ليقوم بالبث الحي من على متن القطار.
إذا ألقينا نظرة على “اللجنة المنظمة لدورة بكين للألعاب الأولمبية الشتوية وأولمبياد المعاقين 2022”، نجد على قمة قيادتها شخص يدعى “كاي كي/ Cai Qi”. هو سكرتير منظمة الحزب الشيوعي الصيني في بكين، وعضو بارز في المكتب السياسي للحزب الشيوعي الصيني (بوليتبورو).
أما وقد انتهت فعاليات ومسابقات الدورة الأولمبية الشتوية بحفل ختام لا يقل حداثة وسحراً عن حفل الافتتاح، دعونا نمارس رياضة النبش تحت ندف الثلج.
لنتفق على أن الدورة لم تحظَ باهتمام ومتابعة كبيرين في أرجاء وطننا العربي على وجه التحديد. السبب في ذلك نوعية الرياضات الممثلة لمنافسات الدورة، مثل هوكي الانزلاق، التزلج السريع، التزلج الفني، التزلج الألبي إلخ.. هي رياضات غير شعبية أو ربما لا وجود لها على الإطلاق في وطننا الذي لا يرى الثلوج إلا باستثناءات شحيحة، ولم نشهد إنشاء ساحات الثلج الاصطناعية إلا مؤخراً في بعض البلدان العربية وبتكنولوجيا مستوردة. هل يُصبح غريباً كيف لعالمنا العربي من المحيط إلى الخليج أن يفرز أربعة مشاركين فقط في الأولمبياد، بينما شاركت دول صغيرة تعداد سكانها لا يتعدى عشرات الآلاف، مثل سان مارينو، جزر العذراء وتيمور الشرقية، بالإضافة إلى دولة أندورا التي شاركت بخمسة رياضيين.
وليس أدل على عدم شعبية الدورة ورياضاتها عندنا من عدد المشاركين العرب فيها. فقد انحصرت مشاركتنا بثلاث دول عربية فقط من أصل 22، هي لبنان، السعودية والمغرب. (إذا أردنا أن نعتبر إريتريا دولة عربية فلنجعلهم أربع دول، لا مانع). وهنا للمزاح فقط، تعجبت حينما سمعت معلق قناة Bein Sport الذي صاحب صوته فقرات حفل الافتتاح حينما قال إن “إريتريا تقع غرب السودان”!. ولكن العجب زال حين سمعته يقول إن الإكوادور تقع “شمال كولومبيا”، ثم أضاف أن “الإكوادور وتشيلي هما الدولتان الوحيدتان اللتان لهما حدود مع البرازيل في أمريكا الجنوبية”!. ولكي لا نظلم الرجل، كان دخول بعثات الفرق المشاركة يحدث بشكل متسارع، ويبدو أنه كان يتلو هذه الجمل الثلاث من خلال شاشة مُجهزة أمامه!
رجوعاً، اشتركت دولنا العربية الثلاث بخمسة رياضيين، 3 من لبنان ومتنافس واحد لكل من المملكتين الشرقية (السعودية) والغربية (المغرب) لم يحالفهم الحظ بأي ميدالية. حضرت دول عربية أخرى ممثلة بقادتها كالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، أمير قطر تميم بن حمد آل ثاني، محمد بن زايد ولي عهد أبو ظبي، بالإضافة إلى ريما بنت بندر آل سعود، سفيرة السعودية لدى الولابات المتحدة، وذلك لعدم تمكن الأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي من الحضور، تلبية لدعوة الرئيس الصيني شي جين بينغ.
وقد اثيرت تكهنات حول سر تلاقي قياداتنا العربية في هذه المناسبة، لتصلنا الإجابة في اليوم التالي مباشرة، مع توارد الأخبار عن لقاءات أو كما أسمتها بعض المصادر”محادثات” جانبية على هامش حفل الغداء الذي جمع القادة المدعوين. ما أصاب بعض زعماء العرب من تلميحات، لا يقارن بما ناله الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من إنتقادات بلغت حد تهديد بعض الدول بمقاطعة الدورة فقط لمجرد حضور بوتين حفل افتتاحها. إنتقادات لم تحدث فارقاً، لا سيما بعد أن تبين أن الصين لم تكن بوارد دعوة رؤساء دول يهددون دورتها بالمقاطعة. زدْ على ذلك قول متحدث رسمي صيني إن الدورة “مناسبة للرياضيين وليس للسياسيين”، ردا على الحملات والمظاهرات المنتقدة للأولمبياد.
الدعاية، أو كما يسميها البعض (البروباجندا) ذات الأهداف السياسية، صاحبت الدورة حتى من قبل أن تنطلق. فقد أثيرت زوبعة في فنجان قهوة (مثلجة) حول القلق من استخدام الصين برامج تجسس على الهواتف المحمولة للرياضيين، ربما تصاحب تنزيلهم التطبيق الرسمي الإجباري للدورة My2022 App. وقد قام الاتحاد الألماني للرياضات الأولمبية بتزويد المشاركين الألمان بهواتف محمولة مخصصة للدورة، عوضاً عن هواتفهم الشخصية التي نُصِحُوا بألا يستخدموها، كي لا يتعرضوا للتجسس على بياناتهم الشخصية.
وبينما كان مذيعو قناة NBC Sports الأميركية يعلنون عن استعدادهم لتغطية حصرية لمنافسات دورة بكين 2022، ويذيعون لقاءات مع بعض الرياضيين الأمريكيين المشاركين بالدورة لمتابعة استعداداتهم لمنافساتها، كان عشرات المتظاهرين يتجمعون خارج مقر مبنى القناة بمدينة سان فرانسيسكو، حاملين لافتات تدعو لمقاطعة الأولمبياد الشتوي بسبب ممارسات الصين ضد الأقليات الإثنية. وأطلقت دعوات إلى الرياضيين المشاركين بالدورة الرياضية من أجل رفع أصواتهم “ضد الإبادة الجماعية” و”صمتكم هو قوتهم”، “وحياة الإنسان تساوي أكثر من الميداليات”.
ومع بداية فبراير/ شباط 2022، قام موقع Business Insider الأميركي الشهير، بالإعلان عن نتائج تحقيق صحافي حول ما أعلنته الصين من أن تكلفة تنظيم “بكين 2022” ستكون أقل من 4 مليار دولار. بينما ألقى التحقيق الضوء على حقيقة أن هذا الرقم يمثل عُشر تكلفة تنظيم الدورة السابقة عليها. وتوصل التحقيق إلى أن الكلفة الحقيقية لتنظيم الدورة هي 38.5 مليار دولار، متهماً الصين بالتجاهل المتعمد لكثير من بنود المصاريف.
وبلغ الأمر حد إطلاق أكاديمية فرنسية تدعى “د. كارمن دي يونج“، لقب “أكبر الألعاب الشتوية من حيث عدم الاستدامة عبر التاريخ” على دورة بكين 2022. وإنتقدت الكميات الضخمة من المياه المستخدمة لصنع ساحات الثلج الاصطناعي. هنا، لن نسمح لأنفسنا بمناقشة أمور علمية. لكن لنا سؤال حميد الطويّة: “ماذا استخدمت كوريا الجنوبية في الدورة الشتوية السابقة منذ أربع سنوات في صنع ساحات الثلج الاصطناعي في مقاطعة بيونغتشانغ بالعاصمة سيول.. هل الزيت مثلاً”؟
أصابت الشظايا الفريق الرياضي الروسي ـ حتى من قبل أن تندلع نيران الأزمة الأوكرانية ـ وتحديداً فريق السيدات للتزلج الفني على الجليد، بسبب إحدى لاعبات الفريق، وهي كاميلا فالييفا. فقد ثبت مع صدور نتائج اختبارات المنشطات، أن جسمها يحتوي على مادة “تريميتازيدين Trimetazidine” الممنوعة دولياً. وهي مادة تحويها أدوية يتم وصفها للمصابين بالذبحة الصدرية وأمراض القلب. ولا يمكن أن تكون هذه المادة قد زارت جسد إبنة الخمسة عشر ربيعاً عن طريق الصدفة، خاصة وأن نتائج اختبار المنشطات أثبتت وجود مواد أخرى منشطة تسري في عروقها، ولكنها غير ممنوعة.
هذه المخالفة صحيح أن الفريق الروسي يتحمل مسؤوليتها بالنظر إلى السوابق الروسية في هذا المجال تحديداً، إلا أن سماح الجهة التي اكتشفت المخالفة للاعبة الروسية بالمشاركة برغم نتيجة تحليلها الإيجابية، بحجة ترك الأمر للجهة المختصة بالتحكيم الرياضي بعد انتهاء المنافسات، ترك مردوداً سلبياً. وما أن ذاع خبر السماح بمشاركة المتزلجة الروسية كاميلا فالييفا في المنافسات، حتى أثيرت الزوابع فوق ساحات الثلج الاصطناعي، عبر أقلام وأفواه النقاد والمتخصصين، حول صحة أو خطأ هذا القرار، و”متى ستتعلم اللجنة الأولمبية الروسية دروسها” وأن “هذا الأمر يعد تعدياً على حقوق الأطفال”، ما أدى بالمتزلجة الصغيرة، التي كانت مرشحة بصحبة زميلتيها، ألكساندرا تروسوفا (الملقبة بالصاروخ الروسي) وآنا شيرباكوفا، لاحتكارمنصة التتويج في هذه الرياضة، بالحصول على ثلاث ميداليات كاملة لروسيا الاتحادية، إلى تعثر حظها وحضورها.
فقد فقدت اللاعبة كاميلا تركيزها واهتزت أعصابها اليافعة، فقدمت أداءً سيئاً وسقطت أكثر من مرة أثناء تزلجها، وانتهىت المنافسة بفوز زميلتها آنا شيرباكوفا بالميدالية الذهبية، أما الفضية فذهبت لزميلتها ألكساندرا تروسوفا (ملكة القفزات الرباعية Quads)، بينما هربت الميدالية البرونزية من الفريق الروسي إلى عنق المتزلجة اليابانية كاوري ساكاموتو. كانت النتيجة أن عيني الطفلة كاميلا فالييفا ذرفت بعض الدموع الحارة، ولكن سرعان ما حولها البرد والجليد إلى ندف ثلجية اختفت بسقوطها على الرقعة الباردة الصلبة.
بدا واضحاً منذ بداية الأولمبياد أن الحملة ضد روسيا سياسية بإمتياز. جاء تصريح رئيس اللجنة الأولمبية توماس باخ ليصب الزيت على النار. فقد عبر باخ عن انزعاجه من ردة فعل مدربة الفريق الروسي “الباردة بشكل جبار” إزاء لاعبتها بعد أن قدمت هذا الأداء السيئ، مضيفاً “كان يفترض بأعضاء فريقها مواساتها بدلاً من معاملتها بجفاء، على حد قوله. نبرة هجومية غير مألوفة، إستوجبت رداً صدر عن المتحدث الرسمي باسم الكرملين ديمتري بسكوف قال فيه: “لا تعجبه شدة مدربينا، لكن الجميع يعلمون أنه في أوساط رياضات النخبة، شدة المدرب مفتاح لانتصارات الطلاب“. أكاد أرى تعليق أحد المتابعين تتماثل أحرفه أمامي وهو يقول “عما يتكلم هذا الرجل، لقد قام لتوه بجعل الأمر يبدو أسوأ بكثير”.
شرارات تطرح أسئلة، تختفي إجاباتها تحت الملايين من نِدف الثلج، فهل نستمر في تزلجنا السطحي، أم نختار أن ننبش تحت صلابة السطح الصناعي البارد لنستخلص هذه الإجابات؟
الاختيار دائماً للقارئ.