كل الأنظار كانت تتركز على ما يسميه بايدن “المنافسة الشرسة” التي تخوضها الولايات المتحدة مع القوة الإقتصادية الثانية في العالم. تميز الخطاب السياسي الأميركي بنبرة حادة حيال بكين، فضلاً عن التحذير من مغبة الإقدام على ضم جزيرة تايوان، والتأكيد أن الولايات المتحدة ستدافع عن تايبه. وتعززت هواجس حصول غزو صيني لتايوان عقب الإنسحاب الأميركي من أفغانستان.
زادت زيارات الوفود الأميركية للجزيرة، تعبيراً عن الدعم الأميركي. وفي اليوم الذي كانت الدبابات الروسية تشق طريقها في الأراضي الأوكرانية، كان وفد أميركي رسمي يحط في مطار تايبه. هذا عدا عن زيادة عدد المستشارين العسكريين الأميركيين الذي يُدرّبون القوات التايوانية.
وفي الزيارة الأولى لبايدن لأوروبا في حزيران/ يونيو من العام الماضي، تركز الحديث حول كيفية مواجهة الصين، وأطلقت مجموعة الدول السبع الصناعية الكبرى مبادرة بمئات مليارات الدولارات لمناهضة “مبادرة الحزام والطريق” الصينية التي تشمل 60 بلداً في العالم. وحاول بايدن أن يشرح للقادة الأوروبيين أن الخطر المتأتي من الصين يفوق بكثير ذاك الذي يستشعرونه من جراء حشد القوات الروسية على حدود أوكرانيا. كان الحشد قد بدأ في نيسان/ أبريل الماضي. ولم يكن سهلاً على زعماء الإتحاد الأوروبي الإنقلاب على الصين لأنها ببساطة شريكهم التجاري الأول.
وعندما إلتقى بايدن نظيره الروسي فلاديمير بوتين في جنيف، بدا أن الرئيس الأميركي ساعياً إلى هدنة مع روسيا كي تتفرغ الولايات المتحدة لما تراه خطراً ملحاً وداهماً من قبل الصين. ثم كان إحياء لحلف “كواد” مع الهند واليابان وأوستراليا، وتلاه إنشاء حلف “أوكوس” مع المملكة المتحدة وأوستراليا، وكانت صفقة الغواصات العاملة بالوقود النووي لكانبيرا على حساب صفقة الغواصات الفرنسية العاملة بالديزل، مما تسبب بأزمة ديبلوماسية غير مسبوقة بين باريس وواشنطن.
في خضم التوتر الأميركي-الصيني، تقدم بوتين بمطالبه الأمنية للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي وعزّز الحشود العسكرية على حدود أوكرانيا. هنا بدأت الولايات المتحدة تستشعر تنسيقاً روسياً-صينياً، لتغيير موازين القوى السائد في العالم منذ 30 عاماً ولضرب العالم الأحادي القطب
ومنذ رئاسة باراك أوباما، كانت الديبلوماسية الأميركية تُركّز نشاطها على آسيا أكثر بكثير مما توليه لأوروبا أو الشرق الأوسط ومناطق أخرى في العالم. وترافق الحراك الديبلوماسي مع نشاط عسكري إستثنائي في المحيطين الهادىء والهندي مع إنتشار خمس حاملات طائرات أميركية هناك. زادت البحرية الأميركية من عبورها لمضائق تايوان ومن إبحارها في بحر الصين الجنوبي. وكانت بكين ترد بإطلاق التحذيرات وبطلعات جوية في المنطقة الرمادية للمجال الجوي التايواني.
ويكتب الزميل الأول غير المقيم في مجلس شيكاغو للشؤون العالمية بول هير في مجلة “ذا ناشيونال إنترست” الأميركية، أن ثمة ميلاً في الولايات المتحدة إلى “الإنشغال بالتحدي الآتي من الصين، فضلاً عن ميلٍ إلى المبالغة في تضخيم هذا التحدي ومداه، مما أدى إلى ميل لإلقاء اللوم إلى حد كبير على بكين في المشاكل التي تحدث داخل الولايات المتحدة”!
وفي خضم التوتر الأميركي-الصيني، تقدم بوتين بمطالبه الأمنية للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي وعزّز الحشود العسكرية على حدود أوكرانيا. هنا بدأت الولايات المتحدة تستشعر تنسيقاً روسياً-صينياً، لتغيير موازين القوى السائد في العالم منذ 30 عاماً ولضرب العالم الأحادي القطب. ومن المعروف أن الصين تملك قوة ردع نووي في مواجهة الولايات المتحدة، لكن قوتها العسكرية التقليدية هي جد متواضعة مقارنة بالقوات التقليدية الأميركية، على عكس ما هو عليه الحال بالنسبة للقوات الروسية التي هي ثاني أكبر جيش في العالم. ولذلك تحاذر بكين خوض معركة تقليدية مع القوات الأميركية في المحيط الهادىء.
ومع الإنشغال بمواجهة التنين الصيني، لم يأخذ الأميركيون والأوروبيون التحركات العسكرية للدب الروسي على محمل الجد إلا في الأشهر الأخيرة، حيث بدأوا بإرسال السلاح إلى أوكرانيا والتهديد بتدمير روسيا إقتصادياً إذا ما شنّت غزواً. وبعد إجتياز القوات الروسية الحدود ورد أميركا وأوروبا بالعقوبات غير المسبوقة على دولة في التاريخ الحديث، لا تزال إدارة بايدن تراقب الصين لمعرفة موقفها من الغزو الروسي وترصد كل همسة تصدر عن بكين في هذا الصدد.
الشائع الآن في أميركا وأوروبا هو أن العقوبات الغربية مهما كانت قاسية وحتى ولو طاولت في نهاية المطاف قطاع النفط الروسي، فإنها لن تُحقّق غرضها في حال عمدت الصين إلى شراء الوقود الروسي، وتالياً تمكين موسكو من الإلتفاف على العقوبات. أضف إلى ذلك، يخشى الغربيون في أكثر الحروب ضراوة التي تدور الآن مع روسيا، أن تفتح الصين خزائنها لدعم الروبل الروسي، فيتبدد بذلك الكثير من آمالهم في إخضاع روسيا إقتصادياً وسيلة لإيقاف عجلتها الحربية عن الدوران. وفي هذه الحال سيتأكد ما يدور في أذهان إدارة بايدن من أن أوكرانيا ليست سوى معركة بين الحروب الأوسع نطاقاً مع الصين.
لا بد من التوقف عند مبادرة الولايات المتحدة إلى فتح خط إتصال ساخن بين الجيشين الأميركي والروسي في ذروة المعارك الدائرة في أوكرانيا. لا بد من إمعان النظر أيضاً في أن رد الفعل الأميركي على إعلان بوتين التعبئة النووية، قابله رد فعل فاتر من واشنطن، وحتى إرجاء لتجربة أميركية على صاروخ عابر للقارات، بل أكثر من ذلك، لم تذهب الولايات المتحدة الأميركية بعيداً في ترداد الرواية الأوكرانية عن مهاجمة روسيا لمحطة زابرويجيا النووية، واكتفت بدعوة روسيا إلى سحب العسكريين من المحطة، عكس الدول الأوروبية التي تبنت رواية رئيس أوكرانيا فولودمير زيلينسكي عن الحادث.
يخشى الغربيون في أكثر الحروب ضراوة التي تدور الآن مع روسيا، أن تفتح الصين خزائنها لدعم الروبل الروسي، فيتبدد بذلك الكثير من آمالهم في إخضاع روسيا إقتصادياً وسيلة لإيقاف عجلتها الحربية عن الدوران
وفي التصويت الذي أجرته الجمعية العمومية للأمم المتحدة على إدانة الغزو الروسي، كانت أنظار أميركا مشدودة إلى الصين التي امتنعت عن التصويت. وهذا ما جعل بايدن يحذر الرئيس الصيني شي جين بينغ خلال خطاب “حال الإتحاد”، يوم الثلثاء الماضي، من إلتزام “رهان ضد الشعب الأميركي”.
وظهور الصين بمظهر الحيادية في أخطر إختبار تمر به العلاقات الدولية منذ الحرب العالمية الثانية، هو ما يقلق أميركا وأوروبا، اللتان تعيدان قراءة البيان المشترك الذي صدر عن القمة الروسية-الصينية أوائل شباط/ فبراير الماضي على هامش إفتتاح الألعاب الأولمبية الشتوية في بكين، والذي تحدث عن “شراكة لا حدود لها” بين موسكو وبكين.
وتنقل صحيفة “الفايننشال تايمز” البريطانية عن بول هاينلي، المستشار السابق للرئيسين جورج دبليو بوش وباراك أوباما، أن “العلاقة الشخصية التي نسجت بين شي جين بينغ وبوتين على مدى العقد الماضي، جعلت من المستحيل على بكين أن تفصل نفسها عن موسكو”.
وللدلالة على عمق العلاقة بينهما، كتبت الصحيفة أن الزعيمين الروسي والصيني إلتقيا 38 مرة، منذ تعيين شي جين بينغ أميناً عاماً للحزب الشيوعي الصيني، قبل عقد من الآن، وقد إحتفلا مراراً بأعياد ميلادهما معاً.
لكن المستشارة السياسية السابقة لدى الإتحاد الأوروبي سوزا آنا فيرينسجي، فترى أنه “كلما إزدادت عزلة روسيا، وكلما توحدت أوروبا، كلما إزدادت الصعوبة بالنسبة إلى بكين للحفاظ على علاقات وثيقة مع موسكو وعلاقات جيدة مع الإتحاد الأوروبي في آن واحد”.
لم يبدر عن الصين أي موقف حتى الآن يجاهر بدعم روسيا، وإنما تكتفي بالدعوة إلى حل بالطرق الديبلوماسية، وتُلمّح من بعيد إلى أن التكتلات العسكرية ليست حلاً للمشاكل الأمنية في أوروبا، في إشارة إلى حلف شمال الأطلسي.