طوال 40 عاماً من الحرب الباردة، إضطلعت معادلة “الدمار الشامل المتبادل” للقوى النووية وفي مقدمها الولايات المتحدة والإتحاد السوفياتي السابق، في جعل الأسلحة النووية غير قابلة للإستخدام، وساهمت إلى حد بعيد في عدم تورط القوتين العظميين في حروب مباشرة، لا بل أبرم الجانبان معاهدات عدة للحد من هذه الأسلحة.
ومما جعل اللجوء إلى السلاح النووي أمراً غير قابل للإستخدام هو المعرفة المسبقة بأن لا منتصر فيه، وأن التاريخ البشري بكامله سيكون عرضة للهلاك. وتشي التقديرات الصادرة عن مراكز أبحاث عديدة بأنه في الدقائق أو الساعات التي ستلي الضربة النووية الأولى والرد عليها بضربة مقابلة، ستزهق أرواح أكثر من 90 مليون نسمة عدا عن المصابين بالإشعاعات والتلوث.
في الأعوام الأخيرة، إنسحبت الولايات المتحدة وروسيا من الإتفاقات التي تحد من إنتشار الأسلحة النووية، وبينها معاهدة الصواريخ النووية المتوسطة المدى التي يمكن أن تُشكل تهديداً لأوروبا. ولم تبقَ سوى معاهدة خفض الأسلحة الإستراتيجية، التي تلزم الطرفين خفض ترسانتيهما إلى 1550 رأساً حربياً لكل منهما. ومدّد الرئيسان الأميركي جو بايدن والروسي فلاديمير بوتين العام الماضي، العمل بالمعاهدة حتى عام 2026.
بيد أن هذه المعاهدة لا تغطي ما وصفه وليم ج. براود في صحيفة “النيويورك تايمز” بالأسلحة النووية الأقل تدميراً التي تملكها روسيا والولايات المتحدة، والتي يعادل السلاح الواحد منها ثلث القوة التدميرية لقنبلة هيروشيما، الأمر الذي “قد يكون أقل رعباً لكنه أمر قابل للتفكير به”. ويتساءل “ماذا لو وجد بوتين نفسه محشوراً في النزاع، وإختار للخروج من المأزق تفجير إحدى القنابل الصغيرة، ليكسر بذلك حرماً ساد منذ 76 عاماً بعد هيروشيما وناغازاكي”.
المسار التصاعدي للحرب في أوكرانيا والتدخل الغربي الذي يتوسع كماً ونوعاً، وغياب أية آفاق للديبلوماسية، لا تدع مجالاً للشك، في أن الإستراتيجية الغربية المستندة إلى إطالة أمد الحرب، أملاً في حمل روسيا على الإستسلام، تنطوي على مخاطر الذهاب إلى مواجهة ساخنة أوسع، من دون إستبعاد اللجوء إلى الخيار النووي
ويُقدّر مدير مشروع المعلومات النووية في إتحاد العلماء الأميركيين هانس إم. كريستينسن، إمتلاك روسيا 2000 قنبلة نووية صغيرة، بينما تنشر الولايات المتحدة 100 قنبلة من القنابل النووية الصغيرة في أوروبا.
وتتوقع واشنطن خطوات إضافية من بوتين في المرحلة المقبلة. وبحسب مدير وكالة إستخبارات الدفاع الأميركية اللفتنانت جنرال سكوت دي. بيرير في شهادة له أمام لجنة الخدمات المسلحة في مجلس النواب “من المحتمل أن تعتمد موسكو أكثر على ردعها النووي، كي ترسل إشارة إلى الغرب وتظهر قوتها”.
وبحسب الخبيرة السياسية في جامعة براون الأميركية نينا تانينولد فإن “بوتين يستخدم الردع النووي لشق طريقه في أوكرانيا.. ومنع الغرب من التدخل”.
ورأت الخبيرة في السياسة النووية في جامعة جورجتاون كاتلين تالمدج لصحيفة “الفايننشال تايمز” أن ثمة إحتمالاً حقيقياً بأن يلجأ بوتين إلى الأسلحة النووية “إذا تعرض لنكسات عسكرية ورأى أن الوضعين الديبلوماسي والسياسي ينهاران”، وأضافت “إنها ليست فقط رد على الكيفية التي تسير بها حملته في أوكرانيا وإنما هي رد على التطورات الأخرى، مثل العقوبات، وإرسال ألمانيا أسلحة إلى أوكرانيا.. إن الصورة بكاملها تبدو بالنسبة إليه، قاتمة جداً. وإذا ما أراد إستخدام أسلحة نووية تكتيكية لتحقيق (أهدافه) في أوكرانيا، فإنه من الممكن أن يفعل”.
وكان نائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي ديميتري ميدفيديف أكثر صراحة، عندما قال إنه “إذا ما إنضمت السويد وفنلندا إلى الناتو، فإن الحدود البرية للحلف مع الإتحاد الروسي ستتضاعف. ومن الطبيعي أن هذه الحدود يجب تعزيزها”. وأضاف أنه “لا يمكن عندها الحديث عن وضع في البلطيق خالٍ من الأسلحة النووية – إن الردع يجب إستعادته”، موحياً بشكل ضمني أن هذه الخطوة ستحفز روسيا على نشر أسلحة نووية في منطقة البلطيق رداً على ذلك.
وكتب محرر شؤون الأمن القومي في مجلة “ذا ناشيونال إنترست” الأميركية مارك أبيسكوبوس “إن بعض الجمهوريين في الكونغرس يضغطون على إدارة بايدن لدعم الهجمات الأوكرانية المعاكسة لإستعادة كل الأراضي التي إحتلتها روسيا، بما في ذلك القرم ودونيتسك ولوغانسك. وفي الوقت الذي إنتقل فيه القتال إلى الشرق، فإن الدعوات الغربية لنقل القتال إلى داخل روسيا تتزايد. إن التصميم لدى الكثير من المشرعين في الغرب هو حشر موسكو في الزاوية، لكن ماذا يمكن أن يحصل إذا ما نجحوا في ذلك”؟
رئيس تحرير المجلة نفسها جاكوب هيلبروم إستشهد بجورج كينان واضع فكرة “إحتواء” الإتحاد السوفياتي إبان الحرب الباردة ليقول إن هذا الديبلوماسي الأميركي السابق كان يخشى دائماً إندلاع حرب نووية في العالم. وأضاف أن “غزو بوتين لأوكرانيا أيقظ جدلاً جديداً حول أهداف أميركا في الخارج. هل يجب أن تضطلع بدور الشرطي العالمي، وفق ما أوحى الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في خطابه أمام الكونغرس؟ أو أن تتجاوز الحدود بما يؤدي إلى الكارثة التي تخوف جورج كينان من وقوعها إبان الحرب الباردة”؟
ولاحظ بريان بيندير في مجلة “بوليتيكو” الأميركية، أن “تلويح الرئيس الروسي بالخيارات النووية في الأسابيع الأخيرة، كان غير مسبوق، فهو أمر بمناورات نووية قبيل غزو أوكرانيا، ثم رفع حال التأهب النووي بعد أيام من ذلك. ولمح الكرملين مراراً باللجوء إلى الأسلحة النووية – كخيار تحتفظ به العقيدة العسكرية الروسية – إذا ما رأى أن الغرب ذهب بعيداً في النزاع”.
وتذكر “النيويورك تايمز” أنه “في عام 1999، حاكت مناورة للجيش الروسي هجوماً لقوات حلف شمال الأطلسي على كالينينغراد الجيب الروسي في بحر البلطيق. وتضمنت المناورة تقهقراً للقوات الروسية التقليدية إلى أن أطلقت موسكو أسلحة نووية على بولندا والولايات المتحدة”.
وتعتمد الترسانة النووية الروسية المحدثة على صواريخ “إسكندر-إم” التي دخلت الخدمة عام 2005. وفي إمكان هذه المنظومة إطلاق صاروخين لمسافة 300 ميل. ويمكن تجهيز الصاروخ برؤوس حربية تقليدية ونووية. وتبلغ القوة التدميرية لهذا الرأس ثلث قوة قنبلة هيروشيما. والأسبوع الماضي، أجرت روسيا تجربة ناجحة على صاروخ “سارمارت” العابر للقارات والقادر على حمل رؤوس نووية عدة.
تقول كاتلين تالمدج لصحيفة “الفايننشال تايمز” إن ثمة إحتمالاً حقيقياً بأن يلجأ بوتين إلى الأسلحة النووية “إذا تعرض لنكسات عسكرية ورأى أن الوضعين الديبلوماسي والسياسي ينهاران”
ويقول الديبلوماسي الروسي السابق نيكولاي سوكوف، الذي فاوض على معاهدات الحد من التسلح النووي أيام الإتحاد السوفياتي، إن الرؤوس النووية يمكن تركيبها أيضاً على صواريخ كروز، التي يمكنها أن تطال من داخل روسيا “مختلف أنحاء أوروبا” بما فيها بريطانيا.
رئيس لجنة الخدمات المسلحة في مجلس الشيوخ الأميركي السناتور السابق سام نان، الذي يتشارك الآن في رئاسة “مبادرة التهديد النووي”، يحذر من أن “ثمة دائماً فرصة للأخطاء، لكنني أعتقد أن هذه الفرص هي أعلى الآن”.
ويفسر المستشار الألماني أولاف شولتس، الكثير من أسباب عدم الحماس لمجاراة الدول الأخرى الأعضاء في حلف شمال الأطلسي لتسليح أوكرانيا، إذ قال لمجلة “دير شبيغل” قبل يومين :”أفعل كل ما في وسعي لمنع تصعيد يؤدي إلى حرب عالمية ثالثة. يجب ألا تكون هناك حرب نووية”.
المسار التصاعدي للحرب في أوكرانيا والتدخل الغربي الذي يتوسع كماً ونوعاً، وغياب أية آفاق للديبلوماسية، لا تدع مجالاً للشك، في أن الإستراتيجية الغربية المستندة إلى إطالة أمد الحرب، أملاً في حمل روسيا على الإستسلام، تنطوي على مخاطر الذهاب إلى مواجهة ساخنة أوسع، من دون إستبعاد اللجوء إلى الخيار النووي.