منذ أكثر من مائتي عام، استطاعت المدرسة الدينيّة الشيعيّة بأن تنقل موقعية العقل من الصفوف الخلفيّة، إلى المقاعد المتقدّمة في فهم الدّين والحياة وتفسيرهما. وحين انتصرت المدرسة الأصولية على الإخباريّة، كان ذلك إيذانًا لتحوّلٍ هائلٍ على صعيد مركزية العقل والإستعانة به، وبات من المستحيل تجاوزه.
العقل والحرية قضيتان متداخلتان، بل يمكن القول إنّ أصلهما واحد، فلا عقل بدون حرية، ولا حريّة من دون عقل، وهذه تحديدًا ميزة الإنسان عن باقي المخلوقات.
وقد أشار آية الله الدكتور علي أكبر رشاد في كتابه “الديموقراطيّة القدسية” إلى هذه المسألة بطريقة لطيفة، حين اعتبر أنّ الملائكة يفتقرون لأدب العبوديّة، ويغتبطون بـ {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ}، ولم يشهدوا دروس {علّم الأسماء}، ولم يتجرّعوا سموم الهبوط والفراق، لذلك هم محرومون من لذّة تصوّره وإدراكه، ناهيك عن وصاله والشّعور به. فحتّى عبادتهم، إنّما هي بسبب الخوف وليس عن حريّة: {وَيُسَبِّحُ ٱلرَّعْدُ بِحَمْدِهِۦ وَٱلْمَلَٰٓئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِۦ}، أمّا عبادة الأحرار، فهي الدّرب المتاح الممكن لبني البشر.
في النقاش حول حريّة الفكر بكل مرتكزاته، وأهمية تحريكه في المجتمع، من أجل تلافي الأخطاء والوصول إلى الصيغة التي تحفظ لبنان من أعداء الداخل والخارج، يطرح البعض قضيّة تعطيل العقل، أو تسليمه إلى عقلٍ آخر، لسبب عقلائيّ كما يدّعون، كأن يكون أكثر نضجًا وإحاطة بالظروف والمعطيات. لكن ما لا يلتفت إليه هؤلاء، أنّ من يُعطّل عقله للحقّ مرّة، هو قابلٌ بأن يعطله للباطل أيضًا، مرّاتٍ ومرّات، وهنا تكمن الخطورة. في هذا السياق، يعلّل الإمام الخامنئي وجوب إشغال العقل لأنّه “مع التفكير سيكون الإختيار اختيارًا صحيحًا. فإذا أخطأ الإنسان في الإختيار ستكون مناقشته أسهل إذا كان مفكرًا. إلّا أنّ ذلك المرء الّذي لا يُفكّر، مهما كان خياره، عندما يكون فيه القليل من الخطأ، لن يكون مُتاحًا التحدّث إليه بشكلٍ منطقيّ، لأنّه مستسلمٌ لعصبيّاته وجهله وعدم معرفته.. أساس القضيّة هو التفكير”.
في كلّ مرحلة تاريخيّة علينا أن نفهم ما هو الدور الذي يجب أن نلعبه، أو أن لا نلعبه أحيانًا أخرى، سؤالٌ من الصعب الإجابة عنه، لكن ليس من المستحيل حتمًا، بل يجب الإجابة عنه ما دمنا نفكر، إنّها مرحلة التفكير، فكيف إذا كان شعبنا يواجه ظروفًا إقتصادية وإجتماعية صعبة وغير مسبوقة منذ نشوء دولة لبنان الكبير؟
بين فهم الحاضر والمستقبل
من القواعد التي لا يمكن تجاوزها في العلوم عامة، وعلم السياسة تحديدًا، أن معيار فهم الحاضر دليلُه التصوّر الصحيح والواضح للمستقبل. بمعنى آخر، إذا أردت أن تكتشف أنّ هذه الدولة أو المنظمة أو المؤسسة أيًّا تكن، فهمها للواقع المُعاش هو فهم دقيق ومنطقي، يمكنك إدراك ذلك من خلال التصوّر الذي تقدّمه للمستقبل والخطط والقرارات المؤثّرة فيه. فالمستقبل، هو ردة الفعل الناتجة عن فهمك الحقيقي لكلّ عناصر الحاضر، والمسار الذي تسلكه حاليًا، هو طريقك نحو الغد.
لنأخذ مثالًا مبسّطًا. لا شكّ أنّ هناك أزمة بما خصّ موارد المياه العذبة على الأرض، والعالم الحاضر يعيش تبعات هذه الأزمة، ومن الطبيعيّ أن هذه القضيّة سيتصاعد تأثيرها ويشتدّ في المستقبل أضعاف أضعاف ما هي عليه الآن. مبادرة أي دولةٍ لإتخاذ قراراتٍ جريئة وكبيرة ووضع خططٍ لحلّ هذه المعضلة أو تجنّبها، يُنبىء عن أنّ أركان هذه الدّولة، وأصحاب التخطيط والقرار فيها، يعيشون خطورة هذه الأزمة في الوقت الرّاهن، وبناءً عليه يبنون التصورات والخطط المستقبليّة. في المقابل، فإنّ تجاهلها من خلال الخطط والقرارات، يُؤشر إلى عدم فهمهم الحقيقيّ لواقع الأزمة، فتجاوز هذه القضيّة لا يمكن تبريره إلّا بعدم إدراك عمقها وفهمها جيّدًا، أو أنه مؤشرٌ على وجود علّة ما عند من فهمها ثمّ لم يتفاعل معها.
القضيّة الثانية المهمّة أيضًا، هي معرفة استعمال الأدوات والتوقيت المناسب للتحرّك. فلو قصّرنا وأهملنا الآليّات المناسبة والضروريّة للتخطيط والإنطلاق بالعمل، فلن تفيدنا كلّ الإبتهالات والأدعية وسائر أنواع الطقوس الإيمانية، وهذه سننٌ يؤمن بها العقل المادي، بل هي جوهر منطِقه، وكذلك العقل الإيماني الذي يعتبر أنّ “السنن الإلهية غير قابلة للتغيير، وأنّ القوانين الإلهية قوانين متقنة، الله ليس له قرابة مع أحد، أنْ نقول مثلًا إنّنا مسلمون وشيعة..” بحسب تعبير الإمام الخامنئي، وأنّه في اللحظة المناسبة ينبغي القيام بالحركة المناسبة، أمّا إذا تركنا الفرصة تمرّ، فلا فائدة من القيام والتحرّك فيما بعد، كما حدث مع “التوابين” (مجموعة من الذين خذلوا الحسين بن علي في كربلاء، ثم تابوا وتحركوا فقُتلوا جميعًا بالآلاف، دون أن يحدث ذلك أيّ فارقٍ إطلاقًا).
ما الذي يريده العالم منّا؟
هناك مسألتان تنظُمان موقعك ودورك في العالم: ما الذي تريده أنت، وما الذي يريده العالم منك؟ الصراع يبدأ حين تتعارض هاتان الإرادتان. كما هو معلوم، تم تشكيل دول منطقتنا خدمة لوظيفة ما تمت بمصالح الدول العظمى. وما يلفت في تاريخِ لبنانَ العثماني، أنّ ملوك فرنسا وتحديداً منذ أيام السلطان سليمان القانوني، أبدوا اهتمامًا واضحًا بترسيخ نفوذهم وامتيازاتهم في لبنان، من خلال المعاهدات التي عقدوها، ثم تطورّت هذه الإمتيازات في زمن “الرجل المريض”، إلى أن جاءت اتفاقية سايكس-بيكو وقسّمت المنطقة بناء لحدودها الحالية..
في كتابه “تاريخ لبنان الحديث”، يشرح المؤرخ فواز طرابلسي ظروف تغلغل رأس المال الأوروبي، خاصة الفرنسي، منذ منتصف القرن التاسع عشر وصعودًا. المثير للدهشة، أنّ السلطنة من خلال مواجهة السيطرة الإستعمارية الأوروبية، أنتجت نقيض المرجو منها، حيث زادت مشاريع بناء البنى التحتية والتحديث الطموحة لكن من خلال المديونيّة، ما ضاعف تبعية السلطنة تجاه القوى الإستعمارية وأدى إلى إفلاسها وانهيارها في نهاية المطاف. ويلفت الكاتب الإنتباه إلى أنّ المفارقة في أمر بيروت، كونها كانت نموذجًا للحداثة العثمانيّة في أواخر القرن التاسع عشر، وفي نفس الوقت، وهذا الأهم، رأس حربةٍ وقاعدةٍ للسيطرة الأوروبيّة على سوريا في آنٍ معًا. ثم يعدّد الكاتب عددًا من المشاريع الإستراتيجيّة التي قامت بها الشركات الفرنسية، والتي ساهمت باشتداد قبضة المستعمرين. ثم ينتقل طرابلسي إلى لبنان ما بعد الإستقلال، ويتوسع في تفصيل تطور النفوذ الإقتصادي المحلي والخارجي (ذات التأثير الفرنسي) المشترك، ثم اندماج لبنان المتسارع في الإقتصاديات النفطية العربية، مما أدخل المصالح الإنكلوسكسونية إلى قلب الإقتصاد اللبناني، وأدى إلى نشوب منافسة حادة بينها وبين المصالح الفرنسية.
ثم جاءت الحرب اللبنانية التي أنتجت “الإقتصاد السياسي للميلشيات”، وتبعه اتفاق الطائف الذي مهّد للهيمنة “الحريرية” على كلّ مفاصل الإقتصاد. إذًا شكّلت المسألة تطوّرًا للدور الوظيفي للبنان، من السياسة والإقتصاد وحتى الحروب، في خدمة الهيمنة الخارجية. لكن خلال فترة الثمانينيات، أيْ قبل أربعين عامًا، حدث تحوّل استثنائي في حركات المقاومة ضدّ الإحتلال الإسرائيلي، إذ وُلد حزب الله، ومع ولادته ونموّه، تبلورت للمرة الأولى منذ الإستقلال قوة لبنانية متحررة من إرادة الرّعاة التقليديين، الغرب والخليج.
ما الذي نُريده نحن؟
طبيعة الصراع الوجودي مع العدو لم تسمح، ولن تسمح، للمقاومة بأن تستريح، والهدوء الذي يحدث بين جولةٍ وأخرى، هو المحطة المناسبة لإعادة التقييم وتكثيف العمل. عالميًا كلّ الفاعلين مشغولون من أجل الحفاظ أو توسيع موقعهم في موازين القوى المتغيّرة، بالنسبة لهم هذه لحظة مصيرية.
إذا أردت أن تكتشف أنّ هذه الدولة أو المنظمة أو المؤسسة أيًّا تكن، فهمها للواقع المُعاش هو فهم دقيق ومنطقي، يمكنك إدراك ذلك من خلال التصوّر الذي تقدّمه للمستقبل والخطط والقرارات المؤثّرة فيه. فالمستقبل، هو ردة الفعل الناتجة عن فهمك الحقيقي لكلّ عناصر الحاضر، والمسار الذي تسلكه حاليًا، هو طريقك نحو الغد
ما يفيدنا في كلّ هذا الحديث هو البحث في كيفية الخروج من الدوامة التي لا تنتهي هنا في لبنان. من غير المنطقي الإستمرار هكذا، والمطلوب تقديم البديل الحسّي، البعيد عن المزايدة والشعبوية. وكي نبدأ البحث عن البديل، يجب في البداية أن نفهم مسألتين:
المسألة الأولى، ما هو موقع لبنان وما هو دوره في هذا العالم المليء بالصراعات؟ هذا سؤال ضروري لكلّ شيء لاحق، ولا يمكننا البدء بأي نقاشٍ أو تحليلٍ أو اقتراح قبل فهم هذه القضية بالدّقة وليس بالإجمال. وهذا يحيلنا إلى عدّة تساؤلات فرعيّة أخرى مثل: هل المقاومة هدفٌ بحدّ ذاتها؟ هل من حلول وسطية مع المستعمرين وأدواتهم؟ يعني هل بإمكاننا مشاركتهم إقتصاديًا ومقاومتهم في نفس الوقت؟ التصوّر المنشود يجب أن يكون واضحًا، فالأنبياء كانوا منذ البداية يعلنون أهدافهم النهائية، يقول الإمام الخامنئي، ولذلك من اتبعهم كانوا يعلمون أين يتجهون وإلى أي هدفٍ هم ذاهبون، وبهذا تزداد همّتهم وترتفع قدرتهم على تحمّل المصاعب والأخطار.
المسألة الثانية، هي أنّ عملية بناء التصوّر المفترضة لِما يجب أن يكون عليه بديل النموذج اللبناني، مسألة شديدة التعقيد، ومتداخلة ببنًى فكريّةٍ واجتماعيةٍ وطائفية ومصالح محلية وخارجية متداخلة، وعليه، من الوهم الإعتقاد أنّ بإمكان عقلٍ واحدٍ، أو حتى عدة عقول لامعة، تقديم رؤيةٍ متكاملة للبديل، بل هي عمليّة جماعيّة يجب أن يشترك بها أكبر عددٍ ممكن من العقول، وهنا يتجلّى دور النّخبة، والأهم دور القائد الذي يُدير النخب.
ما الذي يجب أن نفعله الآن هو السؤال الحقيقي، في كلّ مرحلة تاريخيّة علينا أن نفهم ما هو الدور الذي يجب أن نلعبه، أو أن لا نلعبه أحيانًا أخرى، سؤالٌ من الصعب الإجابة عنه، لكن ليس من المستحيل حتمًا، بل يجب الإجابة عنه ما دمنا نفكر، إنّها مرحلة التفكير، فكيف إذا كان شعبنا يواجه ظروفًا إقتصادية وإجتماعية صعبة وغير مسبوقة منذ نشوء دولة لبنان الكبير؟