الدولة ووظائفها المُصادرة.. “فدرال بنك” نموذجاً!

"الدولة تخلت عن وظيفتها"، "على الدولة استعادة وظيفتها". "دولة ضمن الدولة".. عبارات نسمعها بشكل شبه يومي عبر وسائل الاعلام ومواقع التواصل، فيتخيل السامع أن مطلقها طامحٌ لبناء دولة فعلياً، ولكن سرعان ما يتضح أن نظرته لوظيفة الدولة مرتبطة بأمر واحد، الا وهو الذود عن الحدود!

للمفارقة أن الشق الوحيد الذي يشهد تكاملاً بين مؤسسات الدولة والمقاومة هو الشق الدفاعي. صحيح أن على الدولة حماية الحدود، ولكن في بلد مثل لبنان يواجه تهديداً كالتهديد الاسرائيلي، قد يكون حملاً ثقيلاً على دولة بحجم لبنان وبجيشها النظامي، أن تصمد في وجه كيان بحجم اسرائيل بما تلقاه من دعم دولي، سياسي وعسكري، كبير! ولذلك قد تكون استراتيجية التكامل بين الدولة والمقاومة هي الحل الأمثل (شرح الأمر متروك للخبراء العسكريين) أو الحصول على أسلحة نوعية، وهو ما يبدو بعيد المنال.

ولكن، غفل عن مطلقي شعارات استعادة الدولة لوظائفها أن ثمة نقاطاً عدة أساسية في هذا المجال لا يأتي أحد على ذكرها، ولا تخصص لها حلقات ومقالات وتقارير اخبارية، بل تُصم الآذان عند الحديث عنها وتُكمّ افواه السياسيين حين يتم تناولها!

وفي ما يلي عدة أمثلة من عشرات تنازلت فيها الدولة عن دورها ووظيفتها من دون أن يتحول هذا التنازل قضية رأي عام:

القضاء:

سأبدأ حيث الصورة معكوسة!

المفارقة ان إحدى أبرز الوظائف للدولة تكمن في تحصين القضاء ضد أي تدخل، لكن الدولة لزمت القضاء لأركانها وزعماء الطوائف، فباتوا يتدخلون علناً بالقضاء ويتنطحون للقيام بواجبات القاضي والتأثير على القضاة.

ومن سخرية الأمثلة، أن رجل دين يدافع عن حاكم مصرف ورجل دين آخر عن وزير فاسد، وثالث يدافع عن عدم حضور مسؤول أمام القضاء. وفي هذا الاطار، يتجسد الاستخفاف بعقول الناس بمطالبة زعماء وسياسيين بإحترام القضاء عندما تكون القضايا متعلقة بغيرهم، وعندما يأتي الدور اليهم يعتبرون القضاء مسيساً.

فللمطالبين بإستعادة الدولة وظائفها، لماذا لا نكون كالدول الراقية حيث يكون القضاء مستقلاً وينتج نفسه بنفسه، بعيداً عن تلزيمه للسلطة السياسية.

الأحوال الشخصية:

لنطرح الزواج المدني مثالاً، فالدولة تنازلت عن وظيفتها لقاضٍ اجنبي لعقد زواج وفق قانون اجنبي لشخصين لبنانيين، ويسجل الزواج في لبنان، وهي بالتالي متنازلة عن واجبها لطرف خارجي. وحين يسجل الزواج في لبنان، فان تطبيق مفاعيله، وبدل أن يكون ضمن وظائف الدولة، جيّرت الدولة وظيفتها لقضاة روحيين وشرعيين ورجال دين ومحاكم تابعة للطوائف.

التنازل عن وظائف الدولة هو نهج ونسق عام في بلد جيّرت فيه الدولة كل وظائفها للطوائف، بزعمائها السياسيين والروحيين، وتجارها وكارتيلاتها ومصارفها، فبات هؤلاء حكام لبنان الفعليين بالتكافل والتضامن مع قضاة يرعون المصالح وأمنيين يمررون ويتواطؤن، وإعلاميين يبيضون الصفحة.. ويبررون

حماية البيئة:

تنازلت الدولة عن دورها لمصلحة زعماء المناطق الذين يمكن أن يتغلبوا على الدولة، والأمثلة هنا كثيرة، تبدأ بالكسارة وتمرّ بالمطمر ولا تنتهي ببعض المعامل. ولم نسمع يوماً السياديون يطالبون الدولة باستعادة وظيفة حماية البيئة.

استيراد النفط:

يعتبر هذا الأمر من أهم وظائف الدولة السيادية، ومن واجبها أداء هذه الوظيفة لضمان ايصال مواد اساسية كالنفط الى لبنان واللبنانيين، ولكن، سلمت الدولة دورها للتجار والكارتيلات ليستوردوا ويسعروا ويربحوا على هواهم.. حتى ما حكي عن استيراد من دولة لدولة دخل فيه تجار كوسطاء ليستوردوا هم، بينما بقيت الدولة تتفرج!

سعر الصرف:

لننطلق من هذا الموضوع بسؤال: هل نعرف اذا كنا في دولة سعر الصرف فيها ثابت او هو حسب العرض والطلب، وهل يحدده حاكم المصرف المركزي او السوق السوداء؟ بالطبع لن نجد جواباً على هذا السؤال، فالدولة متنازلة عن وظيفتها بتحديد آلية تحديد سعر الصرف، وكله متروك للحاكم وحساباته، ولتطبيقات الكترونية ومافيات سوق سوداء. هذا لا يعني ان على الدولة تحديد سعر الصرف ولكن لا يجوز ان تكون هذه الصلاحية بيد من يستعملها اليوم.

المصارف:

كان يُفترض بالسلطة التنفيذية ومنذ اليوم الأول للأزمة الإقتصادية والمالية والنقدية (2019)، أن تشرع بتنفيذ قانون الكابيتال كونترول، أي إتخاذ إجراءات رسمية لضبط التحويلات المالية لا سيما بالعملة الصعبة. بعد ثلاث سنوات من الأخذ والرد، لم تتخذ الحكومات المتعاقبة (ولا مجلس النواب) هذا القرار، لتترك هذه المهمة بعهدة مصارف خانت أمانة المودعين بتصرفها غير الآمن بأموالهم ما أدى إلى ضياع جنى العمر.. إلى أن وصلنا إلى ما وصلنا إليه، فصار لزاماً على مواطن مثل باسم الشيخ حسين أن يلجأ إلى السلاح بدل القانون لتحرير جزء من وديعته من “فدرال بنك”، منعاً لموت أحد أفراد عائلته على باب إحدى المستشفيات الخاصة.

التعليم:

في الشق التعليمي، تنازلت الدولة عن دورها بشكل كبير. فكل مدرسة في لبنان لها منهاجها، تخرج اجيالاً يفكر كلٌّ منهم بطريقة ما، وكل فئة لها كتاب تاريخ وكتاب تربية مدنية مختلف، ويقرأ كل شاب الامور حسب نظام التعليم الذي تلقاه. ولهذا فأجيالنا لا ترى التاريخ من منظار واحد، ولذلك لن ترى الحاضر والمستقبل من منظار واحد، ما يهدد أمن البلاد ومستقبلها! وهنا، لا بد من الإشارة الى “مساهمة” عدد من وزراء التربية بضرب الجامعة اللبنانية والمدرسة الرسمية.

إقرأ على موقع 180  "الباروميتر العربي": نسبة مؤيدي حزب الله في لبنان.. تتزايد!

الادوية والاستشفاء:

مثال آخر عن تنازل الدولة عن وظيفتها. دعونا نراقب ما يحصل بعلاجات مرض السرطان والأمراض المستعصية لننطلق منه الى كل شق الأمن الصحي للمجتمع، فالدولة متنازلة عن وظيفتها للمستوردين من دون أي قدرة على التأثير عليهم، بل على العكس، هم كارتيل أقوى من الدولة! كذلك في مجال الأمن الإستشفائي، فالدولة تعطي ميزانيات للمستشفيات الخاصة اكثر من المستشفيات الحكومية، وهذا ما قام به وزراء ادعوا السيادة والتغيير، فضربوا اكثر واكثر المستشفيات الحكومية!

بعد هذه الجردة السريعة، وهذه الأمثلة التي يمكن أن تطول وتطول، يمكن الحسم بأن التنازل عن وظائف الدولة هو نهج ونسق عام في بلد جيّرت فيه الدولة كل وظائفها للطوائف، بزعمائها السياسيين والروحيين، وتجارها وكارتيلاتها ومصارفها، فبات هؤلاء حكام لبنان الفعليين بالتكافل والتضامن مع قضاة يرعون المصالح وأمنيين يمررون ويتواطؤن، وإعلاميين يبيضون الصفحة.. ويبررون!

في الخلاصة، هذه الدولة قامت لتكون ملك الكارتيلات والطوائف والمنظومة.. ولا حل الا بتغيير النظام السياسي وإستبداله بنظام يكفل تغيير الاداء وبناء دولة المواطن لتقوم بوظائفها جميعاً!

Print Friendly, PDF & Email
Free Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Premium WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  أوباما وإردوغان فى «أرض الميعاد»