هل تجوز المقارنة لبنانياً بين 2025.. وما بعد اجتياح 1982؟

منذ أن أُعلن نظرياً عن اتفاق وقف النار بين لبنان و"إسرائيل" في نهاية تشرين الثاني/نوفمبر 2024، حتى يومنا هذا، تتردد فكرة المقارنة بين ما أعقب الغزو "الإسرائيلي" للبنان في العام 1982، وما نشهده في هذه الأيام، ولا سيما عندما يجري الحديث عن مسار أمني - ديبلوماسي يفضي إلى التطبيع بين لبنان و"إسرائيل".

يريد البعض من خلال هذه المقارنة بين زمنين يفصل بينهما 43 عاماً القول إن القدر الأمريكي هو قدرٌ لا يُرد، ويرى البعض الآخر، وفق المقارنة نفسها، أنه بالامكان هزيمة المشروع الأمريكي في المنطقة، كما هُزمَ هذا المشروع قبل 43 عاماً.

غير أن القراءة الموضوعية تُحتم علينا عدم قراءة الماضي من منظور الواقع الحالي وعدم محاكمة الواقع الراهن من منظور الماضي، لذلك لا بد من قراءة كل حدث وفق حيثيات الزمن الذي حصل فيه لمحاولة التوصل إلى استنتاج موضوعي قدر الامكان. وكي لا يغرق القارىء في التفاصيل سنكتفي بذكر أبرز نتائج الحرب “الإسرائيلية” في العام 1982 وأبرز نتائج الحرب “الإسرائيلية” في العام 2024.

لقد أطلقت “إسرائيل” على حربها في العام 1982 اسم “سلامة الجليل”، وكان من المُقدر، حسب التفاهم الأمريكي -“الإسرائيلي”، أن تتوقف عند حدود نهر الأولي (40 كلم وهو المدى الأقصى لصاروخ الكاتيوشا وقتذاك)،غير أن وزير الحرب آنذاك أرييل شارون، وبناء على معطيات “إسرائيلية” ولبنانية، أقنع رئيس الوزراء مناحيم بيغن بأن تتمدد العملية العسكرية لتبلغ العاصمة اللبنانية، وهو الأمر الذي أثار حفيظة الأمريكيين، في الأيام الأولى، قبل أن يُوفروا كل الدعم المطلوب لحكومة بيغن، ليس عسكرياً وحسب بل سياسياً من خلال مجلس الأمن الدولي.

وهكذا دفع أرييل شارون بجيشه ليواصل تقدمه خلال أيام قليلة حتى بلوغه أبواب العاصمة بيروت وصولاً إلى إحكام حصاره عليها لمدة 72 يوماً تحت وطأة قصف عنيف براً وبحراً وجواً وحرمان أهلها من الماء والكهرباء والدواء وكل مقومات العيش. وبرغم ذلك، فشلت كل محاولات اقتحام المدينة بفضل الخط الدفاعي الذي وفرته المقاومة الفلسطينية بمختلف فصائلها والجيش السوري والحركة الوطنية اللبنانية.

ومع تصاعد الضغط “الإسرائيلي” على المدينة ارتأت القيادات البيروتية حينها أن تطلب من رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات الموافقة على خطة المبعوث الأمريكي من أصل لبناني فيليب حبيب لاخلاء كل مقاتلي المنظمة بحراً من بيروت واجلاء قوات الجيش السوري براً فيما أعلن رئيس الحركة الوطنية حينها وليد جنبلاط حل هذه الجبهة التي كانت تضم أحزاباً من مشارب سياسية وأيديولوجية مختلفة.

وبالفعل، خرج أكثر من 14 ألف مقاتل فلسطيني بدءاً من التاسع عشر من آب/أغسطس 1982 بالسفن بحراً من مرفأ بيروت إلى تونس ودول عربية أخرى وكان في مقدمة من خرجوا ياسر عرفات والعديد من قادة منظمة التحرير في بيروت. كما خرج أكثر من 2500 جندي في جيش التحرير الفلسطيني (ينضوون في الجيش السوري) من بيروت إلى البقاع ومنه إلى دمشق عن طريق البر.

ولم تمضَ أيام قليلة على بدء هذه العملية، حتى كان مجلس النواب اللبناني يلتئم في الثالث والعشرين من آب/أغسطس 1982 في المدرسة الحربية في الفياضية وينتخب قائد القوات اللبنانية بشير الجميل رئيساً للبلاد بحراسة الدبابات الإسرائيلية.

وبعد أقل من ثلاثة أسابيع اغتيل الجميل في بيت حزب الكتائب في الأشرفية لينتخب المجلس النيابي شقيقه أمين رئيساً، وسرعان ما عين الأخير المحامي البيروتي شفيق الوزان رئيساً للحكومة. إلى جانب ذلك، انتشرت في شوارع بيروت وحدات من القوات متعددة الجنيسات (أمريكية وفرنسية وإيطالية)، واعيد توحيد الجيش اللبناني تحت قيادة واحدة لتنفيذ سياسة السلطة السياسية التي وضعت على رأس سلم أولوياتها ملاحقة السلاح “غير الشرعي”.

فوق كل ذلك فرضت “إسرائيل” على السلطة السياسية اللبنانية اجراء ما أسموه مفاوضات سلام كانت تتنقل بين فندق “ليبانون بيتش” في منطقة خلدة جنوبي بيروت وأحد فنادق مستعمرة كريات شمونة في شمال فلسطين المحتلة. لم تدم المفاوضات طويلاً حتى أقر اتفاق “سلام” سُمي اتفاق 17 أيار/مايو، وهو تاريخ توقيعه عام 1983. وفي هذا الإتفاق سلّمت السلطات اللبنانية “إسرائيل” كل مقومات السيادة عبر الموافقة على حرية حركة جيشها براً وبحراً وجواً بذريعة منع تهديد أمنها، غير أن هذا الاتفاق لم يعمّر سوى شهور قليلة، إذ أدت الوقائع اللبنانية منذ ولادة المقاومة مروراً بـ”حرب الجبل” في أيلول/سبتمبر 1983 وصولاً إلى 6 شباط/فبراير 1984 إلى اسقاط هذا الاتفاق في البرلمان اللبناني نفسه الذي كان أقره قبل أقل من سنة.

وبالامكان القول إن نتيجة الغزو “الإسرائيلي” كانت انتصاراً بائناً لـ”إسرائيل” وهزيمة لا لبس فيها لقوى المقاومة بمختلف فصائلها الفلسطينية واللبنانية كما لسوريا وللحليف الدولي لهذه القوى حينها الاتحاد السوفياتي ومنظومة الدول الاشتراكية.

في أكتوبر/تشرين الأول عام 2024، أطلقت “إسرائيل” عدوانها البري على لبنان تحت اسم “حرب لبنان الثالثة”، وذلك بعد أكثر من عام على اطلاق حزب الله حرب اسناد غزة التي كانت عبارة عن تبادل للقصف الصاروخي والمدفعي مع الجيش “الإسرائيلي” على امتداد الحدود اللبنانية. استبقت “إسرائيل” حربها بتفجير الآلاف من أجهزة “البيجر” والاتصال اللاسلكي عبر عملية استخبارية تم تحضيرها على مدى سنوات وأدت تلك التفجيرات إلى اخراج أكثر من خمسة آلاف من عناصر حزب الله من المعركة واتبعت ذلك بسلسلة من عمليات الاغتيال طالت معظم القيادات العسكرية للحزب، فضلاً عن الأمين العام السيد حسن نصرالله وخليفته السيد هاشم صفي الدين وقيادة “فرقة الرضوان”. ولكن الجيش “الإسرائيلي” الذي توقعت قيادته تقدماً برياً سهلاً بعد هذه العمليات المؤلمة لحزب الله فوجىء بشراسة المدافعين عن الأرض إذ لم تستطع قواته التقدم أكثر من اثنين إلى ثلاثة كيلومترات في عمق الحافة الحدودية بالرغم من القصف الجوي والبري العنيف على مدار الساعة ولمدة 66 يوماً. وقد اعترف الأمين العام الحالي لحزب الله الشيخ نعيم قاسم بأن المقاومين رفضوا كل نداءات قيادتهم للانسحاب وأصروا على مواصلة القتال بطريقة استشهادية.

وافق حزب الله على اتفاق وقف اطلاق النار خلال مهلة ستين يوماً، برعاية الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وبموافقة الحكومتين اللبنانية و”الإسرائيلية”. ويتضمن الاتفاق اخراج سلاح الحزب من كل منطقة جنوب الليطاني، فيما تنهي “إسرائيل” سحب كل قواتها خلال هذه الفترة الزمنية من كل الأراضي اللبنانية التي دخلتها ويتولى الجيش اللبناني الانتشار إلى جانب قوات الطوارىء الدولية (اليونيفيل) في منطقة جنوب النهر، على أن يتم وقف كل الأعمال العدائية بين الجانبين وفقاً لقرار مجلس الأمن الدولي الرقم 1701 الصادر عام 2006. لم تلتزم “إسرائيل” بالمهلة المذكورة ومدّدتها من جانب واحد لمدة شهر ومن ثم لم تلتزم بالانسحاب الكامل وأبقت على قواتها في خمس تلال حاكمة ومناطق أخرى داخل الأراضي اللبنانية تضاف إلى شمال بلدة الغجر وتلال كفرشوبا ومزارع شبعا وسفوح جبل الشيخ الغربية من ناحية راشيا، كما لم تلتزم بوقف الأعمال العدائية بل واصلت شن غاراتها الجوية وقصفها البري على الأراضي اللبنانية ليس فقط في الجنوب بل أيضاً في البقاع والضاحية الجنوبية وأقصى شمال شرق لبنان (أكثر من ثلاثة آلاف خرق). وبحسب البيانات “الإسرائيلية”، قتل جيش الاحتلال أكثر من مئة و20 لبنانياً منذ وقف اطلاق النار قبل أكثر من 120 يوماً. علماً أن حزب الله التزم كلياً بالاتفاق وأبلغ الجيش اللبناني عن أماكن تواجد أسلحته ومستودعات ذخائره في منطقة جنوب الليطاني، ولكن رئيس لجنة المراقبة لوقف اطلاق النار الجنرال الأمريكي جاسبر جيفرز لم يسمح للجيش اللبناني الاحتفاظ بهذه الأسلحة والذخائر وأصر أن يتم تفجيرها في أماكن تواجدها وهذا ما حصل عملياً، في أكثر من 500 موقع أصبحوا بعهدة المؤسسة العسكرية اللبنانية في جنوب نهر الليطاني.

إقرأ على موقع 180  داعش يهدد "القاعدة" والرعاة الاقليميين لـ "الاخوان" .. ولكن!

أمام الواقع الراهن هناك من يعتبر أن لبنان دخل في العصر “الإسرائيلي” ولا مفر من الاستسلام للإملاءات “الإسرائيلية” والأمريكية على السلطة اللبنانية الوليدة حديثاً رئاسة جمهورية وحكومة جديدة. وهناك قوى سياسية وازنة في لبنان بدأت تروج لفكرة أن المقاومة في لبنان انتهت ولا بد من التطبيع مع “إسرائيل”، ولسخرية القدر فإن هذه القوى نفسها روّجت لهذا المنطق في العام 1982 وشاركت مع “الإسرائيلي” في ملاحقة المقاومين أو خطفهم حيث ما يزال المئات منهم مجهولي المصير حتى يومنا هذا.

انسحاب جيش التحرير الفلسطيني من بيروت 1982

وبطبيعة الحال لا تصح المقارنة بين الحربين “الإسرائيليتين”؛ ففي العام 1982 وصل الجيش “الإسرائيلي” إلى قلب العاصمة بيروت وجلس جنوده يحتسون القهوة في مقاهي شارع الحمرا، وأقامت جيوش ثلاث دول (أمريكا وفرنسا وإيطاليا) في حلف الناتو الحليف لـ”إسرائيل” في قواعد عسكرية في بيروت، ودخلت دورية “إسرائيلية” إلى مقر السفارة السوفياتية في منطقة كورنيش المزرعة في بيروت، أما الجانب المقاوم فقد اقتصر يومها على مجموعات صغيرة أبرزها الحزب الشيوعي اللبناني ومنظمة العمل الشيوعي والحزب السوري القومي الاجتماعي وحزب العمل الاشتراكي العربي والاتحاد الاشتراكي العربي (التنظيم الناصري) وبأسلحة فردية لم تتجاوز الرشاشات والقنابل والـ”آر بي جي”. يومها كان الإحباط سيد الموقف وأخذ الناس يرمون ما يملكون من أسلحة فردية في مستوعبات النفايات في شوارع بيروت خوفاً من اعتقالهم من قبل القوات “الإسرائيلية”.

في العام 2024، لم يتمكن الجيش “الإسرائيلي” خلال حرب الـ66 يوماً من تجاوز الثلاثة كيلومترات من الحدود اللبنانية بأقصى حدود الخرق البري، وذلك برغم شراسة المعركة التي امتدت على مدى شهرين ونيف. ولم ينزل الأمريكي على الأرض بل اكتفى بارسال جنراله جاسبر جيفرز وهو يعلم جيداً أنه لا يستطيع ارسال جيشه إلينا فهو صاحب تجربتين أليمتين في هذا المجال؛ الأولى، في العام 1958 حين تعرض جنوده لمواجهات مسلحة في منطقة الأوزاعي عندما جاءوا لنصرة الرئيس الراحل كميل شمعون (حلف بغداد). الثانية، في العام 1983 عندما فجر انتحاري نفسه في مقر قيادة المارينز على طريق مطار بيروت وقتل 246 جندياً أمريكياً. هذا من دون أن ننسى تجربة الجيش الفرنسي الذي خسر أكثر من ستين من جنوده بتفجير مقر المارينز التابع له في بيروت في العام 1983.

لم تكن المقاومة يومها قوية، بل كانت مجرد مجموعات مسلحة صغيرة بأسلحة خفيفة ومُزنرة بحصار “إسرائيلي” وأمريكي وفرنسي وإيطالي ناهيك بالدور الذي كان يلعبه الجيش اللبناني في عهد أمين الجميل.

اليوم، وبالرغم من الخسائر القاسية في الأرواح والعتاد والسلاح ومنظومة السيطرة والتحكم، فإن المقاومة ما تزال تحتفظ بجيش من المقاتلين يُقدّر بعشرات الآلاف، وتمتلك مخزوناً مُعيناً من السلاح والأهم من هذا وذاك تمتلك مخزوناً كبيراً من الدعم الشعبي الذي عبّر عنه تشييع الأمينين العامين للحزب السيدين حسن نصرالله وهاشم صفي الدين وأيضاً عودة الأهالي إلى قراهم في الجنوب برغم الدمار الهائل الذي حلّ بها.

ويُمكن القول إن الخسارة الاستراتيجية الكبرى للمقاومة اليوم تتمثل بخسارة سوريا وما كانت تمثله من شريان دعم حيوي طوال أكثر من أربعة عقود من الزمن. أيضاً كان هناك اتحاد سوفياتي (ومعه حلف وارسو) بقيادة يوري أندروبوف الذي دعم سوريا ووقف إلى جانب المقاومة في لبنان. أمام هذه الحجة بالامكان القول إن المقاومة في فلسطين (الضفة الغربية وقطاع غزة) محاصرة بالجيش الإسرائيلي من جميع الاتجاهات ولكنها خرقت هذا الحصار وتمكنت من التسلح والتدريب وأثبتت بالممارسة النظرية القائلة إنه عندما تتوفر إرادة المقاومة لا بد من ابتداع طريقة أو وسيلة ما لتنفيذ هذه الإرادة.

نعم في العام 1982 كانت هناك “جبهة الصمود والتصدي” (النظامان العراقي والليبي إلى جانب النظام السوري)، وكانت هناك ثورة الإمام الخميني التي ترجمت موقفها الفلسطيني بارسال قوة من الحرس الثوري أسّست حزب الله ومقاومته التي عبّرت عن نفسها بتفجير مقر الحاكم العسكري “الإسرائيلي” في صور بواسطة الاستشهادي أحمد قصير في تشرين الثاني/نوفمبر 1982.

اليوم لا توجد سوريا 1982 ولا جبهة للصمود والتصدي ولا اتحاد سوفياتي ولا حلف وارسو. وصحيح أن إيران محاصرة لكنها وبرغم ذلك لم توقف دعمها لحزب الله حتى يومنا هذا، مع العلم أن الأمريكيين و”الإسرائيليين” يحاولون حتى قطع “الأوكسيجين” المالي عن حزب الله لمنعه من إعادة انتاج قوة ردعية كفيلة بحماية لبنان وتوفير الدعم لجمهوره حتى ينهض بالمناطق التي تعرضت للتدمير خلال الحرب الأخيرة.

عودٌ على بدء. ميزة المقاومة في لبنان أن بنيانها وبرغم ما أصابه من ضرر إلا أنه ما زال متماسكاً وقويا.. والآتي من الأيام سيظهر صحة هذا الاستنتاج من عدمه.. وهذه نقطة قوة مختلفة عن الواقع الداخلي في العام 1982، عندما أصاب الانهيار كل الواقع الوطني اللبناني والفلسطيني، وهو المسار الذي أخذ لبنان إلى اتفاق 17 أيار/مايو 1983 وأخذ منظمة التحرير إلى اتفاق أوسلو 1993.

في الخلاصة، ما تحتاجه المقاومة اليوم هو استكمال مراجعة تجربتها ولا سيما الثغرات والأخطاء التي شابت المواجهة الأخيرة، بكل نقاط ضعفها وقوتها وبكل دروسها الصعبة والمؤلمة، كما أنها تحتاج إلى الوقت لأجل مراكمة عناصر قوة تتيح لها ولجمهورها النهوض مجدداً.

معظم تجارب الشعوب تشي بحقيقة واحدة: ليل الاحتلال حتماً لن يكون طويلاً.

Print Friendly, PDF & Email
سلطان سليمان

صحافي لبناني؛ كان يُوقّع مقالاته باسم "ماهر أبي نادر" لضرورات عمله

Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  "إسرائيل" تُروّض "حماس".. طمعاً بهدنة مديدة!