عام على “لحظة كابول”.. العالم لم يعد كما كان 

مضى عام على الإنسحاب العسكري الأميركي الفوضوي من أفغانستان، وعلى العودة الثانية لحركة "طالبان" إلى السلطة، فكيف ساهم الحدث الأفغاني في صياغة التوازنات الدولية والإقليمية؟ وهل أفغانستان التي كانت منطلقاً لهجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001، لم تعد تشكل خطراً على الأمن القومي الأميركي وهل قطعت الحركة الأفغانية المتشددة التي تسعى إلى إعتراف العالم بنظامها، علاقاتها مع التنظيمات الجهادية فعلاً؟ 

كثيرون شبّهوا لحظة صعود قائد الفرقة الأميركية الـ82 المحمولة جواً الميجور جنرال كريستوفر ت. دوناهو  في 30 آب/اغسطس 2021 إلى طائرة النقل العسكرية “سي- 17” في مطار كابول، بتلك اللحظة التي غادر فيها قائد الفوج الأربعين في الجيش السوفياتي الجنرال بوريس غروموف افغانستان عبر “جسر الصداقة” بين أفغانستان وجمهورية أوزبكستان السوفياتية السابقة في 15 شباط/فبراير 1989.

وعلى رغم أن الرئيس الأميركي جو بايدن لم يكن هو من وقّع على إتفاق الإنسحاب وإنما سلفه الجمهوري دونالد ترامب، فإن الإنتقادات إنهالت على الرئيس الديموقراطي، بسبب الفوضى التي شابت عملية الإنسحاب والسرعة التي إنهارت فيها حكومة أشرف غاني المدعومة من الغرب على مدى عشرين عاماً، والسرعة التي تمكنت فيها “طالبان” من بسط سيطرتها على عواصم الولايات وعلى كابول في غضون عشرة أيام فقط، الأمر الذي أصاب الأميركيين بالذهول والصدمة، كيف تمكنت حركة لا يتجاوز عديد مقاتليها الـ 40 ألفاً من المجهزين بأسلحة خفيفة ومتوسطة، من إلحاق هزيمة مذلة وبسرعة غير متصورة، بجيش نظامي تعداده 350 ألفاً وتم تجهيزه بأسلحة أميركية حديثة بعشرات مليارات الدولارات.

والأكثر إذلالاً أن مقاتلي “طالبان” وقفوا من على شرفات المباني الحكومية وداخل السيارات العسكرية الأميركية التي تركها وراءهم الفارون من جنود الجيش الأفغاني، وهم يراقبون الإنسحاب الأميركي، وكيف تعلق مواطنون أفغان كانوا يتعاونون مع القوات الأميركية في العشرين عاماً الماضية بإطارات طائرات النقل الأميركية وهي تُجلي على عجل عشرات الآلاف من “المتعاونين” الافغان.. وإذا بـ”لحظة سايغون” عام 1975 تتجسد مجدداً في مطار كابول.

يدرك الأميركيون أن “طالبان” تخدعهم، لكن ترامب ومن بعده بايدن، يريدون التمسك بأي تعهد مهما كان واهياً من الحركة، كي يغطوا إنسحابهم من المستنقع الأفغاني. ولا يهم في أي إتجاه تذهب أفغانستان، بعد أن تنسحب منها أميركا وتلقي بعبئها على القوى الإقليمية الأخرى، وفي مقدمها روسيا والصين

هوت شعبية بايدن بعد الإنسحاب الأميركي الكارثي من أفغانستان، لكنه أصرّ على مقولة إنهاء “الحروب التي لا تنتهي”، وأن الحرب في أفغانستان لا يمكن الإنتصار فيها حتى ولو بقيت أميركا هناك أشهراً أو أعواماً إضافية. لكن كثيراً من الأميركيين والأوروبيين، كانوا يتساءلون ألم يكن ممكناً تفادي الإنسحاب بهذه الطريقة المذلة. وأبدى القادة الأوروبيون إستياءهم علناً، وأخذوا على بايدن عدم التشاور معهم في قرار الإنسحاب، وكانت تلك مناسبة كي يكرر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشارة الألمانية عامذاك أنغيلا ميركل، الدعوة إلى بناء قوة دفاع أوروبية مستقلة عن حلف شمال الأطلسي، ليتجلى الإنقسام عبر الأطلسي بأوضح صوره، بعد الخذلان في أفغانستان.

“طالبان” لا تتغير  

ربما كان الرهان الأميركي على أن “طالبان” ستلتزم ما تعهدت به في إتفاق الدوحة الموقع بين واشنطن والحركة في شباط/فبراير 2020. هناك إلتزمت “طالبان” بالمشاركة في الحكم مع حكومة أشرف غاني، وعدم الإستئثار بالحكم، وبأن الحركة تغيّرت عما كانت عليه في تسعينيات القرن الماضي، وبأنها قطعت علاقاتها مع التنظيمات الجهادية.

في واقع الأمر، يدرك المسؤولون الأميركيون أن “طالبان” تخدعهم، لكن ترامب ومن بعده بايدن، يريدون التمسك بأي تعهد مهما كان واهياً من الحركة، كي يغطوا إنسحابهم من المستنقع الأفغاني. ولا يهم في أي إتجاه تذهب أفغانستان، بعد أن تنسحب منها أميركا وتلقي بعبئها على القوى الإقليمية الأخرى، وفي مقدمها روسيا والصين.

خرجت أميركا وهي تمسك برافعة الأموال الأفغانية المحتجزة في المصارف الأميركية، كي تضغط بها على “طالبان” لتعديل سلوكها. لكن هذا لم يحدث حتى الآن، فلا قامت حكومة جامعة في أفغانستان، ولا ملف حقوق النساء وُضع على السكة الصحيحة، لا سيما بعد العودة إلى تطبيق قواعد صارمة في شأن التعليم والعمل، بينما النظام الجديد عاجز عن دفع رواتب الموظفين، وأعداد العاطلين عن العمل في إزدياد والجيل الشاب إما ينحو إلى التطرف أو يفتش عن وسيلة للفرار من بلاد غير صالحة للعيش.

وفي ظل هذه الأوضاع المزرية إقتصادياً وإجتماعياً ومعيشيا، تكتشف وكالة الإستخبارات الأميركية “سي آي إي” أن زعيم تنظيم “القاعدة” أيمن الظواهري يعيش في شقة بحي راقٍ بكابول غير بعيد عن منزل وزير الداخلية في حكومة “طالبان” سراج الدين حقاني، أحد أكثر القادة المتشددين في الحركة، فعمدت إلى تصفيته بواسطة صاروخ أطلقته طائرة أميركية مسيّرة في الأول من آب/أغسطس الجاري.

هذه الواقعة جعلت الولايات المتحدة تسارع إلى إتهام “طالبان” بانتهاك إتفاق الدوحة من خلال توفيرها ملاذاً آمناً للظواهري في كابول. ولا بد أن واشنطن ليست بعيدة عن تقرير أصدره مجلس الأمن أخيراً ويتهم “طالبان” بتوفير ملاذات آمنة للكثير من التنظيمات الجهادية وبينها “القاعدة”، بينما ينشط تنظيم “داعش – ولاية خراسان” في ولاية نانغارهار وفي أنحاء مختلفة من شمال أفغانستان، فضلاً عن خلايا جهادية تابعة لـ”الحركة الإسلامية في أوزبكستان” و”حركة تحريك – طالبان” الباكستانية و”عسكر طيبة” و”جيش محمد” و”الحزب الإسلامي التركستاني”، ناهيك عن “شبكة حقاني” العالمية التي تسيطر الآن على القرار داخل “طالبان” نفسها.

إقرأ على موقع 180  "فورين أفيرز": غزة تلغي الإنقسامات المذهبية.. وتحاصر الغرب

ويقول استاذ دراسات الأمن القومي في كلية الحرب الأميركية بكارليسلي جون مايسون في مقال بمجلة “ذا ناشيونال إنترست” الأميركية، إن مقاتلي “القاعدة” يتدربون الآن في المعسكرات السابقة للجيش الأميركي في أفغانستان. هل يقود ذلك إلى إمكان تعرض الولايات المتحدة لهجمات على غرار 11 ايلول/سبتمبر 2001؟ أم أن السؤال ليس هل بل متى؟ هكذا يتساءل كاتب المقال.

الإندفاعة الأميركية في مواجهة روسيا والصين، غايتها إثبات أن أميركا التي خرجت مهزومة من أفغانستان، ليست الإتحاد السوفياتي الذي قادته الهزيمة في أفغانستان إلى التفكك والإنحلال، وأن الولايات المتحدة، بذاتها وبحلفائها، لا تزال أقوى قوة إقتصادية وعسكرية في العالم وأنها ستضمن بقاء القرن الـ21 قرناً أميركياً بعد أن تنتهي من معركة تحجيم روسيا والصين

أوكرانيا تُشجع بوتين!

مع الإنسحاب الأميركي، أرسى الحدث الأفغاني توازنات دولية جديدة شجّعت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على التقدم خطوة أخرى لزعزعة نظام القطب الواحد الأميركي المهيمن فعلياً على العالم منذ لحظة مغادرة الجنرال السوفياتي بوريس غروموف لأفغانستان عام 1989.. فكانت الحرب الروسية ـ الأوكرانية في 24 شباط/فبراير الماضي. بيد أن الولايات المتحدة سعت إلى نفض الغبار عن الصورة التي سادت عنها بعد الإنسحاب من أفغانستان، فإندفعت بكل قواها لمساعدة أوكرانيا عسكرياً وإقتصادياً لخوض حرب إستنزاف ضد روسيا، وأعادت إحياء حلف شمال الأطلسي وعززت “الوحدة” عبر ضفتي الأطلسي، كما لم تكن في يوم من الأيام.

يحاول جو بايدن في الميدان الأوكراني أن يزيل تلك الصورة التي إنطبعت في اذهان العالم عن أميركا الضعيفة بعد إنسحابها المُذل من أفغانستان. ويظهر ذلك من خلال دعم غير مسبوق، عسكرياً وإقتصادياً، لأوكرانيا بما يُمكنها من هزيمة روسيا وتالياً الحفاظ على هيمنة الآحادية الأميركية على التوازنات العالمية. ويجد ذلك تجلياته في تحدي الصين أيضاً في مضيق تايوان، وإظهار التصميم على قدرة أميركا على خوض حربين على جبهتين، في آن واحد، دفاعاً عن النظام العالمي الآحادي القطب، الذي أعلنه الرئيس الأميركي الراحل جورج بوش الأب عقب حرب الخليج الثانية عام 1991.

هذه الإندفاعة الأميركية في مواجهة روسيا والصين، غايتها إثبات أن أميركا التي خرجت مهزومة من أفغانستان، ليست الإتحاد السوفياتي الذي قادته الهزيمة في أفغانستان إلى التفكك والإنحلال، وأن الولايات المتحدة، بذاتها وبحلفائها، لا تزال أقوى قوة إقتصادية وعسكرية في العالم وأنها ستضمن بقاء القرن الحادي والعشرين قرناً أميركياً بعد أن تنتهي من معركة تحجيم روسيا والصين، وهذا دليل آخر على أن الولايات المتحدة لا تزال تعاني من أعراض أفغانستان، وأن العالم بعد “لحظة كابول” غيره قبلها.

Print Friendly, PDF & Email
سميح صعب

كاتب وصحافي، لبنان

Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  من بيروت إلى بغداد.. دروس ما بعد "الزلزال"