الترسيم ما له.. ولا عليه

لأن إتفاق ترسيم الحدود البحرية غير مسبوق في تاريخ الصراع على الجبهة اللبنانية ـ الإسرائيلية، فإنه سيخضع لقراءات لبنانية متعددة، لذا، لا بأس من إستعادة كرونولوجية لمسار الملف منذ عقدين من الزمن وصولاً إلى يومنا هذا، مع قراءة سريعة لمضمون الإتفاق.

في العام 2002، تعاقدت الحكومة اللبنانية مع شركة “سبكتروم” الانكليزية التي قامت باجراء مسح ثنائي الأبعاد غطى كامل الساحل اللبناني.

في العامين 2006 – 2007، تواصلت أعمال البحث الجيولوجي عن النفط، حيث أجرت شركة P.G.S مسوحات ثلاثية الأبعاد احدها ضمن المياه اللبنانية وآخر ضمن المياه اللبنانية – القبرصية وبيّنت وجود كميات تجارية من النفط.

في 17 كانون الثاني/يناير 2007، تم توقيع اتفاق ثنائي بين لبنان وقبرص لتحديد المنطقة الاقتصادية الخالصة للبلدين. وقد نص الاتفاق في مادته الأولى على أنّه “يتمّ تحديد المنطقة الاقتصادية الخالصة بين الطرفين بالاستناد إلى خط المنتصف الذي تكون كل نقطة على طول امتداده متساوية الأبعاد من أقرب نقطة على خطوط الأساس لكلا الطرفين” كما هو معرّف ومحدّد وفق النقاط المحددة من النقطة (1) جنوباً (حدود لبنان وفلسطين) إلى النقطة (6) شمالاً (حدود لبنان مع سوريا). وقد إستندت الإتفاقية في تحديد النقاط إلى رأي الجهات المختصة في قيادة الجيش اللبناني، وتضمنت الاتفاقية بنداً ينص على أن أي ترسيم يجريه طرف من الطرفين (أي لبنان وقبرص) يجب أن يسبقه تشاور مع الطرف الآخر.

وقد وقع الإتفاقية وزير الأشغال حينذاك محمد الصفدي (حكومة الرئيس فؤاد السنيورة التي كان قسم كبير من القوى السياسية يُشكّك بشرعيتها وأسماها فريق 8 آذار وقتذاك بالحكومة البتراء).

استفادت اسرائيل من هذه الإتفاقية لتعلن في 12 تموز/ يوليو 2011 أن النقطة (1) أي الحدود اللبنانية الجنوبية الغربية مع قبرص هي حدودها الشمالية مع لبنان.

في التاسع عشر من تشرين الأول/أكتوبر 2010، أودع لبنان الأمم المتحدة الاحداثيات الجغرافية للجزء الجنوبي لمنطقته الاقتصادية الخالصة التي تمتدّ من النقطة (B1 ) وموقعها رأس الناقورة إلى النقطة 23.

في عهد الرئيس ميشال سليمان عام 2012، جرت إعادة النظر بالترسيم مع قبرص وبناء لرأي الجهات المختصة في الجيش اللبناني مرة اخرى، تقرر نقل نقطة الحدود الجنوبية مع قبرص إلى النقطة 23 جنوباً ليضاف بذلك مسطح مائي مساحته نحو 860 كلم2. وافقت الحكومة اللبنانية على الترسيم الجديد وصدر المرسوم 6433 الذي يلحظ الحدود الجديدة وتمت إحالته إلى الأمانة العامة للأمم المتحدة.

على اثر وجود نقطتين 1 و23 كعلامة حدود بحرية، برز النزاع المائي بين لبنان والعدو الاسرائيلي.

تحركت الولايات المتحدة لتسوية هذا النزاع، فعيّنت السفير السابق فريدريك هوف مبعوثاً إلى لبنان وإسرائيل لتسوية النزاع (هوف لديه خبرة في النزاعات الحدودية وكان يرافق السناتور جورج ميتشل في جولاته في الشرق الأوسط كمستشار للحدود بين الدول).

توصل هوف الى قسمة الخلاف بين لبنان وإسرائيل، فأعطى لبنان حوالي 500 كلم2 واسرائيل حوالي 360 كلم2 ورسم خطاً سمي بـ”خط هوف”.

في تلك الأثناء، وبناء لتفاهم مع رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة تقرر أن يتولى رئيس مجلس النواب نبيه بري المفاوضات مع الموفد الأميركي وبالطبع بالتنسيق مع حزب الله.. أبلغ بري هوف عام 2012 رفض لبنان لخطه وان الموقف اللبناني هو التمسك بالنقطة ٢٣. فعلياً، عاد هوف إلى بلاده خالي الوفاض.

عام 2015، أوفدت الإدارة الأميركية أموس هوكشتاين واجتمع بالرئيس بري. اقترح هوكشتاين الاتفاق على تكليف شركة عالمية بالتنقيب عن النفط والغاز واستخراجها وبيعها وتقسيم الأرباح بين لبنان وإسرائيل. رفض بري الإقتراح وإعتبره تطبيعاً مع العدو الإسرائيلي.

في العامين 2018 و2019 جال مبعوث جديد هو السفير ديفيد ساترفيلد على لبنان وإسرائيل وأعاد طلب إعتماد “خط هوف”. قابله الرئيس بري بالرفض القاطع والإصرار على كامل حقوق لبنان. اقترح ساترفيلد إجراء مفاوضات مباشرة لكن بري أصر على مفاوضات غير مباشرة وبرعاية دولية في الناقورة. طلب ساترفيلد أن تحدد مهلة المفاوضات بستة أشهر لكن بري رفض واقترح أن تكون مفتوحة إلى حين التوصل إلى إتفاق.

بعد تعيينه سفيراً في تركيا، سلّم ساترفيلد مهمة الوساطة الى ديفيد شينكر معاون وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط. في تشرين الأول/أكتوبر 2020، توصل بري وشينكر الى “إتفاق اطار” بين لبنان والولايات المتحدة واسرائيل والامم المتحدة. الاتفاق ينص على مفاوضات غير مباشرة برعاية الامم المتحدة وفي مقرها في الناقورة وبحضور الوسيط الاميركي. لم يحدد “اتفاق الاطار” النقطة 23 ولا غيرها واستبعد اي بحث بترتيبات امنية. كما نص ان تجري المباحثات وفق صيغة تفاهم نيسان/أبريل 1996 (في الشكل وطريقة الجلوس والتخاطب وحق لبنان في التصدي لأي عدوان إسرائيلي).

أثناء تشكيل الوفد حصل خلاف بين رئيس الجمهورية العماد عون من جهة وحركة أمل وحزب الله من جهة أخرى حول طبيعة الوفد الذي اصر حزب الله وامل على أن يكون عسكرياً فيما طلب عون ان يتضمن مسؤولين سياسيين. عيّن عون الوفد المفاوض برئاسة ضابط في الجيش وضم الى الوفد خبيراً جيولوجياً وعضواً في هيئة ادارة قطاع البترول. أصدرت حركة أمل وحزب الله بياناً مشتركاً تحفظتا فيه على تعيين موظفين وخبراء مدنيين في الوفد لكنهما قررا المضي بالتعاون مع الوفد.

عقدت الجلسات في الناقورة وكانت منضبطة جداً تجاه اي مظهر تطبيعي أو صورة مشتركة او لقاءات خاصة أو جانبية. اقترح الوفد اللبناني نقطة جديدة هي النقطة (29) استناداً الى دراسة صادرة عن المكتب الهيدروغرافي البريطاني وتأثير صخرة تخيليت (صخرة تقع على مسافة ألف متر جنوب رأس الناقورة و800 متر عن الشاطئ وتغمرها المياه في أحيان كثيرة وهي غير مأهولة ولا يوجد عليها زرع أو أعشاب).

تركز الخلاف حول النقطة (29) وتحولت الى مادة خلافية ولاقت تاييداً من اوساط لبنانية عديدة. تبنت وزارة الدفاع اللبنانية النقطة وأعدّت مشروع مرسوم لتعديل المرسوم رقم 6433 واعتماد النقطة (29) بدلاً من النقطة (23). لكن رئيس الجمهورية لم يوقع هذا المشروع وبقي موقف لبنان الرسمي المعتمد في الأمم المتحدة هو النقطة (23).

إقرأ على موقع 180  مشعل في لبنان.. تدعيم اللجوء الفلسطيني

اثر بداية حرب روسيا وأوكرانيا برزت حرب الطاقة كجبهة أساسية واحتل الغاز الطبيعي الحيز الأكبر في هذه الحرب. وبدأت أزمة الطاقة تظهر في أوروبا جراء قطع الامدادات الروسية وإلزام روسيا المشترين بالدفع بالروبل.

توجهت الأنظار إلى شرق المتوسط وبسرعة تدخلت الولايات المتحدة وتحركت الوساطة وتكثفت المباحثات الجدية لترسيم الحدود وتقاسم مكامن الغاز. وفي خطوة لها دلالة حضرت مندوبة من الإتحاد الأوروبي وعقدت اتفاقاً مع مصر وإسرائيل لنقل الغاز المستخرج حاليا من أعماق المنطقة الإقتصادية الإسرائيلية إلى عسقلان ثم إلى العريش في مصر وتسييله وشحنه إلى أوروبا.

بدأت المفاوضات باقتراحات اميركية مجحفة بحق لبنان وبصيغة الإملاءات من قبل الوسيط آموس هوكشتاين واستمر التعنت الأميركي الإسرائيلي واستقدمت منصة عائمة (إنرجيان باور) لاستخراج الغاز من حقل كاريش من دون الاتفاق مع لبنان وأعلنت وزيرة الطاقة الإسرائيلية أنه سيبدأ مطلع أيلول/سبتمبر استخراج الغاز من حقل كاريش.

في أول تدخل مباشر أطلق حزب الله ثلاث مسيرات بلغت سماء حقل كاريش وتصدت لها صواريخ “باراك” من على متن بوارج إسرائيلية (صواريخ هندية إسرائيلية) فاسقطت اثنتين منها وعجزت عن إسقاط الثالثة إلى أن تم استقدام الطيران الحربي لاسقاطها. هذا الاشتباك العسكري اثبت لجميع الأطراف أن حزب الله قادر على تعطيل استخراج النفط وزاد الطين بلة كلام السيد نصرالله عن تعطيل الانتاج ما بعد كاريش وما بعد بعد كاريش ويقصد بذلك المنصات العاملة حالياً.

ازاء تحرك المُسيّرات ارجأت إسرائيل موعد بدء العمل في كاريش ودخلت المفاوضات في مرحلة الاستجابة لطلبات وشروط لبنان التي تتلخص بالتمسك بالنقطة (23) وبحق لبنان في استخراج الغاز من حقل محتمل في البلوك رقم 9 تمتد مكامنه في الاعماق جنوب الخط الذي يصل بالنقطة (23). كما طرحت اسرائيل التمسك بما اسمته “خط الطفافات” وهو على مسافة 5 كيلومترات من الشاطئ انشاته اسرائيل بعد انسحابها عام 2000. رفض لبنان الاعتراف بالخط وحيث انه لا يقع في منطقة الحفر تقرر ابقاؤه نقطة نزاع اسوة بنقاط خلاف على طول الحدود البرية ما زال لبنان يقر انها لبنانية ومن حقه.

اما موضوع الغاز المستخرج من الاعماق جنوب الخط (23)، فقد تم الاتفاق على ان تتولى الشركات المستخرجة اجراء تسويات مالية من أرباحها من دون أي إتصال لبناني مباشر أو غير مباشر في العملية الادارية.

حول مضمون الاتفاق:

– يلحظ الاتفاق دوراً للوسيط الاميركي في “داتا” المعلومات في الحقول المتداخلة حيث يتلقاها من الجانبين اللبناني والاسرائيلي من دون اتصال تطبيعي بينهما. ويستبعد الاتفاق الشركات التي تخضع لعقوبات دولية (ليس اميركية).

– لا يتضمن الاتفاق أي ترتيبات أو تدابير أمنية من قبل الطرفين.

– تعول اسرائيل على المناخ الامني الذي سيسود عندما يستخرج لبنان وإسرائيل الغاز من حقول متجاورة الأمر الذي يدفع لتفادي المواجهات البحرية فتبقى الأوضاع على الحدود اللبنانية السورية على وضعها الراهن.

– لم يتم المساس بالحدود البرية وتحديدا النقطة B1 التي اعتمدت في اتفاقية بوليه نيوكومب عام 1923 وتكرست في اتفاقية الهدنة عام 1949 واحداثياتها محددة من قبل الامم المتحدة. كما ان منطقة “خط الطفافات” في البحر بقيت منطقة نزاع ولم يتنازل لبنان عن شبر ارض او كوب ماء.. ومازال يحتفظ بحقه في تحرير المناطق المتحفظ عليها في البر والبحر.

– لا مجال للمقارنة مع اتفاق 17 ايار/مايو 1983 ويكفي ان نعلم ان هذا الاخير بالاضافة الى شروط قاسية اخرى، يشترط تدابير امنية وسياسية في محافظتي الجنوب والنبطية منها انشاء لواء اقليمي في الجيش يحافظ على الامن بالتنسيق مع اسرائيل ومنع النشاطات السياسية والاعلامية المعادية لاسرائيل في المحافظتين. هذا الاتفاق كان سيضرب صميم لبنان والقضية الفلسطينية.

– يختلف هذا الاتفاق عن تفاهم نيسان 1996 الذي جرى اثر اعتداءات اسرائيل ورد المقاومة وهول مجزرة قانا. تشكلت بموجبه لجنة من الولايات المتحدة وفرنسا وسوريا واسرائيل والامم المتحدة ولبنان للاشراف على تنفيذه.. في الشكل، تفاهم نيسان لا يتضمن وثيقة موقعة كما هو الحال في هذا الاتفاق الفريد والذي يمكن اعتبار اقرب تسمية له “هدنة بحرية”. تجدر الاشارة الى ان تفاهم نيسان واتفاق الترسيم انجازان واضحان للدولة والمقاومة.

– يبقى ان هناك من يشكك بالتزام اسرائيل بالاتفاق ومماطلتها الاجرائية في تمكين الشركات من الحفر وربما مماحكات ومماطلات اخرى يُعهد بعدها الى الولايات المتحدة لتسويتها. في حال حصول ذلك فانه يقع على السلطة اللبنانية التنبه والتحرك لوقف المماطلات الاسرائيلية من دون ان نغفل انه في حال تجاوزت اسرائيل ومنعت بطرق ملتوية الشركات من التنقيب فان المقاومة جاهزة وقادرة على ارسال مسيرات فوق كاريش وايضا فوق تمار ولفيتان وغيرها. تدرك اسرائيل والولايات المتحدة ذلك تماماً وتفهمان تداعياته.

– في رسالته امس (الخميس) الى اللبنانيين اكد الرئيس ميشال عون ان التضامن الوطني والموقف اللبناني الموحد كان عنصرا اساسيا في التوصل الى هذه النتيجة الايجابية. وبهذا الانجاز حصل لبنان على (fair deal) في ظروف اقتصادية صعبة وسياسية مهتزة.

Print Friendly, PDF & Email
إلياس فرحات

عميد ركن متقاعد

Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  فرنسا والجزائر: تقرير ستورا يُشعل صراع الذاكرة الأليمة