في رأي الغرب، الذي يريد للجميع أن يرى من خلال عيونه فقط، “الأويغور” هم ضحايا إرهاب الدولة الصينية، يتعرضون لتعديات، ويُحتجزون في معسكرات إصلاح وعمالة إجبارية من قبل الدولة… حقوق الإنسان الأويغوري البريء مهدورة، وهو الذي لم يأته الباطل من بين يديه ولا من فكره.
هذه الصورة المسطحة، هي ببساطة تجهيل ساذج ومُتعمد، لا ينجرف وراءه إلَّا من لم يُغمس عقله في تفاصيل القضية، ومن لا يريد أن يعرف الواقع في صورته الحقيقية، بل في صورته الغربية ـ الأميركية.
يُمكنك أن تُطلق على الدولة الرسمية الصينية ما شئت من أوصاف: “هان”، شيوعية، لا دينية، تسلطية، غير ديموقراطية وغيرها من هذه الأوصاف الهادفة للتعمية وليس لكشف الخبايا. حقيقة الأمر، أن هذه الدولة الصينية وأجهزتها الأمنية المحلية تواجه تطرفاً فكرياً دينياً في مقاطعة شينغيانغ، التي يعني اسمها حرفياً “التخوم” أو “الحدود الجديدة”. بيد أن المغزى الحقيقي من هذه التسمية يُقصد به صينياً، إعادة الأرض إلى البلاد ثانية. ويُطلق عليها سكانها “تركستان الشرقية”، وهي تسمية يحبها مفكرو الغرب. قليلون من يطلقون عليها اسمها العربي وهو “سنجان”. إنس كل ذلك، فاسم شينغيانغ التاريخي هو “شي يو”، أو المغرب بالماندرين، بمعنى المنطقة الغربية من الصين.
حصلت شينغيانغ على استقلال لم يدم أكثر من خمس سنوات عن الصين الكبرى (من 1944 إلى 1949)، فقد جرى ضمها ثانية إلى “جمهورية الصين الشعبية”، بعدما تغلب الشيوعيون على القوميين. وفيما تولى الشيوعيون الحكم سارع القوميون للنزوح نحو جزيرة تايوان.
منطقة تشابكات
تاريخ المنطقة يطول تفصيله، لكن باختصار يمكن القول إنها منطقة غنية بالموارد (بترول، غاز طبيعي، يورانيوم). ولطالما برزت أهميتها كواحدة من المحطات الهامة على طريق الحرير الشمالي. وقد مثلت بالنسبة لسُلالة “هان” الصينية، الغرب الذي يُراد استكشافه، أي في قصة تُماثل؛ ولا تتطابق؛ مع قصة إكتشاف الأوروبيين للعالم الجديد، والقارتين الأميركيتين، والتمدد السكاني، ورحلات استكشاف الأراضي الغربية لسكان أميركا الشمالية بعد الاستقرار بها.
كذلك فعلت أيضاً العديد من السُلالات التي جاءت بعد “الـهان”، وصولاً إلى مغول جنكيز خان، الذي قاد حملات غزو ظلت تتقدم نحو الغرب من أرض منغوليا، حتى انتهى الأمر بتدمير مركز حكم من قطنوا أرض شينغيانغ في عام 1218.
لكن سكان هذه المنطقة، المنتمين إثنياً إلى العرق التركي Turkic race، كانوا قد اعتنقوا الإسلام قبل ذلك بما يُقارب الأربعة قرون، على أيدي من حكموهم من “القراخانات”، وهي سُلالة تركمانية من عرق “الويغور” ذي المنشأ المنغولي.
كانت التركيبة السكانية ذات الأغلبية المسلمة التي قطنت هذه المنطقة، سبباً في صراعات عانت منها المنطقة بأطوارها المختلفة، نتيجة تعرضها لغزوات روسية (من الغرب)، وهجمات صينية (من الشرق)، إلى أن استقر بها المآل داخل حدود جمهورية الصين الشعبية، بعد أن خمدت نيران الحرب الأهلية الصينية في 1950 (انتهت دون توقيع أي معاهدات سلام بين أطرافها).
شينغيانغ منطقة غنية بالموارد وواحدة من المحطات الهامة على طريق الحرير الشمالي. سكانها ينتمون إثنياً إلى العرق التركي، اعتنقوا الإسلام قبل أربعة قرون
إن منطقة شينغيانغ مقاطعة صينية، وتتمتع بحكم ذاتي، وهي خاضعة لسلطة الدولة المركزية الصينية بالطبع. ويبدو أن الفكر الانفصالي لم يفارقها إلى يومنا هذا. وتركيزنا هنا، بعد هذه المقدمة التاريخية المختصرة والضرورية، على هذه العقدة، التي تتشابك فيها، الإنفصالية التركستانية الشرقية، مع السلفية الجهادية، والحركة الطورانية والبروباغاندا الأميركية.
لنجرب وضع أقدامنا في حذاء الدولة الصينية، وهو أمر ليس باليسير. ستجد أنها ستكون ضيقة في غالب الأمر. لكن الأهم، هو أن الأويغور مسلمون، كديانة كاتب هذه السطور. لكن دعونا نطرح المعضلة بتشابكاتها في قصة متسارعة الوتيرة على أي حال.
مقاطعة تم ضمها إلى حضن الدولة. نشأت وترعرعت بها نزعات انفصالية. يؤججها ويساندها العم سام بطبيعة الحال، ليقض مضجع الصين. جرت عمليات تسليف وتأصيل متطرف Radicalization، لبعض سكانها المسلمين، برعاية وتمويل دول لا نحتاج عبقرية لمعرفة أسمائها. هذه العناصر تنتمي عرقياً إلى إثنية يوغورية تركية من العرقيات المتحدثة باللغة “الچغتائية”، ما يعني وقوعها في دائرة اهتمام أصحاب الفكر الطوراني، الذي يهدف أخيراً إلى توحيد جميع الشعوب المنتمية للعرق التركي تحت راية دولة واحدة، لا حاجة لذكر إسمها، فقد تم ذكره بالفعل.
مظالم الأويغور
كل ذلك، وما سبقه من أحداث، قاد إلى قيام عناصر من هذه العرقية المسلمة، بتظاهرات احتجاجية متعددة، برزت أخبارها على السطح – في حدود ما يعني السطح في الصين- عندما جرت مواجهات بين عمال التراحيل الأويغور من ناحية، وآخرين من عرق “الهان” الصيني. حدث ذلك في تموز/يوليو 2009، في مصنع لألعاب الأطفال في مقاطعة قوانغدونغ (جنوب شرق الصين)، أدت إلى وفاة شخصين من الأويغور.
اندلعت بعدها تظاهرات أويغورية داخل مقاطعة شينغيانغ (شمال غرب الصين)، اعتراضاً على طريقة تعامل الحكومة المركزية مع الحدث. فتزايدت وتيرة المواجهات، إلى أن بلغ الأمر حد وفاة 192 شخصاً وإصابة آلاف آخرين، ثلثهم من الأويغور والبقية من “الهان”. وهنا التفتت أنظار العالم نحو ما لا يمكن تجاهله، أو ربما يحسن استغلاله!
عمَّق هذا الحدث من مظاهر الشعور بالاضطهاد لدى الأويغور. فهذه الأقلية لطالما شكت بأن الحكومة الصينية تمارس ضدها حملات قمع ممنهجة، وتسعى لمحو الهوية الأويغورية، خاصة في إشارتهم إلى “تدمير” الحكومة الصينية لمدينتهم التاريخية “كاشجر” Kashgar، وتشييد أبنية حديثة مكانها بدَّلت كل معالم المدينة القديمة التي كانت تمثل علامات بارزة في طريق الحرير القديم وجزء من هوية الإقليم.
.. وقلق الدولة
من ناحيتها، تسمع الدولة الصينية، هذه الأصوات الأويغورية، خاصة حينما تسمي المنطقة “تركستان” أو “أويغورستان” بدلاً من شينغيانغ، كصوت نشاز يزعج استقرارها ويهدد وحدة أراضيها. وتتهم الدولة الأويغور بأن لديهم ارتباطات مع تنظيم “القاعدة” وحركة طالبان. تريث قبل أن تعده كلاماً رسمياً أجوف، فقد سارع تنظيم “القاعدة” بإعلان تأييده للأويغور، بعد أحداث تموز/يوليو 2009. فلا عجب إذن في قلق الدولة الصينية من نوايا المشهد الإسلامي الأصولي في وسط وجنوب آسيا نحوها.
يتزايد النشاز في أذني الصين، عند بروز أصوات منظمات دولية، أبرزها الصوت الآتي من ناحية العاصمة الألمانية ميونيخ، وتحديداً من WUC “المؤتمر الأويغوري العالمي“، بقيادة مؤسسته ربيعة قُدير.
التركيبة السكانية ذات الأغلبية المسلمة التي قطنت شينغيانغ كانت سبباً في صراعات عانت منها المنطقة نتيجة تعرضها لغزوات روسية وصينية
كانت السلطات الصينية قد سحبت جواز سفر قُدير منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي، نتيجة مطالبتها بوقف مظالم الأقلية الأويغورية. وكان يصاحبها في احتجاجاتها؛ من بعيد؛ زوجها الذي كان يعيش بالولايات المتحدة.
صوت ربيعة قُدير، بدأ في إزعاج الحكومة الصينية، بعد ثورة “غولغا”، التي اندلعت في عام 1997 في شينغيانغ، عبر الأويغور من خلالها عن احتجاجهم لما يتعرضون له من قمع وتضييق. الحكومة الصينية قتلت في أحداث هذه الثورة أكثر من 400 أويغوري، ونفذت حملة اعتقالات ضد مئات آخرين.
“محاربة الإرهاب والتطرف”
هل بدأت تشعر بضيق مقاس الحذاء الصيني الرسمي الآن؟ لاريب في ذلك. لكني أعدك عزيزي القاريء إنك ستشعر بذات الضيق عندما تلبس الحذاء الأويغوري أيضاً، بالرغم من كل ما تدعيه دراسات وأوراق الغرب، بأن ليس لدى الأويغور النية أو الإمكانية لزعزعة استقرار الدولة الصينية، أو التسبب بأي تهديد حقيقي للبلاد، وأن الدولة الرسمية جردتهم من كل إمكانياتهم وقوتهم، وسيطرت عليهم بأيديPAP، أي”الشرطة الشعبية المسلحة”.
ستشعر بهذا الضيق، حينما تقرأ بضعة سطور من الرد الرسمي الذي قدمته الجمهورية الصينية للأمم المتحدة في آب/أغسطس 2022، ردأً على تقرير المنظمة الدولية المعنون “تقييم حالة حقوق الإنسان في شينغيانغ”.
في تقريرها للمنظمة، والذي حمل عنوان: “الحرب ضد الإرهاب والتطرف في شينغيانغ: الحقيقة والوقائع”، تعبر فيه بكين عن اعتراضها عمَّا ورد في تقييم الأمم المتحدة، دافعة بأن ما تقوم به من إجراءات أمنية ضد الإرهاب، هو “ضروري وعادل”.
لقد وثَّقت بكين في هذا التقرير تفاصيل وصور تكشف أعمال الأويغور الإرهابية في الداخل الصيني: مثل حادثة “أورومتشي”، التي نفذها عنصران من الأيغور كانا مسلحين بالسكاكين، وقتلوا شخصين وأصابوا 79 آخرين. تلا ذلك تفجير مفرقعات داخل محطة رئيسية للقطارات في المدينة، بعد وقت قصير جداً من مغادرة الرئيس شي جين بينغ للمقاطعة في نيسان/إبريل 2014.
سبق حادثة “أورومتشي” اعتداء آخر وقع في شهر شباط/فبراير 2014، عندما فجر ثلاثة اشخاص من الأيغور أنفسهم لحظة مرورهم بنقطة تفتيش قرب حديقة عامة في إقليم “ووشي”. بدورها، قتلت الشرطة الصينية ثمانية أشخاص آخرين عند محاولتهم الهجوم على قوات أمن.
حادث آخر شمله التقرير الصيني، هو مقتل مدير مدرسة في إقليم “شول” على أيدي جماعة تنتمي للأويغور، بسبب تدريس الطلبة بهذه المدرسة “نظرية التطور”. فهو فكر إلحادي في نظر الأصوليين كما هو معروف. بالإضافة إلى أفكار أخرى ينشرونها عن “الحرب المقدسة” وضرورة “تضحية الإنسان بنفسه في سبيل الدين”، وأصوليات أخرى فصلها التقرير.
حادث آخر، وقع في كانون الأول/ديسمبر 2016، حينما اقتحم أربعة أشخاص من الأويغور، مبنى حكومي في إقليم “مويو”، وفجروا مفرقعات يدوية الصنع، بالإضافة إلى حملة طعن عشوائية بالسكاكين طالت موظفين حكوميين كانوا متواجدين في المبنى، توفي منهم إثنان واصيب ثلاثة آخرون.
أميركا تستغل التفاصيل الدقيقة، إلى حد أنها تمنع استيراد منتجات صينية، بحجة أن منشأها في مصانع أو معسكرات عمالة إجبارية للأويغور
حوادث أكثر عدّدها التقرير المقدم من الصين للأمم المتحدة، ذاكراً في السياق رسائل عديدة أرسلها المئات من سكان شينغيانغ غير المتطرفين، يشكون فيها للأمم المتحدة ذاتها، ما يقاسونه من ويلات داخل أقاليمهم في المقاطعة على أيدي الأويغور المتطرفين. وتؤكد الصين على تضافر وتأييد أغلبية مواطنيها في شينجيانغ لحملتها الرسمية لـ”محاربة الإرهاب والتطرف” في المقاطعة.
“شيطنة الصين”
ما لم يذكره التقرير، وهو جدير بالذكر. مثل جهود الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، في إبراز أزمة الأويغور على الساحة الدولية منذ العام 2009، لأسباب طورانية و”تجارية” مفهومة. ما هو ليس ببعيد عن ذات الإطار، اشتراك عناصر من الأويغور في الصراع المسلح ضد نظام بشار الأسد في سوريا. ترى كيف انتقلوا إلى سوريا، وعبر أية حدود؟ ومن أين حصلوا على التمويل والتسليح والتدريب؟
وما تم ذكره ليس إلا القليل. ولا يُغني عما لم يُذكر. بل يدعو للمزيد من الاستغراق فيما يتخطى حالة الأويغور إلى أحداث عدة جرت على أرض الصين، بتخطيط خارجي، ثم سيطرة غربية على توصيف الحدث بشكل يُراد منه “شيطنة الصين”. حتى التظاهرات التي خرجت في ميدان “تيان آن مين” الشهيرة عام ١٩٨٩، تشير دلائل كثيرة حديثة على أن القصة التي أخبرنا الغرب عنها بعيدة عن الحقيقة!
تنشغل الولايات المتحدة بالتفاصيل الدقيقة، إلى حد أنها تمنع استيراد منتجات صينية، بحجة أن منشأها في مصانع أو معسكرات عمالة إجبارية للأويغور في شينغيانغ، كما يدعي الأميركيون. وبالطبع، واشنطن – كعادتها- يجب أن تُقحم روسيا في كل شي. فقد منعت دخول منتج صلصة روسي إلى الأراضي الأميركية، بحجة أنه مصنوع من طماطم مستوردة من معسكرات عمالة إجبارية للأويغور!
لذا، أظن أنه جدير بكل متابع للأمر، أن يكون على ذات القدر من الاستغراق في تفاصيل قضية الأويغور، قبل أن يستجيب لحملات إعلامية دولية غربية، أو إسلامية، أو طورانية بصبغة عثمانية بالية، تدفعه لاستخدام “هاشتاغ” أو تأييد ما لا يدرك مداه، ولا يعرف دواخله، ولا كيف تستغل عواطفه، خاصة المرتبطة بالدين منها.
القضية ليست مواجهة بين ملائكة وشياطين. أو بين مؤمنين وكفار. الأمر أعمق بكثير مما يظهر على السطح. فما بالك بالسطح الصيني الذي يجري تعتيمه أصلاً؟
قضية محيرة لخصها عنوان مقال – بغض النظر عن محتواه- صدر عن “المعهد الأسترالي للشؤون الدولية”، في كانون الأول/ديسمبر 2019، يحمل سؤالاً باللغة الإنكليزية المبسطة، هو:
?Chinese Uyghurs: International Terrorists or a Terrorised Minority
نصيحتي قبل الإجابة على مثل هكذا تساؤل هي:
لنفكر ونبحث، أفضل من أن نتحمس و تـ..”هاشتاغ”!
تحياتي.