ألمانيا.. وعودة “العدو التاريخي”!

مياه كثيرة تدفقت تحت الجسور في الأيام الأخيرة. تدفقت بسرعة وبتدافع غير عادي مخلفة مشهداً غير مألوف. لست متأكداً على كل حال إن كان الجديد في المشهد ثابت الأركان وأن المياه لن تعود إلى مجاريها. لست متأكداً ولا أحد أقنعني بأن ما تغير باقٍ معنا وأن الأمل عاد كبيراً في نهاية قريبة لفوضى كادت تدمّر كل ما هو قائم.

سمعت من ألمانيا أن حواراً يجري هناك على مستويات مختلفة. الحوار جاد ككل حوارات ألمانيا التي جرت في أوقات وحالات تغيير المصير. ليس جديداً أن نسمع أحكاماً حازمة في سياسات وعلاقات مع دول أخرى، ولكن الجديد في الحالة الراهنة أن تتعلق هذه الأحكام بأسس النظام السياسي الألماني التي وضعت وكان الظن أنها رسخت. اليوم في ألمانيا هناك من يُردّد علناً بأن الألمان تنازلوا عن بعض مصالح بلادهم القومية مقابل الاحتماء بالمظلة الدفاعية الأمريكية. في رأي هؤلاء أن هذا الاحتماء صار باهظ التكلفة.

قليلون هم الذين ينكرون حقيقة أثبتتها تجارب أوروبا الموحدة على امتداد سنوات عهد منطقة اليورو، حقيقة أن اليورو ما هو إلا مارك ألماني معدل وباسم مختلف، وأنه بدون ألمانيا ما وصل الاتحاد الأوروبي إلى ما وصل إليه حتى صاروا يقارنون نفوذه بنفوذ واتساع الإمبراطورية الرومانية المقدسة. الفضل كله يعود لألمانيا باستثناء دور المظلة الدفاعية الأمريكية التي تعهدت حماية هذا المشروع ضد طموحات روسيا وأطماعها في أوروبا.

وليس غائباً عن العقل السياسي الألماني أن السياسات الأنجلو أمريكية قامت على أساس مبدأ الفصل بين ألمانيا وروسيا ومنع قيام أي نوع من الشراكة القوية بينهما. وليس غائباً عن هذا العقل تفاصيل ما تسببت فيه حرب روسيا في أوكرانيا، وهي الحرب التي يرتبط بنشوبها شكوك، أكثرها يتهم الولايات المتحدة بالمسئولية عنها ولا يمكن أن تكون السياسة الألمانية بعيدة جداً عن العلم بما كان يُدبّر لروسيا في قيادة حلف الناتو في بروكسيل.

تسببت حرب أوكرانيا في الكثير، وبعضه ما يزال غير قابل للتصديق وبعضه غير قابل للقبول أو الاستسلام له. أعادت الحرب إلى الأذهان الألمانية فكرة العدو التاريخي الرابض عبر الحدود وأقصد العملاق الروسي، القطب الثاني في النظام العالمي الجاهز للرحيل، أو الراحل فعلياً. كان يمكن أن تؤدي هذه الحرب إلى توسيع رقعة نفوذ الحلف الغربي وتعميق دور ألمانيا فيه، وهو ما حدث بالفعل في بداية الحرب ولكن في مرحلة أخرى من الحرب تغيرت بعض ردود الفعل. رأينا قطاعات هامة من شعوب وسط أوروبا وفي فرنسا وإيطاليا تعترض على الاستمرار في تقديم الدعم المادي والحربي لحكومة أوكرانيا ليس تعاطفاً مع موسكو بقدر ما هو رد فعل للأزمات الاقتصادية المتتالية والمعقدة.

***

ظهر واضحاً التناقض داخل قيادات الطبقة الحاكمة في ألمانيا، إن صح التعبير. ففي ألمانيا كما نعلم وتأكدنا خلال الأسابيع الأخيرة تتولي المسئولية في قطاع السياسة الخارجية وزيرة من حزب الخضر تؤيد حكومة أوكرانيا والسلوك الأمريكي ضد روسيا إلى حدود قصوى. من ألمانيا نفسها سمعنا أن أحد كبار القادة العسكريين يخرج عن المألوف ويبدى رأيه الهام في العلاقة مع روسيا. نُقِل عن الأدميرال كاي أشيم شونباخ قوله إن روسيا قوة يجب الاعتراف بها وأن الاستيلاء على القرم واقع ثابت. هوجم الأدميرال بشدة فلجأ إلى الاستقالة أو أجبر عليها. لم يحسم الأمر في ألمانيا بل ظل مفتوحا تغذيه تطورات شتى، منها على سبيل المثال الحملة الناشبة ضد الولايات المتحدة التي فرضت على ألمانيا ودول أخرى في أوروبا دفع قيمة للغاز المستورد من أمريكا أعلى سبعة أضعاف من القيمة التي كانت تدفعها للغاز الروسي الذي حرمتها من الحصول عليه الولايات المتحدة.

حتى إنجلترا التي تجسد الخلفية لهذا المشهد الأوروبي كما جسدت من قبل  الخلفية لكل مشاهد التاريخ السياسي الأوروبي بدت خلال الشهور الأخيرة في أسوأ صورها. رأينا الفوضى الاقتصادية وعدم الاستقرار السياسي ضمن ظواهر انحدار لا تبشر بأي خير ممكن لمستقبل إنجلترا أو مستقبل أوروبا

أتصور أن العقل السياسي الألماني المدرب على الانضباط والاستقرار يرفض أن يرى أوروبا تنزلق بسرعات مطردة نحو هاوية الفوضى دون أن يخرج من قمقم وتقاليد الحلف الأطلسي ويحاول وقف هذا التدهور. في الوقت نفسه أتوقع أن تقابل أي محاولة من هذا القبيل مقاومة شديدة من جانب المثاليين والرجعيين والمتزمتين أيديولوجياً. أمامنا اليمين المتطرف الإيطالي يصل إلى الحكم في روما مدعوماً بقوى فساد هائلة يمثلها سيلفيو برلسكوني وحزب الرابطة وقوى الحزب الفاشي. جورجيا ميلوني بصفتها رئيس الحكومة ترفع شعارات الحلف الأطلسي ضد روسيا وبرلسكوني يصر على مساندته المعنوية لموسكو، وبالتدريج ينطلق هذا الشرخ في الحكومة إلى الرأي العام وأجهزة الإعلام. من ناحية أخرى، اتسع خرق النزاع بين إيطاليا وفرنسا بعد أن جدّدته أزمة المهاجرين الأفارقة. أما فرنسا العمود الثاني في الخيمة السياسية التي تُظلّل الاتحاد الأوروبي، فقد فاجأت العالم وأوروبا بوجه خاص وألمانيا تحديداً باستراتيجية أمنية جديدة أطلقها الرئيس إيمانويل ماكرون بنفسه أمام حشد من كبار القادة العسكريين. فوجئ الجميع في فرنسا وأوروبا وفي العالم باستراتيجية فرنسية تركز على أفريقيا والجنوب متجاهلة بعض الشيء أوروبا التي تئن تحت ضغط العجز الأوروبي عن وضع استراتيجية دفاعية لأوروبا. هناك في مكان آخر من القارة شرعت أمريكا وعززت بديلا مخيفاً ألا وهو تشجيع الدول الصغيرة في شمال أوروبا على التصدي للخطر الروسي باستراتيجية دفاعية أطلسية المظهر والجوهر على حساب استراتيجية أوروبية طال انتظارها. لا أتوقع دعماً قريباً من الواقعيين في منظومة الدفاع الألمانية لهذا التوجه بين دول أوروبا الصغيرة المطلة على البلطيق ومعها بولندا، إحدى النجوم الصاعدة من جديد والمحملة بتاريخ لن يبرر أو يتحمس لمواقف أمنية من جانب أي من ألمانيا وروسيا تجاه قضايا القارة.

إقرأ على موقع 180  عَمَّا فَعَلَ الحَجَر

حتى إنجلترا التي تجسد الخلفية لهذا المشهد الأوروبي كما جسدت من قبل  الخلفية لكل مشاهد التاريخ السياسي الأوروبي، فقد بدت خلال الشهور الأخيرة في أسوأ صورها. رأينا الفوضى الاقتصادية وعدم الاستقرار السياسي ضمن ظواهر انحدار لا تبشر بأي خير ممكن لمستقبل إنجلترا أو مستقبل أوروبا. أضاف لقلق الساسة في ألمانيا وخارجها حقيقة أنه يقوم على قيادة الحزبين الرئيسين في إنجلترا قادة غير مؤهلين سياسياً وبخاصة في الشئون الأوروبية. صار الألمان يلاحظون في الوقت نفسه أن الدولة العميقة في إنجلترا عادت تقتحم أوجه من النشاط السياسي لم تتعود على الاقتراب منه إلا نادراً. نسمع بين الفينة والأخرى توجيهات سياسية وعسكرية تصدر من أجهزة أمنية سرية متوجهة إلى مسئولين وجهات اختصاص في مختلف دول الحلف الأطلسي. لا شك أن تصرفات من هذا النوع تثير قلق السياسيين في ألمانيا كما في فرنسا وغيرها.

جديد أيضاً، وإن كان غير مؤكد تماماً، التغير في لهجة الدبلوماسية الأمريكية فى كواليس مؤتمري المناخ المنعقد في منتجع شرم الشيخ في مصر وقمة العشرين المنعقدة في منتجع بالي في إندونيسيا. انتبه الأمريكيون فيما يبدو إلى أنهم أخطأوا دبلوماسياً حين صنفوا دول العالم ضمن صنفين متناقضين ومتواجهين بالعنف أحياناً وبالعداء دائماً، صنفان لا ثالث لهما هما الديموقراطية والأوتوقراطية، أي الدكتاتورية. اكتشفت واشنطن أن الصين وروسيا استفادتا من هذا التصنيف منذ اعتبرت معظم دول العالم النامي  نفسها بهذا التصنيف وقد صارت بالضرورة حليفة لمعسكر تقوده روسيا والصين وخصماً مرفوضاً من دول المعسكر الغربي.

***

دول أوروبا مهددة بشتاء غير عادي وتدهور في الأمن والاقتصاد ما لم يسرع أصحاب القلوب الدافئة في روسيا وأوكرانيا وأمريكا ودول بعينها في الحلف الأطلسي بوقف معدلات الانحدار المتسارع في أنماط سلوكها نحو أنماط خصام وعداء.

Print Friendly, PDF & Email
جميل مطر

كاتب ومفكر مصري مهتم بقضايا الإصلاح والتحول الديمقراطي

Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  إسمي رائدة علي طه.. أُحبُ التين وفلسطين