حروب أميركا المستقبلية.. لها مُسيّراتها البحرية!

قبل 22 عاماً، وفي ميناء عدن، قاد انتحاريان من تنظيم "القاعدة" زورقاً مطاطياً محملاً بأكثر من 200 كلغ من المتفجرات القوية وصدما به المدمرة الأميركية (يو إس إس كول)، وبعد مرور 17 عاماً على تلك الحادثة كان العالم على موعد مع حادثة مماثلة غرب ميناء الحديدة اليمني، حيث تعرّضت فرقاطة سعودية لهجوم من ثلاثة زوارق انتحارية لكنها غير مأهولة.

هذان التطوران فرضا نفسيهما على أنماط الحروب المستقبلية، حيث نعيش منذ بداية العقد الحالي ذروة استخدام الصنف الطائر منها (الطائرات المُسيرة). فماذا عن تلك القطع البحرية المُسيرة؟ وما هي دلالاتها في الآتي من حروب؟

تنقسم المركبات البحرية المُسيرة إلى صنفين من حيث التشغيل: إما أن تكون ذاتية التوجيه أو موجهة. بمعنى أدق، إما أن تعمل من تلقاء نفسها وتختار الأهداف دون حاجة للمشغل، وإما يعمل على توجيهها طاقم بحري عن بعد. والأهمية بطبيعة الحال تكمن في الصنف الأول الذي يتمتع بتقنيات فائقة ومتطورة جداً.

وتنقسم هذه المركبات إلى نوعين أيضاً من حيث مجال عملها (فوق المياه أو تحتها)، منها ما يطفو على وجه الماء ومنها على شكل غواصة صغيرة، والتي تعرف بالمركبات الانزلاقية الغاطسة. وقد أعلنت الصين عام 2014 عن صناعتها لهذا النوع من المركبات، ويبلغ طول هذه المركبة ما يقارب المترين، وزنتها 70 كيلوغراماً. وتعمل بشكل متواصل لمدة 30 يوماً، على أعماق تصل إلى 1500 متر تحت سطح الماء، ولمدى يصل إلى 1000 كيلومتر، وقد اجتازت الاختبار بنجاح في بحر الصين الجنوبي قبل الإعلان عنها.

والجدير ذكره أن المُسيّرات البحرية لها مواصفات مهمة تتيح لمشغلها دمجها مع المُسيّرات الجوية، ويمكن أن تعمل معها في المعارك بشكل مشترك، أو أن تعمل بشكل مستقل، وبالتالي تؤدي إلى فلسفة حرب جديدة، وتكتيك واستراتيجية جديدين. أو بالأحرى، سوف تؤدي إلى نشوء عقيدة حربية جديدة مُستقبلاً.

وتعمل هذه المُسيّرات، كنظيرتها الجوية، للتعويض عن العنصر البشري والتقليل منه ومن خسائره، ذلك أن الثورة التكنولوجية تُعزّز منطق الرأي العام الرافض للأكلاف البشرية في الحروب لا سيما على أرض الآخرين، كما كان الحال في حربي أفغانستان والعراق مطلع القرن الحالي.

وبالتالي، وجدت الدول التي تسعى إلى فرض نفوذها هنا وهناك، ضالتها بالتقنيات والمعدات العسكرية غير المأهولة، فعلاوة عن توفير الخسائر البشرية، فإن كلفتها المالية زهيدة، وهي مفيدة في استخدامات كثيرة ومتعددة في الوقت ذاته، منها في مجال الرصد والاستطلاع وجمع المعلومات والحماية من القرصنة، وصولاً إلى إمكانية أن تصبح سلاحاً فعّالاً في الحروب المستقبلية. إضافة إلى شمولها مروحة واسعة من الأنشطة المدنية، بدءاً من مراقبة المناخ، إلى المسح العام في مياه يصعب الولوج إليها، أو تتضمن مساحات مائية واسعة.

وتتميز الغواصات المُسيّرة بقدرتها على كشف الألغام البحرية، ويتم ذلك على الشكل الآتي: تباشر المهمة غواصتان غير مأهولتين، تقوم الأولى بالبحث عن الأجسام المُحتَمل أن تُشكّل خطورة على القطع البحرية، مثل الألغام والعوائق، ثم تقوم بتحديد ماهيّتها وتصنيفها، ومن ثم إرسال المعلومات الوافية حولها إلى سفينة القيادة على السطح، عبر الاتصال بالغواصة الثانية في هذه المنظومة التي تُرسِل بدورها البيانات إلى سفينة القيادة لاسلكياً.

وقطعت الولايات المتحدة شوطاً مهماً في مجال صناعة هذه المُسيّرات، ما دفع الدول الكبرى، كروسيا والصين، إلى تطوير صناعتها، بالإضافة إلى دول أخرى مثل تركيا وإيران اللتين أبرعتا في المُسيّرات الجوية، حيث تمكنت طائرة “بيرقدار” التركية من حسم الحرب الأخيرة لمصلحة أذربيجان ضد أرمينيا، و”شاهد 136″ الإيرانية التي مكّنت الروس من إلحاق خسائر جمّة بالقوات الأوكرانية.

وترى أميركا أن هذا السلاح سيُمكّن قواتها البحرية من مراقبة وحماية الملاحة في مياه الخليج والبحرَين الأحمر والعربي ومضيق باب المندب والعديد من الممرات والمضائق البحرية من دون الحاجة إلى معدّات متقدمة كبيرة، فالطرادات أو الغواصات الكبيرة مثلاً لا تتصف بفاعلية كبيرة في هذه المياه، ما يدفع إلى التوجه نحو المعدات الأكثر فاعلية في هذه المناطق المائية الحسّاسة. وفي الوقت عينه، تنسجم هذه القطع البحرية غير المأهولة مع الخطط الأميركية المستحدثة، التي ما هي إلا استمرارية لاستراتيجية واشنطن الكبرى القاضية بعدم التدخل العسكري المباشر وعدم تكبد خسائر بشرية.

وأجرت البحرية الأمريكية تدريبات مشتركة مع القوات البريطانية في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، في الخليج، وتم خلالها اختبار نفس سفن المراقبة غير المأهولة التي استولت عليها إيران مرتين في الأشهر الأخيرة وأعادتها عارية من أجهزة المراقبة. وشملت المناورات سفينتين حربيتين أميركيتين وسفينتين حربيتين بريطانيتين إلى جانب ثلاث سفن من طراز (Saildrone Explorer) غير المأهولة، والتي ركزت عليها المناورة بشكل أساسي لتحليل إمكاناتها الواسعة والكثيرة.

مع العلم أن أكثر من مسؤول عسكري أميركي صرّح أن قوّة مخصّصة للأنظمة غير المأهولة في الخليج، والتي عرفت بـ”القوة 59″ ستَنشر أكثر من 100 سفينة مُسيّرة في مياه المنطقة الاستراتيجية بحلول العام المقبل.

بدورها، قررت إيران عدم البقاء مكتوفة الأيدي، لا سيما في مياه الخليج التي شكلت في السنوات الأخيرة مسرحاً بارزاً لـ”حرب الظلال” بينها وبين وإسرائيل، بعد أن أصبح أمن مياه الخليج منذ العام 2008 بعهدة الحرس الثوري الذي عكف في السنوات الأخيرة على تطوير ترسانته البحرية. ولا شك أنه سيستفيد من تقنيات المعدّات التي صادرها من السفينتين الأميركيتين اللتين إحتجزهما لبعض الوقت. وثمة إصرار إيراني على عدم تمكين الولايات المتحدة من تنفيذ مخططها لناحية نشر تلك القطع البحرية، على اعتبار أنها تشكل خطراً على الملاحة البحرية وناقلات النفط الإيرانية غير الملتزمة بقانون العقوبات الأميركي. هذا عدا عن قدرتها على إجراء مسح ومراقبة لكل النشاط الإيراني في مياه الخليج.

إقرأ على موقع 180  الخليج يعود إلى سوريا، هل هجوم أرامكو مقصود؟ 

وحسب الرؤية الأميركية، لا يتوقف نشاط المركبات المائية غير المأهولة على منطقة الشرق الأوسط، بل يمتد إلى كل بحار العالم، لا سيما القريبة من الصين وروسيا التي بدورها صنّعت الغواصة المسيرة “كلافشين – تو بي”، والتي يبلغ طولها 7 أمتار، ووزنها الصافي نحو 4 أطنان، وتستطيع العمل على أعماق تتراوح بين 2 و6 كيلومتر، وهي مزودة بمجموعة من المستشعرات، بما في ذلك سونار للمسح الجانبي، ما يمكنها من رسم خرائط دقيقة لقاع البحر والمساعدة في عمليات البحث والإنقاذ خلال المعارك.

باختصار، يبدو أن الولايات المتحدة عادت إلى نظرية ضابطها البحري الشهير، المؤرخ الأميرال ألفريد ماهان، الذي أرسى مفهوماً جديداً للقوى البحرية في التاريخ، وهو أن قوى البحر تتفوق دائماً على قوى البر. إنطلاقاً من أن قوى البحر أكثر حصانة لإحاطة المياه بها من كل جانب، وهي التي تتحكم في حركة التجارة البحرية أثناء السلم والحرب. وكان قد تبنّى هذه النظرية قبلاً الرئيس فرانكلين روزفلت (1933-1945)، حيث “أن 90% من حركة التجارة العالمية تجرى عبر البحار، ومن يسيطر على البحار يسيطر على العالم”.

Print Friendly, PDF & Email
مهدي عقيل

أستاذ جامعي، كاتب لبناني

Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  فن الريادة والجرأة.. وإستثمار التحولات