نشأ هاين غويمانس في أمستردام في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، وكان محاطاً بقصص وذكريات الحرب العالمية الثانية. كان والده يهودياً وكان مختبئاً “تحت الألواح الأرضية”، على حد تعبيره، أثناء الاحتلال النازي. عندما جاء غويمانس إلى الولايات المتحدة لدراسة العلاقات الدولية، تذكر أنه سُئل في فصل دراسي عن تجربته الشخصية الأكثر تكويناً في العلاقات الدولية. قال إنها الحرب العالمية الثانية. اعترض الطلاب الآخرون على أن هذا لم يكن شخصياً بدرجة كافية. لكنها كانت شخصية جداً بالنسبة إلى غويمانس وأشار إلى حضوره إحياء الذكرى الأربعين لتحرير أمستردام من قبل القوات الكندية، في أيار/مايو عام 1985. وكان العديد من الجنود الكنديين الذين شاركوا في التحرير لا يزالون على قيد الحياة، وأعادوا تكوين وصول القوات الكندية لتحرير أمستردام المدينة (…).
كتب غويمانس، الذي يُدَرّس الآن العلوم السياسية في جامعة روتشستر، أطروحته حول نظرية إنهاء الحرب – أي دراسة كيفية انتهاء الحروب. وتوصل إلى أن كثيرين درسوا ونظّروا في موضوع كيف ولماذا تبدأ الحروب، ولكن قليلين جداً من بحثوا في كيفية انهاء الحروب. ربما كانت هناك أسباب تاريخية لهذا السهو: التسلح النووي للولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي كان يعني أن الحرب بينهما يمكن أن تُنهي الحضارة الإنسانية بعد موت كل شيء. وهكذا أدَّت دراسة الحرب خلال الحرب الباردة إلى ظهور مفردات مثل: الردع المباشر، الردع الموسَّع، الردع بالعقاب، الردع بالإنكار. لكن الحرب الباردة انتهت، واستمرت الحروب.
غويمانس: إنها حرب أوروبية كبيرة، شيء اعتقدنا أننا لن نراه.. وتداعياتها ستشكل بقية القرن الحادي والعشرين. إذا خسرت روسيا، فستكون دولة مختلفة بعد ذلك. وإذا فازت، فستكون أوروبا مختلفة
من هو الأقوى؟
في أطروحته، ولاحقاً في كتابه “الحرب والعقاب“، وضع غويمانس نظرية حول كيف ولماذا انتهت بعض الحروب بسرعة بينما استمرت حروب أخرى لمدة طويلة وبوحشية. الحرب التي يعنيها غويمانس في كتابه هي الحرب العالمية الأولى. وفي تلك الحرب كان القادة الألمان على وجه الخصوص يخشون “العقاب” إذا أعادوا للوطن أي شيء أقل من انتصار. عندما صدر كتاب غويمانس، في عام 2000، كان بمثابة أول دراسة حديثة مكرسة بالكامل لمشكلة إنهاء الحرب.
من جملة ما كتبه غويمانس، يتطلب بدء أي حرب طرفين، وكذلك إنهاء الحرب. والإعتقاد السائد هو أن الحروب تنتهي عندما يستسلم أحد الأطراف. لكن سجل التجارب أظهر أن هذا سردٌ غير مكتمل، لأن لا شيء يمنع الفائز من اختراع شروط جديدة غير تلك التي وافق عليها المهزوم ليستسلم.
في مختلف الأحوال، الطريقة الأفضل لمعرفة من هو الأقوى هي أن يبدأ القتال بالفعل. فالعديد من الحروب انتهت بعد أن أعادت الأطراف المتقاتلة تقييم قوتها النسبية واختارت عقد صفقة.
لكن كانت هناك أيضاً أنواعٌ أخرى من الحروب تسببت بها عوامل أخرى إلى جانب عدم التماثل المعلوماتي. أحد هذه العوامل أن العقود في النظام الدولي (مثل صفقات السلام في الحرب) لديها آلية إنفاذ قليلة، وأحياناً معدومة. فإذا ما أراد بلدٌ ما كسر صفقة ما، فلا توجد محكمة تحكيم يمكن للطرف الآخر الإستئناف أمامها نظرياً. بالعادة يجب أن تكون الأمم المتحدة هي هذه المحكمة، لكن عملياً هي ليست كذلك. وهذا ما سبب إشكالية “الإلتزام الموثوق به”. فمن الأسباب الشائعة التي قد تجعل الحروب تطول أن أحد الطرفين، أو كلاهما، لا يستطيع الوثوق بالآخر في احترام أي اتفاق سلام يتوصلا إليه.
في كتابه “كيف تنتهي الحروب؟”، استخدم دان رايتر (زميل غويمانس) مثال بريطانيا العُظمى في أواخر ربيع عام 1940 وتحديداً بعد سقوط فرنسا. كانت بريطانيا تخسر الحرب ولم يكن لديها يقين من أن الولايات المتحدة ستتدخل في الوقت المناسب لإنقاذها. ومع ذلك واصل البريطانيون القتال، لأنهم كانوا يعلمون أنه لا يمكن الوثوق بأي صفقة مع ألمانيا النازية. وهو ما عبَّر عنه ونستون تشرشل بطريقته الفريدة، عندما قال أمام مجلس وزرائه: “إذا كانت قصة جزيرتنا الطويلة هذه ستنتهي أخيراً، دعها تنتهي فقط عندما يرقد كل واحد منا مختنقاً بدمه على الأرض”.
كيف يتعامل الديموقراطي والدكتاتوري؟
بحسب غويمانس، يميل الديموقراطيون إلى الرد على المعلومات التي تقدمها مجريات الحرب والتصرف وفقاً لذلك. في أسوأ الأحوال، إذا خسروا الحرب وبقي بلدهم موجوداً، يتركون مناصبهم ليبدأوا جولة جديدة. أما الديكتاتوريون، ولأن لديهم سيطرة كاملة على جمهورهم المحلي، فيمكنهم إنهاء الحرب عندما يريدون ذلك. الرئيس العراقي السابق صدام حسين مثال عن هذا القائد. فبعد أن خسر حرب الخليج الأولى كان ببساطة يقتل كل شخص يتجرأ على انتقاده.
وجد غويمانس أن المشكلة تكمن في القادة الذين لم يكونوا ديموقراطيين ولا ديكتاتوريين. هؤلاء القادة سوف يميلون إلى “المقامرة” من أجل مواصلة الحرب وبقوة أكبر، لأن أي شيء أقل من النصر قد يعني نفيهم أو موتهم.
ويذكر غويمانس كيف أنه في 17 تشرين الثاني/نوفمبر 1914 (أربعة أشهر من بدء الحرب العالمية الأولى) إلتقى القيصر فيلهلم الثاني في حكومة الحرب، وأخبره أن “الإنتصار غير ممكن”. ويضيف: “ومع ذلك، فقد قاتلوا لمدة أربع سنوات أخرى. والسبب هو أنهم عرفوا أنهم إذا خسروا فستتم الإطاحة بهم، وستحدثُ ثورة. وكانوا على حق. مثل هؤلاء القادة كانوا في غاية الخطورة. كانوا السبب في أن الحرب العالمية الأولى، وحروب أخرى، استمرت لفترة أطول بكثير مما كان ينبغي”.
كيف يمكن أن تنتهي الحرب في أوكرانيا؟
دان رايتر نفسه (مؤلف كتاب “كيف تنتهي الحروب”) كان مفتوناً بحقيقة أن الصراع في أوكرانيا يدور على الطراز القديم “هناك القليل من الحرب السيبرانية. الروس لم يستخدموا سوى عدد قليل من الصواريخ العابرة للصوت، ويتكلون على المدفعية، والدروع، والمُشاة… وعلى الجانب الأوكراني كان الأمر هو نفسه: لديهم أسلحة متطورة بشكل معقول، إلى جانب التدريب الكافي والكثير من الشجاعة. لم تتغير الأمور بقدر ما كنَّا نظن”.
من ناحية أخرى، تُعبّر تانيشا فازال (باحثة في جامعة مينيسوتا، وتُعد كتاباً عن الطب في ساحة المعركة) عن صدمتها من ارتفاع نسبة القتلى في صفوف القوات الروسية: 4 إلى واحد (في حرب أفغانستان كانت نسبة الجرحى في صفوف القوات الأميركية عشرة إلى واحد). والسبب، بحسب فازال، هو أن الروس لم يتمكنوا من تحقيق تفوق جوي “لا يمكنهم إخراج جنودهم الجرحى بالسرعة الكافية، وبالتالي يموت الكثير منهم” (…).
الحرب تُوَلّدُ أسبابها
لقد انجذبت جهات خارجية عديدة إلى الصراع: ثلاثون دولة من “الناتو” إلى جانب أوكرانيا. ونطاق الحرب وتعقيداتها يحولان دون التوصل إلى حل سريع، وفق غويمانس: “إنها حرب أوروبية كبيرة، شيء اعتقدنا أننا لن نراه. إنها حرب القرن، مثل الحرب العالمية الأولى، وتداعياتها ستكون هائلة وستشكل بقية القرن الحادي والعشرين. إذا خسرت روسيا، فستكون دولة مختلفة بعد ذلك. وإذا فازت، فستكون أوروبا مختلفة.
في أوائل أيلول/سبتمبر الماضي، توقع غويمانس صراعاً طويل الأمد في أوكرانيا. لم يتم حل أي من المتغيرات الثلاثة الرئيسية لنظرية إنهاء الحرب- المعلومات والإلتزام الموثوق والسياسة الداخلية. كان كلا الجانبين لا يزالان يعتقدان أنهما قادران على الفوز، وتزداد عدم ثقتهما تجاه بعضهما البعض يوماً بعد يوم. بالنسبة للسياسة الداخلية، كان بوتين هو بالضبط نوع الزعيم الذي حذَّر منه غويمانس. فعلى الرغم من أجهزته القمعية الكبيرة، لم يكن لديه سيطرة كاملة على بلاده. وظلَّ يطلق على الحرب “عملية عسكرية خاصة” ويؤخر التعبئة الجماهيرية، حتى لا يواجه الاضطرابات الداخلية. “إذا بدأ في الخسارة، فسوف يُصَعّد القتال ببساطة”، كما يتوقع غويمانس.
في الأسابيع التي تلت حديثي الأول مع غويمانس، تسارعت الأحداث: القوات الأوكرانية استعادت مساحات شاسعة في منطقة خاركيف وواصلت تقدمها في شرق البلاد. إعلان تعبئة جزئية للقوات الروسية وإجراء “استفتاءات” بشأن الانضمام إلى الاتحاد الروسي (…). كما أن الجبهة الروسية في دونباس مُهددة بانهيار وشيك. وإذا حدث ذلك، فسيحتاج بوتين إلى المزيد من التصعيد، ما يعني مزيداً من الهجمات على البنية التحتية الأوكرانية، وربما توجيه ضربة نووية تكتيكية صغيرة (…). وهذا سيؤدي بالتأكيد إلى رد فعل شديد من الغرب، مثل أن يرد “الناتو” بتدمير أسطول البحر الأسود الروسي. في مثل هذه الحالة، قد يميل الغرب، أخيراً، إلى التراجع (…).
في حالة أوكرانيا، السلاح السرّي نووي. واستخدامه ينطوي على خطر توريط الولايات المتحدة بشكل أكبر في الحرب مرة أخرى، ويمكنه أيضاً أن يوقف تقدم الجيش الأوكراني، مؤقتاً على الأقل. إذا تم استخدام النووي (من روسيا) بشكل فعَّال، فقد يؤدي إلى تحقيق النصر
يشعر المُنَظّر الحربي برانيسلاف سلانتشيف (أحد طلاب غويمانس) بالقلق للغاية: “يعتقد الناس أن الأمر سينتهي بسرعة، لكن، للأسف، الحرب لا تسير على هذا النحو. أوكرانيا ستستأنف هجومها في الربيع، وعند هذه النقطة ستعود الديناميكية نفسها والمخاطر نفسها إلى الساحة”. وبحسب غويمانس: “لكي تنتهي الحرب، يجب تغيير الحد الأدنى من مطالب أحد الطرفين على الأقل”. هذه هي القاعدة الأولى لإنهاء الحرب. ولم نصل بعد إلى النقطة التي تغيرت فيها أهداف الحرب بما يكفي لإمكانية التوصل إلى اتفاق سلام.
تعتمد تنبؤات المنظرين لما سيحدث بعد ذلك، جزئياً، على كيفية تقييمهم للمتغيرات. هل ستنهار الجبهة الروسية في دونباس حقاً؟ وإذا كان الأمر كذلك، متى؟ وكم من المعلومات التي سيتمكن الكرملين من السيطرة عليها؟ هذه بعض الأشياء التي كان يجب التنبؤ بها. على سبيل المثال، كان دان رايتر أكثر تفاؤلاً قليلاً من غويمانس حول قدرة بوتين على بيع انتصار جزئي للشعب الروسي، بسبب إتقانه كيفية الإستفادة من وسائل الإعلام الروسية. بالنسبة إلى رايتر، كان بوتين دكتاتوراً ما يكفي بحيث يمكنه التراجع.
وبرغم كونه المُنَظّر البارز في مسألة “الالتزام الموثوق به”، يعتقد رايتر أن الحرب يمكن أن تنتهي دون نتيجة مطلقة، مثل تدمير الاتحاد الروسي، ويقول: “أنت لا ترغب حقاً في الإنسحاب من بلد يشكل تهديداً مستمراً. ومع ذلك، في بعض الأحيان يكون هذا هو العالم الذي يجب أن تعيش فيه فقط، لأنه من المكلف للغاية إزالة التهديد تماماً”.. يضيف رايتر: “يمكن لأوكرانيا أن تجعل نفسها أكثر قابلية للدفاع عن مستقبلها، لكنها ستبدو مختلفة كثيراً كدولة وكمجتمع عمَّا كانت عليه قبل الغزو. سوف تبدو أشبه بإسرائيل، مع ضرائب مرتفعة وإنفاق عسكري أكبر، وخدمة عسكرية إلزامية أطول”.
كان غويمانس يشعر بقلق أكبر. مرة أخرى، أخذته أفكاره إلى الحرب العالمية الأولى. في عام 1917، قرَّرت ألمانيا؛ التي لم يكن لديها أمل في النصر؛ أن تُقامر من أجل القيامة. أطلقت العنان لسلاحها السرّي، “يو بوت”(**)، للقيام بعمليات غير محدودة في أعالي البحار. كان الأمل في أن تخنق بريطانيا العُظمى وتؤدي إلى النصر. في حالة أوكرانيا، السلاح السرّي نووي. واستخدامه ينطوي على خطر توريط الولايات المتحدة بشكل أكبر في الحرب مرة أخرى، ويمكنه أيضاً أن يوقف تقدم الجيش الأوكراني، مؤقتاً على الأقل. إذا تم استخدام النووي (من روسيا) بشكل فعَّال، فقد يؤدي إلى تحقيق النصر. يقول غويمانس: “يشعر الناس بالحماسة الشديدة لإنهيار الجبهة. لكن في مثل هكذا مرحلة، سيكون بوتين مُحاصراً حقاً”.
في الوقت الحالي، لا يزال غويمانس يؤمن أن الخيار النووي غير مُرجح. وهو يعتقد أن أوكرانيا ستنتصر في الحرب. لكن هذا سيستغرق أيضاً وقتاً طويلاً، وسيكلف مئات الآلاف من الأرواح.
– النص بالإنكليزية على موقع “نيويوركر“.
(*) كيث جيسن، كاتب في The New Yorker، ولد في موسكو ونشأ في بوسطن.
(**) خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، طوَّر النازيون غواصاتهم، فجعلوها طويلة وثقيلة وقادرة على الإبحار مسافات شاسعة، تعمل بالديزل وفوق الماء، عُرفت بغواصات “يو بوت”.