تغريبة خروج سوريا من شدق “الغول” التركي

لم يسبق للرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن أبدى أيّ رغبة أو حماسة للقاء الرئيس السوري بشار الأسد، منذ بداية الانفجار الكبير في سوريا. على العكس من ذلك تماماً، وقف في مقدّمة "محاربي" الدولة السورية، وكان الساعد السياسي والتسليحي السبّاق في بناء ما سُمِّيَ بالمعارضة الداخلية في سوريا، متعاوناً إلى أقصى الحدود مع الإدارة الأميركية في أجندتها القاضية بإسقاط نظام الحكم في دمشق.

من هذه الزاوية، كان من المُستغرب جداً إعلان أردوغان في الآونة الأخيرة عن الرغبة  المستجدّة في لقاء الأسد، حتى لو اقتضى ذلك قيامه بزيارة دمشق وعقد لقاء قمة مع رئيس دولة عمل بكل جهده، وعلى مدى 12 عاماً لإسقاطه وتدمير دولته.

وليس خافياً أن أردوغان إنخرط، قبيل الزلزال التركي ـ السوري، في محاولات جدّية عديدة للفوز بهذا اللقاء، من دون أن يجد التجاوب المطلوب من الرئيس السوري، ما اضطره إلى الاستعانة بالطرفين الروسي والإيراني كليهما بما لكلٍ منهما من علاقة وطيدة مع دمشق لتليين موقف الأسد وإقناعه بعقد المصالحة، وتحديداً قبل 15 أيار/مايو (المقبل)، الموعد غير النهائي للانتخابات التركية.

لماذا كل هذا الاهتمام التركي بالمصالحة مع سوريا وما علاقة ذلك بشهر حزيران/يونيو المقبل؟

حزيران هو موعد انتهاء العمل باتفاقية المعابر (الدردنيل والبوسفور) حيث تنتهي ولاية الجهات الدولية التي تشرف عليها، ويعود الأمر بكامله إلى الدولة التركية. وهذا يعني أن أنقرة التي كان نصيبها من جعالة مرور لأكثر من 47 ألف سفينة سنوياً، لا يزيد عن 5% من مجمل المبلغ الذي يزيد عن 500 مليار دولار في العام، وكان جلّه من نصيب الدول المشرفة، سيُصبح بكامله من نصيب الخزينة التركية. وهذا مبلغ سنوي ضخم من شأنه أن يرتفع بالقدرات المالية التركية وما يستتبعها، إلى آفاق جديدة تُمكّنها من تحقيق قفزة هائلة على المستوى الاقتصادي وسواه يتيح لتركيا الفعالية في الإقليم وتعويم وتحفيز وبالتالي تحقيق “الوطن الأزرق”.. طموح أردوعان.

وللتذكير، فإن نواة هذا المشروع الطموح تتمركز تماماً في ذات المنطقة التي ضربها الزلزال، بين مرسين وأضنة وغازي عنتاب وهاتاي وأنطاكيا واسكندرون حيث تقوم منصات ثروة الغاز والنفط التركيين. هذا هو رهان أردوغان الساعي إلى تطبيق نظريته “صفر مشاكل”، ليس في بلاده فحسب، بل مع جواره السوري من باب أولى.

إذا نجحت مساعي موسكو، فإن إجتماع وزراء خارجية تركيا وسوريا وروسيا المتوقع عقده في الأسابيع القليلة المقبلة، في العاصمة الروسية، سيكون محطة مميزة، سواء بانضمام إيران إليه، وهذا مؤشر إلى رباعية جديدة بدأت ترتسم معالمها في الإقليم، أو بنتائجه التي ستحدد خارطة الطريق إلى عقد القمة الرئاسية الثلاثية الروسية السورية التركية وليس مستبعداً في هذه الحالة إنضمام طهران إليها

ومن المفهوم أنه لا مصلحة للسلطان الأميركي في كل ذلك، إذ لا يريد لأردوغان أن يكون مُرتاحاً إلى هذا الحدّ، وهو على مواقفه غير المتطابقة مع المصالح الأميركية. وإن كان لا بد من عودته بالإنتخابات المقبلة إلى سدّة الحكم، فالأنسب أن يعود مُنهكاً غير مرتاح، وأن يتطلّب منه احتفاظه بصولجان الحكم، مدة كافية لتمكين واشنطن من “هندسة” المنطقة بمقتضى ما تتطلّب مصالحها، على إيقاع الحرب الأوكرانية أولاً.

في المقلب الآخر، وافق الرئيس السوري مبدئياً على عقد اللقاء، لكنه إشترط موعداً له غداة صدور نتائج الانتخابات التركية. هذا مع الإشارة إلى أن الإدارة السورية كانت منحت الضوء الأخضر للقاءات جمعت الشخصيتين الأمنيتين الأساسيتين في البلدين، اللواء علي المملوك مدير مكتب الأمن القومي في سوريا، ورئيس المخابرات التركية حقان فيدان، ثم إجتماع وزيري دفاع البلدين بحضور وزير الدفاع الروسي في العاصمة الروسية في شهر كانون الأول/ديسمبر الماضي.

في موازاة ذلك، ثمة “فواتير” ينبغي على التركي تسديدها للسوري مسبقاً قبل حصول أي لقاء قمة، وأبرزها ما يتصل بإنهاء وجود المتطرفين الإسلاميين في إدلب وشمال ريف حلب (“أحرار الشام” و”داعش” وسواهما..). ولا شك أن قبول تركيا بهذه الاشتراطات السورية كان بمثابة عبء كبير على كاهل أردوغان الذي وجد نفسه في مأزق، إذ كيف سيكون سبيله للقضاء على جماعات المسلحين التي أنشأها ورعاها على إمتداد أكثر من عقد من الزمن؟ وماذا بإمكانه أن يفعل حيال حاجته الحيوية الماسة للتقارب مع سوريا من جهة، وضرورة دفع “فواتير” هذا التقارب من جهة ثانية؟

وإذا نجحت مساعي موسكو، فإن إجتماع وزراء خارجية تركيا وسوريا وروسيا المتوقع عقده في الأسابيع القليلة المقبلة، في العاصمة الروسية، سيكون محطة مميزة، سواء بانضمام إيران إليه، وهذا مؤشر إلى رباعية جديدة بدأت ترتسم معالمها في الإقليم، أو بنتائجه التي ستحدد خارطة الطريق إلى عقد القمة الرئاسية الثلاثية الروسية السورية التركية وليس مستبعداً في هذه الحالة إنضمام طهران إليها.

وسط هذه المعمعة الزلزالية، السياسية والطبيعية، أمكن إنزال كثيرين عن الشجرة. أردوغان أولاً صاحب الطموحات السلطانية وثانياً محمد بن سلمان الملك غير المُتوج حتى الآن. فالسعودية تريد إنهاء حرب اليمن ولو كانت الأكلاف كبيرة، سياسياً وإقتصادياً، وأول المؤشرات على ذلك الإعلان عن وديعة سعودية في المصرف المركزي باليمن بمبلغ مليار دولار لدفع رواتب الموظفين في القطاع الرسمي ثم وصول أول سفينة تجارية إلى ميناء الحديدة، فيما ينتظر أن تصدر إشارات أخرى تتصل بفك الحصار عن مطار صنعاء والإفراج المتبادل عن المعتقلين.

إقرأ على موقع 180  الإنتهازية السياسية.. إردوغان نموذجاً!

ويتقاطع ذلك مع ما سمعناه في مؤتمر ميونيخ بصوت فيصل بن فرحان وزير خارجية السعودية بأنه “لا بد من الحوار مع سوريا ولا بد من عودة سوريا إلى الحضن العربي”، ومع تتالي موجات الإنفتاح العربي على دمشق بعنوان “التضامن الإنساني”، غير أن المحك الأساس هو في القرار الذي ستتخذه جامعة الدول العربية في الأسابيع المقبلة، بشأن مصير حضور سوريا القمة العربية المقبلة المقررة في الرياض.

غير أن هذا المسار السوري ـ التركي أو ذاك المسار السوري ـ السعودي، سيكون حتماً محكوماً بايقاع الحرب الروسية الأوكرانية، حيث تجد واشنطن نفسها معنية بإحكام الطوق على فلاديمير بوتين، بينما الأخير يقترب أكثر فأكثر من الإيراني والتركي معاً. وهذا الإقتراب إن بلغ مرحلة أكثر تقدماً سيزيد من أعباء الإدارة الأميركية. لذا، لننتظر ونترقب: هل ستوافق أنقرة على دخول بولندا والسويد إلى الحلف الأطلسي، وما هو الثمن المقابل؟

Print Friendly, PDF & Email
محمود محمد بري

كاتب لبناني

Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  قيامة غزة.. قيد الأمل