سميح صعب19/03/2023
بينما يُطّل الشرق الأوسط على واقع جيوسياسي جديد بدفع من "المفاجأة" الصينية التي أعادت العلاقات بين السعودية وإيران، تراوح الجهود الروسية للتقريب بين دمشق وأنقرة مكانها، ومن غير المرجح أن تصادف حظوظاً من النجاح كتلك التي صادفتها بكين على المسار السعودي-الإيراني.
الموقف هنا شديد التعقيد. فإلإنقلاب في المشهد الإقليمي، لا يكتمل قبل إتضاح نتائج الإنتخابات التركية في 14 أيار/مايو المقبل، هل يتمكن الرئيس رجب طيب أردوغان من البقاء لولاية ثالثة، أم تطيح به المعارضة عبر مرشحها كمال كليتشدار أوغلو، الذي يحمل أجندة إقليمية مختلفة، وكان معارضاً منذ البداية للتدخل التركي العسكري في سوريا ولدعم فصائل سورية بالسلاح والمال. المراوحة على المسار السوري إستعاض عنها أردوغان بتسريع خطى الإنفتاح على مصر، عبر زيارة وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو إلى مصر.
في المقابل، رفع الرئيس السوري بشار الأسد سقف شروط اللقاء مع أردوغان إلى مستوى سحب القوات التركية من سوريا، وعدم القبول بمقولة وزير الدفاع التركي خلوصي آكار أن الوجود العسكري التركي في سوريا “ليس إحتلالاً”. موقف الأسد جاء من موسكو بعد لقائه الرئيس فلاديمير بوتين، مما يعني أن الكرملين يتناغم مع المطلب السوري، إذا ما أريد فعلاً تحقيق إختراق على المسار السوري-التركي. وموسكو كانت دائمة الشكوى من أن أنقرة لم تلتزم بإتفاقات “خفض التصعيد” في الشمال السوري، لجهة مكافحة الجهاديين كـ”هيئة تحرير الشام”، التي لا تزال تفرض سيطرتها على مناطق واسعة من إدلب وأرياف اللاذقية وحماه وحلب. فأي إضافة سيقدمها اللقاء بين أردوغان والأسد لحل الأزمة السورية؟ هذا سؤال يبقى مُعلقاً.
هل ستقف أميركا متفرجة على المنطقة تنزلق من بين أصابعها. الإجابة بلا قاطعة. ويتعين النظر إلى التوتر الإسرائيلي من الضفة إلى غزة ولبنان، وكأن هناك مسعى لتخريب ما يجري وإعادة الأمور إلى ما قبل إتفاق بكين. والسؤال ما الثمن الذي تريده الولايات المتحدة لترك الأمور سائرة في مجراها
الشرط السوري جعل أردوغان يتريث أكثر في الذهاب خطوة أبعد في إثارة المزيد من الغضب الأميركي ضده قبيل الإنتخابات. بل على العكس، أرجأت أنقرة الإجتماع الذي كان من المزمع عقده بين معاوني وزراء خارجية دول “منصة أستانا”، وهي روسيا وتركيا وإيران + سوريا في موسكو في 15 و16 آذار/مارس الجاري، للبحث في خطوات المصالحة التركية-السورية. بدا أن أنقرة تريد تعاوناً أمنياً مع سوريا ضد “وحدات حماية الشعب” الكردية التي تعتبرها تركيا إمتداداً لـ”حزب العمال الكردستاني”، فضلاً عن السماح بعودة اللاجئين السوريين. ورقة كان يريد أردوغان الحصول عليها من سوريا قبل الإنتخابات المقبلة لتعزيز تحالفه مع حزب العمل القومي بزعامة دولت بهشتلي المعروف بمواقفه المتصلبة حيال المسألة الكردية. هي سياسة شراء الوقت في مقابل عدم تقديم تنازل جوهري تركي لدمشق.
أضف إلى ذلك، أن أردوغان يحتاج في هذا الظرف الدقيق الذي وضعه فيه الزلزال المدمر الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا في 6 شباط/فبراير الماضي، إلى مهادنة أميركا في هذه اللحظة الحاسمة بالنسبة إلى مستقبله السياسي، فكانت موافقته مثلاً على بدء إجراءات المصادقة في البرلمان التركي على إنضمام فنلندا إلى حلف شمال الأطلسي. ومن الآن وحتى موعد الإنتخابات قد تلبي ستوكهولم “المعايير” التركية للقبول بها أيضاً في الحلف.
الجمود على المسار السوري-التركي، لا يحول دون تحولات إقليمية أخرى فرضها واقع الإتفاق بين الرياض وبكين.. والأنظار تتجه إلى ميادين الإختبار لهذا الإتفاق. ولعل الساحة اليمنية هي قاعدة الإنطلاق، كونها الأزمة الأكثر إلحاحاً التي تريد السعودية إقفال ملفها من جانب، بينما من جانب آخر، تريد إيران إثبات قدرتها على التدخل الإيجابي في أزمات المنطقة وتعزيز المصالحة الإيرانية-الخليجية. وليس من قبيل الصدفة أن الأطراف اليمنيين شرعوا في اليوم الثاني لإعلان إتفاق بكين في مفاوضات تستضيفها جنيف من أجل مبادلة أسرى الحرب.
وبكثير من الإرتياح، تنظر دمشق إلى إتفاق بكين الذي ينأى بسوريا عن أن تكون ساحة صراع بالوكالة بين السعودية وإيران، والتقارب الحاصل بخطى متسارعة بين طهران والعواصم العربية من الخليج وحتى مصر، وهذه التطورات من شأنها أن تفتح آفاقاً أمام الإنفراج السوري-العربي أيضاً. وكلام الأسد عن السعودية خلال زيارته لموسكو، كان لافتاً للإنتباه إذ قال إن السعودية “إتخذت منحى مختلفاً منذ سنوات ولم تعد تتدخل في الشؤون الداخلية لسوريا”. كلام يتناغم مع قول وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان، إن الدول العربية في حاجة إلى مقاربة جديدة حيال الأزمة السورية.
وعكس تقرير لصحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية المناخ التصالحي الجديد السائد في المنطقة، عندما رجّحت إستناداً إلى “مسؤولين عرب وأوروبيين”، أن تدرج مسألتا إعادة دمج سوريا في المنطقة والبحث في إعادة إعمارها، على جدول القمة العربية المقبلة التي ستنعقد في وقت من هذا العام في السعودية. علماً أن التقرير نفسه تحدث عن رفض الأسد صفقة عُرضت عليه عبر الأردن، قوامها إستئناف معظم الدول العربية علاقاتها مع دمشق وتقديم مساعدات بمليارات الدولارات لإعادة البناء، والسعي لدى الولايات المتحدة وأوروبا من أجل رفع العقوبات، شرط أن يقبل الأسد بحل مع المعارضة وأن يوافق على إرسال قوات عربية لحماية اللاجئين الذين سيعودون إلى سوريا، وعلى مكافحة تهريب المخدرات من سوريا.
أردوغان يحتاج في هذا الظرف الدقيق الذي وضعه فيه الزلزال المدمر إلى مهادنة أميركا في هذه اللحظة الحاسمة لمستقبله السياسي، فكانت موافقته مثلاً على بدء إجراءات المصادقة في البرلمان التركي على إنضمام فنلندا إلى حلف شمال الأطلسي
بعد زلزال السادس من شباط/فبراير، خشيت الولايات المتحدة أن يبني الأسد على المساعدات الإنسانية التي قدمتها الدول العربية، كي يفك طوق العزلة الإقليمية عن سوريا. وحرصت الولايات المتحدة على التكرار أكثر من مرة على ضرورة عدم خروج المسألة الإنسانية إلى الحيز السياسي، وأكدت معارضتها التطبيع مع دمشق. يحصل ذلك عند كل منعطف يُشتم منه إمكان حصول إنفراج سياسي واسع بين سوريا والدول العربية. بعد زيارة الأسد لموسكو، صدر بيان أميركي-بريطاني-فرنسي-ألماني يرفض التطبيع مع دمشق قبل تحقيق تقدم نحو حل سياسي للأزمة السورية. وبرغم التحذيرات الغربية، كان لافتاً للإنتباه مضي دولة الإمارات في مسار التطبيع الكامل مع دمشق، بدليل الزيارة الرسمية التي قام بها الأسد إلى دولة الإمارات اليوم (الأحد)، وما تخللها من موقف للإمارات “بشأن ضرورة عودة سوريا إلى محيطها عبر تفعيل الدور العربي”، على حد تعبير رئيس دولة الإمارات محمد بن زايد خلال إستقباله نظيره السوري.
وعلى رغم الخطوط الحمر الأميركية، ثمة نافذة عربية قد فتحت على دمشق، وإن كانت لا تزال في حاجة إلى تظهيرها في ظل الواقعية التي بدأت تتحلى بها الدول العربية بإزاء الأزمات التي عصفت بالمنطقة منذ الغزو الأميركي للعراق قبل عشرين عاماً وصولاً إلى “الربيع العربي” الذي تحوّل حروباً أهلية منذ 12 عاماً.
من المؤكد أن مناخات التوافق الإقليمي الحاصلة برعاية صينية وتلك التي تضطلع فيها روسيا بدور أساسي، إذا استمرت بالتدحرج الإيجابي، من شأنها أن تطوي عقوداً من الرعاية الأميركية لإدارة الأزمات في الشرق الأوسط. ورب سائل هل ستقف أميركا متفرجة على المنطقة تنزلق من بين أصابعها. الإجابة بلا قاطعة. ويتعين النظر إلى التوتر الإسرائيلي من الضفة إلى غزة ولبنان، وكأن هناك مسعى لتخريب ما يجري وإعادة الأمور إلى ما قبل إتفاق بكين. والسؤال ما الثمن الذي تريده الولايات المتحدة لترك الأمور سائرة في مجراها. السعودية كي تؤكد على التوازن في سياساتها أعلنت عن صفقة طائرات “بوينغ” أميركية بقيمة 37 مليار دولار بعد يومين من إتفاق بكين. لكن الرئيس جو بايدن الذي يستعد لإعلان ترشحه لولاية رئاسية ثانية يحتاج إلى عودة إيران إلى الإتفاق النووي في أسرع وقت ممكن!
خطوة كهذه وحدها يمكن أن تعيد التوازن السياسي مع الصين في الشرق الأوسط.