مصر وإيران.. من يفلش “طريق الحرير” بينهما؟

بعد الإعلان عن "اتفاقية بكين" لتطبيع العلاقات السعودية ـ الإيرانية، تزاحمت الأسئلة الإقليمية والدولية حول احتمال تطبيع العلاقات بين مصر وإيران، وهو احتمال بقدر ما يبدو واقعياً ومنطقياً، فإن محركات دفعه لا تبدو في عجلة من أمرها، إلا إذا كانت ظواهر الأشياء تخفي ما ليس للمراقبين والمتابعين "علم اليقين" بما يجري في الخفايا والخبايا مثلما كانت حال المبادرة الصينية مع طهران والرياض.

في العاشر من الشهر الجاري، أي في اليوم نفسه الذي أخرج فيه الثلاثي الصيني ـ الإيراني ـ السعودي اتفاق إنهاء القطيعية بين ضفتي الخليج إلى العلن، أصدرت وزارة الخارجية المصرية بياناً ترحيبياً بالإتفاق كونه “يسهم في تخفيف حدة التوتر في المنطقة، ويعزز من دعائم الإستقرار والحفاظ على مقدرات الأمن القومي العربي، وتطلعات شعوب المنطقة في التنمية والإستقرار”.

وبعد يوم واحد على بيان الخارجية المصرية، قال المتحدث باسم الرئاسة المصرية أحمد فهمي، إن مصر “تُقدّر هذه الخطوة الهامة، وتشدد على تأكيد ارتكازها على مبادئ ومقاصد ميثاق الأمم المتحدة وترسيخ مفاهيم حُسن الجوار وتعزيز الأمن والإستقرار في المنطقة”، وأكد أن بلاده “تتطلع إلى أن يكون لهذا التطور مردود إيجابي إزاء سياسات إيران الإقليمية والدولية، ويشكل فرصة سانحة لتأكيد توجهها نحو انتهاج سياسة تراعي الشواغل المشروعة لدول المنطقة، بما يعزز من فرص التعاون وتوطيد التواصل الإيجابي في ما بينها”.

لا لبس في الموقف المصري الإيجابي من تطور العلاقات الإيرانية ـ السعودية وانتقالها من مرحلة الإنقباض إلى مرحلة الإنبساط وما تحمله الثانية من ترجيحات بإقامة استثمارات مشتركة على ما قال وزير المالية السعودية محمد الجدعان، الأمر الذي يعني أن السعوديين والإيرانيين يتطلعون إلى بناء أرضية صلبة من المصالح الإقتصادية والإستثمارية المشتركة تجعل التفكير بالعودة إلى مشهد التأزم ضرباً من رقصات المرعوبين فوق رؤوس الثعابين.

عملياً، لم تقترب إيران ولا مصر من الخطوط الحمر بعد 2013، كأن الطرفين كانا يدركان أن “الضرب تحت الحزام” من المحظورات الذاتية التي لا يمكن لأي طرف اللجوء إليها أو أن يسلك سُبلها ضد الطرف الآخر

هل يستسيغ العقلاء النوم بين جحور الأفاعي؟ لا بالطبع.

هل يمكن أن تستقيم العلاقات المصرية ـ الإيرانية؟ طبعاً.

لكن.. كيف؟ لا بأس بإستعراض هذه “اللاءات”:

أولاً؛ لا مخاطر أمنية:

بعد وصول عبد الفتاح السيسي إلى الرئاسة المصرية في الثالث من تموز/يوليو 2013، تباينت العلاقات بين القاهرة وطهران، وهي كانت متباينة بالأصل خلال فترة حكم الرئيس محمد مرسي بين عامي 2012 و2013 جراء المواقف المختلفة حول الأزمة السورية وما رافق ذلك من دعوة مرسي إلى “الجهاد” في سوريا، وإثر إمساك السيسي بالحكم الجديد في مصر لم تخرج العلاقات المصرية ـ الإيرانية عن إطار “التباين”، فلا طهران اندفعت لمساعدة المعارضين للسيسي، ولا القاهرة استحضرت معارضين إيرانيين إليها بهدف مناوئة السلطات الإيرانية.

وبحسب صحيفة “اليوم السابع” القاهرية (25 ـ 10 ـ2017)، فإن طهران “اتخذت موقفا رماديا من الثورة المصرية في 30 حزيران/يونيو 2013 بعكس الموقف الصريح الذى اتخذته من ثورة 25 كانون الثاني/يناير2011، حيث أيّدت الثورة فى الأيام الأولى، لكن لم تتخذ الموقف ذاته من ثورة 30 حزيران/يونيو، فلم يصدر رد فعل رسمي بتأييدها، بل انحازت وسائل إعلامها للرئيس المعزول محمد مرسي، وفى الوقت نفسه ألقت باللوم عليه وقالت إنه انحرف عن مسار الثورة”.

عملياً، لم تقترب إيران ولا مصر من الخطوط الحمر بعد 2013، كأن الطرفين كانا يدركان أن “الضرب تحت الحزام” من المحظورات الذاتية التي لا يمكن لأي طرف اللجوء إليها أو أن يسلك سُبلها ضد الطرف الآخر، ولذلك لم يحصل أن اتهم المصريون إيران بتهديد أمنهم والسعي للعبث به عبر رعاية معارضين مصريين وإعانتهم بما يحتاجون من وسائل مادية وغيرها، وفي المقابل، لم يتهم الإيرانيون مصر بدعم جماعات ايرانية مسلحة لا بالمال ولا بالسلاح ولا بالتدريب ولا بشيء من هذا القبيل، وأكثر من ذلك ليس في الخطاب السياسي الإيراني ما يقول إن النظام المصري غير شرعي، وليس في الخطاب السياسي المصري ما يقول أيضاً إن النظام الإيراني غير شرعي أو لا شرعية له.

ما من شك، أن المسألة الأمنية هي أخطر ما يؤرق العلاقات الدولية، وفي الحالة المصرية ـ الإيرانية، هذه المسألة منعدمة، وفي ظل غياب هذه العقدة يغدو تطبيع العلاقات بين القاهرة وطهران أكثر سهولة مما جرى بين طهران والرياض، حيث كانت المسألة الأمنية وملحقاتها تطفو على سطح التوتر بينهما، ومع ذلك استطاع الطرفان تجاوز هذه العقدة ومراراتها بعدما اختبروا وتخيّروا بين معادلتين: إما الأمن للجميع وإما لا أمن للجميع، فكان لا بد لمنطق الجوار وجدوى المصالح أن يحتكما للمعادلة الأولى.

ثانياً؛ لا جوار جغرافياً:

تتنازع الدول عادة عندما تكون متجاورة جغرافياً، والتطلع بعض الشيء إلى تاريخ الحروب والصراعات، يفضي إلى مشهد مضمونه أن الدول المتجاورة جغرافياً هي الأكثر عرضة للصراعات الثنائية والحروب البينية، إما بسبب تصريف فائض القوة من الدولة الأقوى على الدولة الأضعف، وإما بإستشعار إحدى الدولتين المتجاورتين بالمخاطر التي باتت تشكلها الدولة الجارة، وإما لأطماع إحدى الجارتين بموارد جارتها، وإما أن تكون الحرب من أعراض “مرض المجد” الذي يصيب بعض القادة، فيخوضون الحروب طلباً للمجد والخلود مثلما فعل نابوليون بونابرت وادولف هتلر، وحتى في هذه الحالة، فدول الجوار او دولة الجوار ستكون أولى ضحايا الحرب.

بالنظر إلى التقارب التركي ـ المصري الحاصل، والتقارب السعودي ـ الإيراني، ونصف التقارب التركي ـ السوري، ما الحائل الذي يمنع جلوس السعوديين والإيرانيين والمصريين والأتراك على مائدة حوار رباعية واحدة؟

في الحالة المصرية ـ الإيرانية، لا جوار جغرافياً يمكن أن يشكل احتكاكاً بين الجانبين، ولا تتنازع القاهرة وطهران على حدود أو على خرائط تعيد تحديد جغرافية كل منهما، وليس في المخيال المصري طموح بضم إيران إلى مصر ولا في الخيال الإيراني مثل هذا الطموح، كما لا تتنازع مصر وإيران على حقول نفط أو غاز، ولا على مرفأ أو شاطئ أو ساحل أو جزيرة، وبمعنى أدق ولكن لا يخلو من الطرافة ليس بين إيران ومصر نزاع على قطرة ماء او حبة تراب.

ثالثاً؛ لا أحلاف متحاربة:

من بين النزاعات والصراعات التي تثقل الدول انخراطها في أحلاف دولية متقاتلة ومتحاربة، وفي التاريخ الحديث يتقدم حلفا “وارسو” و”الناتو” إلى واجهة الأمثلة، إذ كانت العضوية في أحد الحلفين تقتضي القابلية المُسبقة والجهوزية الدائمة للدخول في حرب محتملة دفاعاً عن أي عضو في الحلف مهما كان قريباً أو بعيداً، وناضلت مصر تاريخياً ضد سياسة المحاور الدولية وابتكرت مع الهند ويوغوسلافيا فكرة عظيمة تمثلت بمشروع عظيم عنوانه حركة “عدم الإنحياز”، واصطدمت مصر سياسياً وأمنياً مع إيران آنذاك، وكانت مصر على حق حين وقفت في وجه “حلف بغداد” وتصدت له، أما الآن فلا رغبة أو مشروعاً لدى مصر للإنخراط في حلف دولي ولا إيران في هذا الصدد، وهذا ما يسهل طريق التطبيع بينهما وصولاً إلى إحياء الفكرة “اللامنحازة” بين مصر وإيران وتركيا والسعودية.

إقرأ على موقع 180  النظام الدولي الجديد والإنقسام الأمريكي العميق!

هل يمكن أن نتخيل مثل هذا الرباعي على مائدة واحدة؟

قبل نهاية السنة المنصرمة، كان من الصعب الحديث عن تطبيع او تطور في العلاقات التركية ـ السورية، ولكن بعد لقاءات عدة بين مسؤولين سوريين وأتراك لم يعد الحديث عن تطبيع بين أنقرة ودمشق من المستحيلات السبعة برغم العقبات التي ما زالت تعوق طريق التطبيع الكامل، وقبل العاشر من آذار/مارس الجاري تاريخ الإعلان عن انفراج العلاقات السعودية ـ الإيرانية، كان الحديث عن التطبيع بين الرياض وطهران أشبه بالجنون، لكن بالنظر إلى التقارب التركي ـ المصري الحاصل، والتقارب السعودي ـ الإيراني، ونصف (أو ربع كما يحلو للبعض أن يقول) التقارب التركي ـ السوري، ما الحائل الذي يمنع جلوس السعوديين والإيرانيين والمصريين والأتراك على مائدة حوار رباعية واحدة؟

ربما يقول قائل في هذا الشأن إن روسيا هي الضامن بين سوريا وتركيا، والصين هي الضامن بين ايران والسعودية، فمن يضمن تلك “المائدة المعجزة”؟ هذا سؤال في مكانه ولكنه يعيد ربط مستقبل ومصير دول المنطقة بضمانة ورعاية الدول الكبرى وما تمليه مصالحها، فيما “المائدة المعجزة” هي تعبير واضح و صارخ عن بلوغ سن الرشد الإستراتيجي القائم على معادلة “تصفير المشاكل” أوليس الجميع يتحدث عن هذه المعادلة؟

رابعاً؛ لا تضارب في المصالح:

تتنازع الدول وتختلف حين تتضارب مصالحها الأمنية والسياسية والإقتصادية وقد سبق الحديث عن الأمن والسياسة، وبالتمعن في الحالة المصرية ـ الإيرانية، تخلص النتيجة إلى انتفاء التضارب في المصالح الإقتصادية بين إيران ومصر، فالدولتان لا تتنازعان على صناعات متتشابهة ولا تتنافسان على أنواع من الإنتاج الذي يحد من قدرات طرف ويصب في صالح آخر، كما لا تتنازع مصر وإيران على أسواق لتصدير منتوجاتهما، وليس بينهما حروب تجارية أو اقتصادية، وكل ذلك يجعل الدولتين قادرتين على صياغة علاقات اقتصادية واستثمارية لا يشوبها عوامل النزاع وتحدد أطرها عناصر التفاهم والتفاعل الإيجابي التي لا تنقصها إلا إرادة الفعل والنوايا الحسنة.

خامساً؛ المجال الحيوي:

تندلع الحروب والصراعات حين يتراءى لدولة ما أن مجالها الحيوي يتعرض لأخطار أمنية (الأمثلة الحية: الحرب الروسية ـ الأوكرانية وبحر الصين الجنوبي)، وإذا كان صحيحاً أن المجالات الحيوية أكثر ما تنطبق مصاديقها على الدول الكبرى، إلا أن الدول المتوسطة وبالأخص الدول التاريخية مثلما هو واقع مصر وإيران لديها ما تقوله عن المجال الحيوي الخاص لكل منها، وفيما تعتبر إيران منطقة الخليج مُحدّداً من مُحدّدات أمنها بفعل الصراع الدولي على هذه المنطقة، فمصر من جهتها ترى في منطقة الخليج جزءاً من الأمن القومي العربي، ولكن حين تتوافق إيران والعمود الفقري لدول مجلس التعاون، أي السعودية على منظومة لحفظ الأمن المتبادل وفقا لـ”إتفاقية بكين”، تكون ضفتا الخليج قد خرجتا من عقدة التحدي الأمني إلى روابط تحفظ وترعى الأمن المشترك، وبهذا المفهوم لا تعود منطقة الخليج مصدرا لقلق أمني لا من ناحية إيران حيال دول الخليج ولا من جانب دول الخليج تجاه إيران، ومع هذا المستجد يكون الأمن القومي العربي قد تحققت أغراض صيانته وتقاربت معها الرؤية المصرية ـ الخليجية ـ الإيرانية في إبقاء منطقة الخليج آمنة ومستقرة وبعيدة عن صواعق التوتير والتأزيم والتهديد المتبادل.

ثمة من يرى أن عملية التطبيع الإيرانية ـ المصرية بحاجة إلى مفاتيح حل لإشكاليتين هما:

ـ مصير “سيف العدل” ـ محمد صلاح الدين زيدان ـ الضابط المصري المنشق والذي يقود تنظيم “القاعدة” منذ مقتل أنور الظواهري في الواحد والثلاثين من تموز/يوليو 2022.

ـ علاقة إيران مع حركة “حماس” التي تدير قطاع غزة المحاذي لمصر.

حين تتوافق إيران والعمود الفقري لدول مجلس التعاون، أي السعودية على منظومة لحفظ الأمن المتبادل وفقا لـ”إتفاقية بكين”، تكون ضفتا الخليج قد خرجتا من عقدة التحدي الأمني إلى روابط تحفظ وترعى الأمن المشترك

الولايات المتحدة تتهم الإيرانيين بإيواء “سيف العدل”، وهو الإتهام نفسه الذي كان يُلقى على طهران في مرحلة قيادة المصري الجنسية أيمن الظواهري لتنظيم “القاعدة”، وحين أعلن الأميركيون مقتله تبين أنهم استهدفوه في منزله الكائن في العاصمة الأفغانية كابول، وقبل مقتل الظواهري كانت الإدارة الأميركية تتهم إيران بتوفير المأمن والمسكن لحمزة بن أسامة بن لادن، غير أن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب أعلن في الرابع عشر من أيلول/سبتمبر 2019 أن قوة أميركية لمكافحة الإرهاب قتلت حمزة بن لادن على الحدود الأفغانية ـ الباكستانية، فما الذي يحول دون أن يكون اتهام طهران بتقديم المأوى لـ”سيف العدل” امتدادا للتهمة عينها المرتبطة بأيمن الظواهري وحمزة بن لادن؟.

بصورة من الصور، لا يجاري المصريون الإتهامات الأميركية لإيران، أو على الأقل لا تفصح مواقفهم عن ذلك، ولعل حذرهم من الإنسياق وراء تلك الإتهامات عائد لسببين، الأول عدم يقينهم بإيواء طهران لـ”سيف العدل” بعدما تبين أن الظواهري وبن لادن الإبن قُتلا خارج الأراضي الإيرانية مما يضع الإتهامات الأميركية في موضع الشك، والثاني اعتبارهم أن ملف “سيف العدل” خاضع لتعقيدات العلاقة بين إيران والولايات المتحدة.

وأما بالنسبة لـ”حماس” المتجاورة مع مصر، فالتحولات التي شهدتها العلاقات الثنائية في السنوات الأخيرة، تؤكد الإنخفاض الشديد للحذر الأمني المصري من “حماس” والذي وصل إلى ذروته بُعيد الثالث من تموز/يوليو 2013، ذلك أن اللقاءات شبه الدورية بين المسؤولين المصريين وقياديي “حماس” لم تعد أمرا مكتوما نتيجة حرص الجانبين على الكشف عنها، مما يؤشر إلى الإصرار على تطوير العلاقات بين مصر و”حماس” وعدم إعادة عقاربها إلى مرحلة الصدام والإرتطام، ومن دون طول عناء في التدقيق والتمحيص، فإن استقامة العلاقة بين مصر و”حماس” يزيل عقبة أو عقدة أمنية كبرى عن طريق التطبيع المأمول بين طهران والقاهرة، بحسب وجهة النظر القائلة بأن علاقة “حماس” بطهران كانت تشكل إحدى العُقد العالقة بين مصر وإيران.

هل من ملفات أخرى مستعصية بين مصر وإيران؟

ليس في الوقائع ما يدل إلى غير ذلك، إلا إذا كانت الوقائع عصية على الفهم والإدراك.

Print Friendly, PDF & Email
Download Nulled WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  "فورين أفيرز": أميركا وإيران.. إمتحان الفرصة الأخيرة