حوار متأخر مع شارل مالك.. حتى لا يزول لبنان 

الطيش الطائفي الذي شهدته البلاد في الأيام القليلة الماضية، جعل لبنان على حافة انقسام مماثل لسنوات الحرب المقيتة، وهذا الإنقسام يعيد إلى الأذهان التحذير من زوال لبنان الذي كان أطلقه وزير الخارجية الفرنسية جان إيف لودريان ذات يوم من سنة 2020.

لم يكن رئيس الدبلوماسية الفرنسية السابق سبّاقاً في التحذير من زوال الوطن اللبناني والدولة التي قامت على أساس المشترك الديني والمذهبي والسياسي والثقافي، بل إن احد أبرز الوجوه السياسية والفكرية التي عرفها لبنان، والمقصود به شارل مالك، كان قرع طبول القلق من زوال لبنان في الخامس من آب/اغسطس 1949 في حال تخلى لبنان عن قيمته وعقله ودوره، فحينذاك لا يعود مبرر لوجوده ولا ينفع مع فقدان المبرر الرهان على دولة كبرى أو عظمى.

تلك هي الخلاصة التي ينتهي إليها شارل مالك في “تقرير في الوضع الراهن” كان أرسله إلى وزارة الخارجية اللبنانية عام 1949 عندما كان وزيراً مفوضاً في واشنطن، ونشرته مجلة “القضايا المعاصرة” الصادرة عن مجموعة صحيفة “النهار” عام 1969، وأعادت دار “النهار” نشره في طبعتين عامي 2002 و2003 مع مقدمة للراحل الكبيرغسان تويني يقول فيها إن “القضايا المعاصرة” نشرت نص “التقرير” بعدما “تمكنت من الحصول على نسخة المغفور له رياض الصلح” أول رئيس للحكومة اللبنانية بعد الإستقلال.

ماذا يقول شارل مالك؟ هذا حوار افتراضي معه حول “تقريره”:

ـ هل يمكن السؤال بداية عن دور لبنان ورسالته؟

ـ مالك: “لبنان مدعو أكثر من أي بلد عربي آخر إلى إطلاق حرية الفكر والنظر، ولبنان مؤهل وقادر ومدعو لتقديم النشاط الفكري والتجدد العقلي القائمين في جوٍ حرٍ ومسؤول”.

ـ أشرت إلى “الجو الحر والمسؤول” وربطت بينه وبين حرية الفكر، هل تخشى من الإعتباطية وسوء التعبير؟

ـ مالك: طبعاً وحتماً “إن إطلاق حرية الفكر وتشجيع حصول التجدد الفكري لا يعنيان بالضرورة انفلات الفكر من كل عقال، إذ أن الفكر الحر هو الفكر الساعي وراء الحقيقة، المسؤول نحوها مسؤولية ضميرية ثقيلة، كما أن الدعوة لإطلاق حرية الفكر لا تعني جعل المناداة بالحقيقة اعتباطية سائبة”.  

ـ لكن يا معالي الوزير، لعلك عرفت وأنت في السماء، ما شهده لبنان في الأيام الموبوءة الأخيرة، خطابات أنتجها الفكر المنفلت من كل العقال كما سبق لك التوصيف، هل من أجراس تقرعها ومن نصائح ترسلها؟

ـ مالك: “إذا لم يقدس لبنان حرية الفكر بمعناها الصحيح، وإذا لم يصن البحث عن الحقيقة، ينتفي مبرر بقائه بل ينتفي وجوده على الإطلاق، ويصبح أمر انضمانه إلى غيره، شرقاً أو غرباً، بالضم أو بالسيطرة، رهن الوقت”. 

هذا أول تحذير من زوال لبنان في حال سلوك قادته وصانعي الوعي فيه طريق الإعتباطية المتفلتة من رقابة المسؤولية والضمير كما يقول شارل مالك، فالإعتباطية تلغي مضمون لبنان وتميزه ولا تجعله حاجة مطلوبة بين العرب والعرب وبين الشرق والغرب على ما قال بعد ذلك ميشال شيحا في “لبنان في شخصيته وحضوره”، ولكن هل توافق الدول الكبرى على زوال لبنان؟ هذا سؤال يجيب عنه شارل مالك على هذا النحو:

 “توجد في أميركا أوساط لا ترتاح إلى استقلال لبنان ولا ترى له مبررا، فإذا نهضت محنة وظهر أن تضحية لبنان تحلها، فتُلقي هذه الأوساط وزنها في اعتبار الوازنين، وإذا اشتدت الأزمة وخارعزم لبنان ولم ينصره أحد من الخارج فقد يقرر هذا الوزن الأمر”. 

ـ حسناً.. وغير أميركا؟

ـ مالك: “ما يصح على أميركا أعتقد أنه يصح على إنكلترا، فلا يمكن الإتكال على أي منها لإنقاذ لبنان”.

عدم الإهتمام الأميركي بمصير لبنان وجوداً وبقاء ومصيراً يتحدث عنه الرئيس الأسبق لحزب “الكتائب اللبنانية” كريم بقرادوني في كتابه “لعنة وطن” إذ يقول:

“إني مقتنع كل الإقتناع أن واشنطن لم تلتزم الوعود التي قدمتها للحكم اللبناني ولم تول الوضع اللبناني الإهتمام الضروري، إني أحمل الولايات المتحدة القسط الأوفر من مآسي حرب لبنان، وقد تكوّن في المرحلة الكسينجرية تيار خفي صنّف دول الشرق الأوسط نوعين، دولاً دائمة وجودها ضرروي، ودولاً مؤقتة يمكن الإستغناء عنها، ورأى في لبنان دولة غير مكتملة المقومات، حدوده الجغرافية مصطنعة وتركيبته السياسية هشة وغير قابلة للحياة ، ولم يتردد بعض صانعي القرار الأميركي في طرح لبنان كأحد الحلول الممكنة للمشكلة الفلسطينية، إن واشنطن لم تحمل مرة واحدة تصورا أميركيا خاصا بلبنان، وقد وضع المبعوث الأميركي دين براون المسيحيين أمام الرحيل عن لبنان وإما الإستعانة بسوريا، وهذا ما عناه عندما عرض على الرئيس سليمان فرنجية في بداية عام 1976 فكرة ترحيل المسيحيين بواسطة بواخر أميركية”.

مالك: “مبرر لبنان أمام ذاته وأمام الضمير العالمي هو أمانته للحرية، إذا ظل أميناً لهذه الحرية فلا يستطيع أحد أن يبرر على الإطلاق محوه ويجد دائماً من يتحمس له ويتطوع لنصرته، أما إذا تنكّر لها أو وهن في حملها، فتضعف ثقته بنفسه وتضعف ثقة غيره به، وينتفي رويداً رويداً مبرر وجوده”

يُسهب بقرادوني في الحديث عن لامبالاة الولايات المتحدة تجاه لبنان وإزدواجية مواقفها وعدم إيلائها اهتماما بمصيره، والإزدواجية نفسها كانت تقلق وزير الخارجية الأسبق فؤاد بطرس وكذلك الرئيس الياس سركيس مثلما يروي الأول في “المذكرات”، ويكشف بطرس أن دين براون تحدث معه عن “قصة البواخر” فقال له براون:

“زعماؤكم لم يعطوني انطباعاً بأنهم مدركون لما يجري، كل همهم أن يسألوني عما إذا كانت الولايات المتحدة سترسل قواتها العسكرية إلى لبنان للإمساك بالوضع، وقد أجبتهم بأن هذا الأمر غير وارد، فأخذوا يلحون بالسؤال عن موقف بلادي إذا بدأت عملية إبادة المسيحيين، عندها قلت لهم لا تضعوا بين الإحتمالات نزول قوات أميركية في لبنان، في حال بدا أن خطر إبادة يتهدد المسيحيين سوف نرسل لكم سفناً لإنقاذكم لا جيوشاً”.

سلسلة الشهادات تلك، عن السياسة الأميركية اللامبالية ومعها الإنكليزية حيال لبنان، تفتح نوافذ الأسئلة على شارل مالك لمعرفة الموقف الفرنسي:

إقرأ على موقع 180  حكومة "القرصة الأخيرة".. والوجع الاكبر

ـ مالك: “فرنسا تريد بقاء لبنان مستقلاً وتتحرك بجد إذا ما هُدد استقلاله، وتتوسط بحماس لدى اميركا وانكلترا على أساس مبدئي، ولا أستبعد وجود تفاهم ضمني بين الدول الكبرى يخول فرنسا مناصرة لبنان ويخولها كذلك تمثيله إذا اجتمعت هذه الدول وبحثت في ما بينها شؤون الشرق الأوسط”.

ـ وفي حال وقع الفرنسيون بين المفاضلة بين لبنان وإسرائيل؟

ـ مالك: “مهما يكن من أمر هذه المنافسة، أعتقد أن العاطفة الفرنسية من السعة بحيث لا تستنفدها محبة إسرائيل، وأن لبنان مع ذلك تبقى له زاوية خاصة في ملء العطف الفرنسي”.

ـ عموماً هذا ما يقوم به الفرنسيون منذ وقوع لبنان في قاع انهياره الكارثي المالي والإقتصادي عام 2019، وإلى مستوى تبدو فيه فرنسا أكثر حرصاً على لبنان من اللبنانيين أنفسهم، ولكن هل يكفي وقوف فرنسا مع لبنان حتى يبقى موجوداً بين خرائط دول العالم؟ 

ـ مالك: “مبرر لبنان أمام ذاته وأمام الضمير العالمي هو أمانته للحرية، إذا ظل أميناً لهذه الحرية فلا يستطيع أحد أن يبرر على الإطلاق محوه ويجد دائماً من يتحمس له ويتطوع لنصرته، أما إذا تنكّر لها أو وهن في حملها، فتضعف ثقته بنفسه وتضعف ثقة غيره به، وينتفي رويداً رويداً مبرر وجوده، لذلك إذا عرف لبنان أن يقوي نفسه فعليه أن يقوي أسباب العقل والروح، أما إذا لم يكن ولم يُعرف كذلك في الأوساط المسؤولة المقررة، فسيزول”.

في هذه الإجابة يأتي شارل مالك مرتين على احتمال زوال لبنان وفقدان مبرر وجوده، ولتصبح احتمالات الزوال ثلاثا، وكلها عميقة الإرتباط بقدرة اللبنانيين على جعل وطنهم مميزاً وفريداً فيشكل نموذجاً يحتاجه العرب ويصونه الشرق والغرب، وأما كيف السبيل إلى ذلك؟

يجيب شارل مالك:

“يجب أن يتعمق لبنان في ما يمتاز به عن سائر الدول العربية وفي ما لا تستطيع إحداها مصارعته به، ليلمع بالتجارة، ليحقق اقتصاديات علمية غريبة، ليؤسس صناعات فذة في الشرق كله، ليخلق إطاراً للحياة يتفجر معها الشعر والفن تفجراً، لبنان مدعو  لأن يكون شعره وفنه وأدبه وموسيقاه ونحته وبناؤه من أرقى الطرازات ولأن يُلهم بها جميعاً العالم العربي”.

ـ وهل من إضافات تجعل لبنان في موقع الفرادة والريادة؟

ـ مالك:” ليشجع لبنان مؤسسات الفكر والعقل، لبنان مدعو لأن ينتج علماً ونقداً وفلسفة ولاهوتاً لا مثيل له في الشرق، وانا أؤمن أن هذه الدعوة العقلية أخطر دعواته كلها، إذا حقق لبنان ذاته الفريدة ثبت في وجه كل عاصفة، سماح العرب له بالبقاء، حماس الغرب لكيانه، كل هذا الأسباب الأخيرة لوجوده تتوقف على مقدار تحقيق ذاته: كياناً حراً في مبادلة وخلق الصنع المادي وفي مبادلة وخلق الصنع العقلي والروحي”.

ـ ما السُبل الأكثر فعالية في تقرير مصير لبنان؟

ـ مالك: “أن تخصص خمس ميزانية الدولة في سبيل المشاريع والمؤسسات العقلية: لتنظيم اقتصادات وإحصاءات علمية دقيقة، لتأسيس المعاهد العالية، لتشجيع التأليف والنشر، لخلق حركة فنية عقلية حرة لا عهد للبنان ولا للعالم العربي بها”. 

في واقع الأمر ان لبنان قبل عام 1975 كان سائرا بهذا الإتجاه، فصناعاته المتوسطة والخفيفة كانت رائدة، وفنه كان ريادياً، وأدبه كان طليعياً، وإعلامه كان استثنائياً، ودور نشره كانت متفردة، وحركته الفكرية كانت متميزة، ولكن أين السياسة والسياسيين من كل ذلك؟ يقول شارل مالك:

ـ مالك:”ليس بالسياسات يصير لبنان ويبقى، بل بالعقل النيِر الحر المتصل بالتراثات الأصيلة، المجسّد في مؤسسات وحركات، المنظم للمادة والحياة، المتفجر معرفة وحقيقة وجمالاً”.

ـ الآن أيها الراحل خسر لبنان كل شيء، وبات اللبنانيون في كل واد يهيمون، يبحثون عن كسرة خبز ورمق أخير من الرزق، فيما أهل السياسة الذين أنزلوا الناس إلى هاوية العيش وقعره، يصدحون على المنابر بخطابات الإصلاح والفلاح، هل من كلمة في الإصلاحات والمصلحين؟

ـ مالك: “الإصلاحات لا تكون أصيلة إلا إذا انبثقت عن تخطيط محكم ودرس مسؤول، ولا تأتي مرتجلة وبنت ساعتها ولا تكون وليدة ضغط الأوضاع العارضة، أو وسيلة تخدير أو إلهاء”.

ـ تتحدث عن الإرتجال ووسائل التخدير والإلهاء، كأنك على علم بأخبارنا وسود وقائعنا، ومع ذلك في جعبتي سؤال: ما الطريق إلى الإصلاح؟

ـ مالك: “خطوط الإصلاح وأشكاله وقوالبه، يجب أن تناط بفئة من الإخصائيين في كل حقل من الحقول، يعملون على ضوء خبرات الشعوب الراقية وتاريخ الحركات الإصلاحية، وليس بالإمكان وضع تصميم تفصيلي إلا بالإستناد إلى خبرة نفر عارف مخلص مسؤول”.

ـ نفرعارف ومخلص ومسؤول؟

ـ مالك: نعم.

من أين نأتي بهم بحق السماء؟

Print Friendly, PDF & Email
Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  الأزمة الأوكرانية هل تمهد لحرب باردة جديدة؟