إذا رتّبنا تسلسل الأحداث أو تزامنها يتضح لنا الكثير من معالم المشهد الذي يرتسم أمامنا اليوم. بينما كان رئيس مجلس النواب الأميركي كيفن ماكارثي يُرحّب بالرئيسة التايوانية تساي إنغ-وين في مكتبة رونالد ريغان في مدينة سيمي فالي بولاية كاليفورنيا الأربعاء في طريق عودة الأخيرة من جولة في أميركا اللاتينية، كان وزير الخارجية الصيني تشين غانغ – مع فارق التوقيت الزمني – يجمع في بكين وزيري الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان والإيراني حسين أمير عبد اللهيان، لوضع إتفاق التطبيع بين الرياض وطهران الذي أنجز برعاية صينية الشهر الماضي، موضع التطبيق.
“إتفاق بكين” الذي يعتبر بمثابة تحول إستراتيجي كبير في الشرق الأوسط، لم تقتصر مفاعيله على إيران وحدها، وإنما فتح الباب العربي أمام سوريا، على أن يُتوّج ذلك بزيارة بن فرحان إلى دمشق في الأسابيع المقبلة حاملاً دعوة للرئيس السوري بشار الأسد لحضور القمة العربية في الرياض في 19 أيار/مايو المقبل. وبقدر ما عزّز الإتفاق مناخات المصالحة في المنطقة وطي صفحة من العداوات تعود إلى أكثر من 12 عاماً، فإنه حصّن دمشق في مسار التطبيع مع تركيا. وإذا كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان هو نفسه القائل أن “لا ضغينة دائمة في السياسة”، فإن هذه القاعدة تنطبق أيضاً على سوريا والدول العربية.
مفاجأة مزعجة لواشنطن وتل أبيب
إذا جمعنا جزءاً آخر من الصورة، نضع يدنا على بعض التفسير للتوتر الإسرائيلي المتصاعد. منذ أن وصل بنيامين نتنياهو إلى رئاسة الوزراء للمرة السادسة في كانون الأول/ديسمبر الماضي، حدّد هدفين رئيسيين لحكومته: التطبيع مع السعودية ومنع إيران من الحصول على قنبلة نووية. قارب نتنياهو الموضوع الفلسطيني بوصفه ملفاً يحين أوانه بعد أن تنتهي إسرائيل من تطبيع العلاقات مع السعودية، وليس العكس، أي أنه جعل القضية الفلسطينية مسألة لاحقة للتطبيع.
بعيداً عن نبرة التهديدات والممارسات على الأرض، تبدو إسرائيل كمن يبحث عن مكان في “إتفاق بكين”، وتسعى إلى البعث برسائل نارية بأن الصياغة الجديدة للشرق الأوسط، لا يمكن أن تبقى هي خارج سياقاتها. لكن هذه السياسة محفوفة بالمخاطر وتجعل المنطقة برمتها برميل بارود، قابل للإشتعال في أي لحظة
أتى إتفاق بكين بمثابة مفاجأة غير سارة لنتنياهو، وكذلك مفاجأة “مزعجة” للولايات المتحدة. صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية كشفت أن رئيس المخابرات المركزية الأميركية وليام بيرنز زار الرياض سراً، قبل أيام قليلة، واجتمع بولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان وقادة أمنيين وأبلغهم أن الولايات المتحدة “تشعر بالصدمة” من إنفتاح الرياض على كل من إيران وسوريا.
الإنفتاح الإيراني على دول الخليج قلب الطاولة في وجه رئيس الوزراء الإسرائيلي. طهران سبقت تل أبيب إلى الرياض ودمشق على الطريق. من كان يحسب أن الحرب الباردة الجديدة بين أميركا والصين، ستحط رحالها في الشرق الأوسط في توقيت سيء لنتنياهو، ومن يُراجع شريط الأخبار في معظم الأقنية التلفزيونية العالمية في الساعات الأخيرة، يتبين له أن هناك من “كبس” الزر الصاروخي في آن معاً، من لبنان وسوريا والأردن وسيناء المصرية، ناهيك بغزة، فضلاً عما يُسجَل من مواجهات يومية في المسجد الأقصى في القدس.
ضم الضفة الغربية!
المظلة الصينية للترتيبات الإقليمية في الشرق الأوسط، واجهت إختبار التصعيد الأوسع بين القوات الأميركية المنتشرة في سوريا وفصائل موالية لإيران الشهر الماضي. لكن الرئيس الأميركي جو بايدن تحدث عن “ضربات دقيقة”، ما يعنى ضمنياً أنه لا يريد مواجهة متدحرجة أو واسعة مع طهران، في وقت لم ينقطع خيط الأمل بإمكان تجديد خطة العمل الشاملة المشتركة لعام 2015، والقنوات الخلفية من إقليمية وأوروبية ما تزال شغّالة في هذا الإتجاه.
أما الإختبار الأكبر للإتفاق فهو التصعيد الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية. وحتى المعركة التي يخوضها الإئتلاف الحاكم مع المحكمة العليا لتقزيم صلاحياتها، له علاقة مباشرة بما يُبيّته نتنياهو وإيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش من مخطط لضم الضفة الغربية، أكثر مما يُثار من أهداف معلنة تتعلق بتطبيق إيديولوجية بن غفير وسموتيريتش في القضايا المحلية كالفصل بين الجنسين في وسائل المواصلات أو التضييق على المثليين. الأمر يتعلق بمسألة أبعد، وهي منع المحكمة من التدخل في قرارات تتخذها الحكومة سواء بترحيل فلسطينيين أو بتنفيذ حكم الإعدام بأسرى فلسطينيين أو بضم الضفة الغربية. خريطة سموتريتش ضمّت الأردن أيضاً إلى إسرائيل. صحيح أن المحكمة العليا لم تنصر في الماضي دعاوى رفعها الفلسطينيون، لكن المسألة هنا تعني الإسرائيليين أنفسهم، بين من يريد إسرائيل دولة “ديموقراطية” وأن هذا لا يتحقق إذا ما ضُمت الضفة الغربية، وآخرون يريدون الضم بأي ثمن.
مسار آخر إتخذه نتنياهو لإختبار إتفاق بكين، عبر تكثيف الغارات الجوية على سوريا وقصف مواقع يوجد فيها عناصر من الحرس الثوري. كانت محاولة إسرائيلية مكشوفة لإرغام طهران على رد يُظهر إيران بأنها غير جدية في إحترام إتفاق التطبيع مع السعودية. زيادة الضغط في الأراضي الفلسطينية ولا سيما التوتر في المسجد الأقصى وتصعيد القصف على أهداف في سوريا، هما الرافعتان اللتان إستخدمهما نتنياهو كي يعرقل مناخات المصالحة والصياغة الصينية للشرق الأوسط. لكن ما لم يدخل في حساباته أن تصعيده “المضبوط” غير آمن وأن جبهات أخرى قد تنفتح بما فيها لبنان، كما تبين بعد إطلاق الصواريخ من جنوب نهر الليطاني اللبناني على الجليل الأعلى يوم الخميس الماضي.
هذه التطورات دفعت أميركا إلى إرسال الغواصة “يو إس إس فلوريدا” التي تعمل بالطاقة النووية إلى الساحل الشرقي للمتوسط، في رسالة نارية متعددة الأبعاد، وفي الوقت نفسه، تدخلت واشنطن لدى تل أبيب لإحتواء التدهور، ومنع إندلاع حرب شاملة في الشرق الأوسط لا تريدها الولايات المتحدة في الوقت الذي تستعر فيه الجبهة الأوكرانية، والولايات المتحدة لن يكون في إمكانها تزويد حربين بالقوة النارية، في حال إنفلات الوضع في الشرق الأوسط.
الأوروبيون في بكين أيضاً
وبعيداً عن نبرة التهديدات والممارسات على الأرض، تبدو إسرائيل كمن يبحث عن مكان في “إتفاق بكين”، وتسعى إلى البعث برسائل نارية بأن الصياغة الجديدة للشرق الأوسط، لا يمكن أن تبقى هي خارج سياقاتها. لكن هذه السياسة محفوفة بالمخاطر وتجعل المنطقة برمتها برميل بارود، قابل للإشتعال في أي لحظة.
زيادة الضغط في الأراضي الفلسطينية ولا سيما التوتر في المسجد الأقصى وتصعيد القصف على أهداف في سوريا، هما الرافعتان اللتان إستخدمهما نتنياهو كي يعرقل مناخات المصالحة والصياغة الصينية للشرق الأوسط
لا يقتصر مناخ التصعيد على منطقة دون أخرى، فالصراع الصيني – الأميركي الذي إشتد أواره بعد الحرب الروسية – الأوكرانية، يُمكن تلمس تداعياته في المحيطين الهندي والهادىء كما في الشرق الأوسط وإفريقيا. كما أن الصين تُزاحم أميركا في قلب أوروبا. الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون المنهك من أيام التعبئة للنقابات في بلاده، إصطحب معه إلى بكين في وقت سابق من هذا الأسبوع رئيسة المفوضية الأوروبية وخمسين رئيس شركة فرنسية. لم تكن غاية ماكرون فقط مناقشة خطة السلام الصينية للأزمة الأوكرانية أو إقناع الرئيس شي جين بينغ بالضغط على “صديقه القديم” الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وإنما أيضاً إعطاء جرعة تنشيط للإقتصاد الفرنسي المُتعب. وقبل ماكرون بأيام، حلّ رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز ضيفاً على شي جين بينغ. ولم يستثنِ موسم الحج الأوروبي إلى الصين المستشار الألماني أولاف شولتس ورئيس المجلس الأوروبي تشارلز مايكل.
وأميركا بدورها لا تهدأ عن ممارسة سياسة التطويق السياسي والعسكري والإقتصادي للصين. قبل أيام، أعلنت الفيليبين أنها ستسمح للولايات المتحدة بإستخدام أربع قواعد عسكرية بينها واحدة في بحر الصين الجنوبي وأخرى غير بعيدة عن تايوان. ثم أتت خطوة إستقبال كيفن مكارثي للرئيسة التايوانية، برغم الضرر الذي ألحقته زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركية نانسي بيلوسي إلى تايوان في آب/أغسطس الماضي.
بعد يومين من زيارة شي جين بينغ لموسكو، طلب البيت الأبيض من بكين ترتيب قمة إفتراضية بين بايدن وشي جين بينغ. حتى الآن لم يحصل على جواب!