اللحظة اليلتسينية

أعتقد، أجدى بي القول أنني أميل إلى الاعتقاد، أن الجهة المسيطرة على الحكم في أمريكا، تساعدها جهة مماثلة في المملكة المتحدة، تسعى لتكرار مشهد تفكيك الاتحاد السوفييتي بخلق الظرف الضروري، وهو تحميل روسيا، سياسة واقتصاداً ورأياً عاماً، فوق ما تحتمل إلى حد ينتفي عنده دافع وجودها قوة عظمى.

إذا صح هذا الاعتقاد بالنسبة لروسيا فلعله يصح بالنسبة للصين، بمعنى العمل على إنهاك الصين سياسة واقتصاداً ورأياً عاماً بتحميلها فوق ما تحتمل إلى حد تعترف عنده بالرغبة في الانسحاب من لعبة احتلال موقع في قيادة العالم.

جدير بالذكر أن أمريكا، والغرب متحالفاً معها، لم تلجأ للسلاح النووي أو إلى غيره من أسلحة الدمار الشامل وكانت متوفرة لاختصار الزمن وفرض حالة أمر واقع جديد، بمعنى حذف روسيا من خريطة الصراع على النفوذ في العالم. هناك خطٌ لا يجوز تجاوزه بأن يقوم طرف بنفي وجود الطرف الآخر أو إضعافه إلى حد الفشل الكامل. إذ لا يخفى أن الأخطار الناجمة عن تجاوز هذا الخط تفوق بمراحل أي أخطار تتسبب فيها هزيمة تخضع لإشراف وقدر لا بأس به من تحكم الطرف الغالب في الصراع الدولي.

لا شك أن أمريكا كانت حريصة، على امتداد تطورات انحسار القوة السوفييتية، ألا تضعف روسيا أو تنهكها إلى حد يثير الفوضى. أدرك الجميع في ذلك الوقت أهمية التعاون لمنع انهيار روسيا حتى لو امتدت الشقوق إلى هياكل الحزب الشيوعي السوفييتي. لذلك لم يكن مفاجئا لمن تولوا دراسة المرحلة بعد فسحة من الزمن حقيقة أن أجهزة الاستخبارات الروسية خرجت بهياكلها وقواتها سليمة ولم يمسها ضرر يذكر، وغير خاف بالتأكيد فضل هذه الأجهزة على قيام روسيا الجديدة وحمايتها إلى يومنا هذا.

غير خاف هذا الفضل وغير خاف أيضا دور بوريس يلتسين في محاولة تخريب هياكل ومؤسسات وعقيدة الدولة. ينطبق على حالة يلتسين ما يقال عادة عن أنه لو لم يوجد هذا الشخص في هذا المكان أو الموقع لكان واجبا وضروريا البحث عنه وتدريبه لتولي قيادة روسيا نحو الهاوية التي تنتظرها. رجل بدون كفاءة تذكر ولا خلفية مناسبة ولا أخلاق أو قيم مقبولة ومتعارف عليها، سكير بعض يومه ومخرف في بعض آخر ولكن متهور أو مجازف عندما تعلق الأمر بخصومه في البرلمان أو غيره. هؤلاء تعرضوا للقصف من دباباته.

ينطبق على حالة يلتسين ما يقال عادة عن أنه لو لم يوجد هذا الشخص في هذا المكان أو الموقع لكان واجبا وضروريا البحث عنه وتدريبه لتولي قيادة روسيا نحو الهاوية التي تنتظرها

 بهذه المواصفات كان يلتسين رجل المرحلة بالنسبة للغرب وبخاصة لأمريكا. سمعته كخلفيته رشحته ليكون المعول الأقدر على تخريب النظام الاشتراكي السوفييتي بدون اللجوء للحرب. أفلح في ما لم يفلح فيه أو يرضى بتنفيذه الرفيق ميخائيل جورباتشوف. فجأة هبط على موسكو اقتصاديون من كبرى الجامعات الأمريكية ومراكزها البحثية ببرامج جاهزة للتنفيذ، جميعها يهدف إلى تفكيك القاعدة الأيديولوجية والإدارية للدولة الروسية وإحلال التطبيقات الرأسمالية محلها. وعلى الفور ظهرت طبقة من رجال المال تولت إدارة مؤسسات القطاع العام وتهريب أصولها المالية للخارج.

***

أتابع تطور الأحداث في روسيا وأوكرانيا وفي بعض دول حلفي وارسو والأطلسي، وأحاول فهم ما يفعل فلاديمير بوتين وما يفعل الأمريكيون والإنجليز. أستعيد من خلال هذه المتابعة مقولة التاريخ لا يعيد نفسه لأقرر أنه في هذه الحالة التي نعيشها، حيث تستعد أمريكا لإخراج كل من الصين وروسيا من سباق الهيمنة والنفوذ، التاريخ يكرر نفسه في أمور ويجدد أو يبتكر في أمور أخرى. أراه يتكرر في توافر النية الأمريكية لمحاصرة روسيا والصين واتخاذ كافة الإجراءات الممكنة لإنهاكهما تمهيدا لإخراجهما مبكرا من مواقع التفوق في صفوف القيادة. أراه يجدد ويبتكر في إدخال عنصر التهديد بشن الحرب المسلحة ضد الدولتين ولكن عن طريق طرف ثالث، كالحادث الآن في الحرب الأوكرانية الروسية والتصعيدات المرافقة لها، وكالترتيبات الجارية الآن لشن حرب ضد الصين إذا لم تفلح التعقيدات التي يضعها الغرب عن طريق العقوبات الاقتصادية والحرب الإعلامية. الجديد في دور التاريخ في صنع القوة المهيمنة هو إدراك الطرفين محل الهجوم الأمريكي لحقيقة أن أمريكا كمنافس دخلت مرحلة انحدار وأن بعض تصرفاتها إن لم تكن الغالبية العظمى منها تصدر متأثرة بهذا الوضع. صار معروفاً، على سبيل المثال، أنه لا يمكن فهم الاستقطابات السياسية والاجتماعية الخطيرة وحمى الإنفاق الرهيب على التسلح والتورم المخيف في حجم وثروات الشركات الضخمة والاتساع المتصاعد في فجوات اللامساواة في الولايات المتحدة إلا في إطار فهم الحال النفسية لنخب حاكمة في واشنطن تعيش في ظل هذا الانحدار.

يزداد بشكل خاص مع ما يتسرب في الصين عن قرارات وترتيبات داخل الحزب الشيوعي الصيني للتخلص من أي شخصية تحمل سمات شبيهة بسمات أي من الرئيسين جورباتشوف ويلتسين أو سمات شخصيات صينية أطيح ببعضها وسيطاح قريباً ببعض آخر بتهم تتراوح بين الفساد وعدم الكفاءة وسوء التصرف ونقص الولاء للحزب

أتصور أيضاً أن هناك في أمريكا، وبالتحديد حيث توجد وتنشط هذه الحلقة المغلقة المختصة بقراءة التاريخ بغرض تكرار بعض إنجازاته أو ابتكار الجديد، من يعتقد أن إنجازاً كبيراً تحقق عندما أتيح لأمريكا وللغرب عموماً شخصية سياسية في موسكو من نوع وحجم بوريس يلتسين. أعرف أن في واشنطن من يعتقد أن هذه الشخصية موجودة في كل أنظمة الحكم، وبخاصة الأنظمة غير الديموقراطية. أعرف تحديداً أن الاهتمام الأمريكي بوجود هذه الشخصية يزداد مع اقتراب موعد إعادة انتخاب الرئيس شي جي بينج في نهاية الخريف. يزداد بشكل خاص مع ما يتسرب في الصين عن قرارات وترتيبات داخل الحزب الشيوعي الصيني للتخلص من أي شخصية تحمل سمات شبيهة بسمات أي من الرئيسين جورباتشوف ويلتسين أو سمات شخصيات صينية أطيح ببعضها وسيطاح قريباً ببعض آخر بتهم تتراوح بين الفساد وعدم الكفاءة وسوء التصرف ونقص الولاء للحزب.

إقرأ على موقع 180  أوستن على رأس البنتاغون.. جدال حول "تسييس" العسكر

***

لا يمكن إنكار أن هذه الشخصية وجدوها في أوكرانيا. ساعدوها لتصعد إلى أعلى المراتب السياسية. وعندما وصلت اتخذت كل القرارات والسياسات اللازمة لتنفيذ مطالب أمريكا المعادية لروسيا. بمعنى آخر وضعت أوكرانيا في خدمة استراتيجية أمريكية تهدف لمنع روسيا من التوسع إقليمياً ولوقف طموحات فلاديمير بوتين في استعادة نفوذ روسيا في دول الجوار ومنع حلف الأطلسي من استمرار تغوله في مناطق ودول لم يدخلها من قبل. بكلمات أخرى طرحوا شعب أوكرانيا قرباناً على مذبح صراعات القمة. أوكرانيا تتألم وأوروبا تتألم والدول الفقيرة في كل أنحاء العالم تتألم وأمريكا مع رجلها المختار في كييف يحلمان بشخص في الكرملين يستعيد لروسيا سنوات الخنوع والمذلة، سنوات يلتسين في الحكم.

Print Friendly, PDF & Email
جميل مطر

كاتب ومفكر مصري مهتم بقضايا الإصلاح والتحول الديمقراطي

Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  18 في المئة يحسمون نتائج الإنتخابات الأمريكية.. من هم؟