ولادة شرق أوسط جديد من.. جدة؟

نافلة لهذا المقال: الربيع العربي انتهى! وحلم الديموقراطية في العالم العربي مؤجل إلى زمن غير معلوم.

سيقول أحدهم مبتسماً: نعرف هذا منذ زمن بعيد، ويطعمك الحج والناس راجعة! وسيقول آخر: التاريخ لا يتوقف والثورات موجات والتغيير قادم فلا تُرجفنا! وقد يكون كلاهما محقاً، لكننا نرى أن المصافحة بين الرئيس التونسي قيس سعيد والرئيس السوري بشار الأسد، بما تمثله تلك القوس بين أولى ثورات الربيع العربي وآخرها، وبين عودة الحكم المطلق إلى تونس مهد “الربيع” ومُنطلق شرارته، وقدرة الأسد على الحفاظ على حكمه بعد 12 سنة من اندلاع انتفاضة 2011، مصافحة ذات دلالة رمزية نعت ـ برأينا ـ الربيع العربي رسمياً!

ما حدث في القمة العربية من احتضانات، وما جاء بعدها من احتفاظ الرئيس التركي رجب طيب إردوغان بسلطته القوية في تركيا إثر انتخابات غير مسبوقة في حدة الاستقطاب، وشدة التنافس، وكثافة المشاركة فيها، وما سبقها من صمت الإسلام السياسي في العالم العربي عن اعتقال راشد الغنوشي (نيسان/ابريل الماضي)، وتقويض «حركة النهضة» في تونس وعودة الحكم الشمولي إليها بعد ربيع حزين دام عشر سنوات، كل هذا يعيد التأكيد على أننا شهود على تشكل شرق أوسط جديد، يُعلن عن ولادته مرة أخرى من السعودية، بعد إعلان الاتفاق السعودي الإيراني بالوساطة الصينية.

دعوة زيلينسكي إلى قمة جدة كانت أشبه بالقول: إننا ندعو الأسد يا بوتين، لكننا ندعو معه زيلينسكي. ونحن ندعو زيلينسكي يا واشنطن، ولكننا ندعو معه الأسد، أي أشبه بمحاولة القول: إننا يا واشنطن ويا موسكو في منتصف الطريق بينكما، ولن نكون تابعين لأي منكما!

لا يمكننا تجاهل الدلالات التي انطوت عليها استعادة سوريا مقعدها في الجامعة العربية في جدة بالتحديد، حيث حطت طائرة أول رئيس عربي يخلعه الربيع العربي (الرئيس التونسي زين العابدين بن علي، في كانون الثاني/يناير 2011). ترافقت تلك الاستعادة بحفاوة سعودية واضحة بالأسد، واستضافة للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، ومنحه منبر القمة العربية لمخاطبة القادة العرب، كل هذه التفاصيل جاءت لتؤكد أن قادة المنطقة يستعيدون عافيتهم مبتدئين مرحلة جديدة في ما بينهم، وفي ما بينهم وبين شعوبهم، وفي ما بينهم وبين القوى الدولية.

بين هؤلاء القادة العرب وبين شعوبهم رسالة واضحة وأخرى بانتظار اختباراتها. الرسالة واضحة: لقد انتصرنا وذهبت أحلام تغييرنا أدراج الرياح، وما جرى كان سحابة صيف ثقيلة للغاية.. والآن انتهت! الرسالة التي تنتظر اختبارات صعبة للغاية مفادها: سنعمل على التنمية وتحسين الصحة والتعليم وعليكم أن تنسوا السياسة! فبين البيان الختامي لقمة الجزائر الذي شدّد على ضرورة “إطلاق حركية تفاعلية بين المؤسسات العربية الرسمية وفعاليات المجتمع المدني بجميع أطيافه وقواه الحية، من خلال إيجاد فضاءات لتبادل الأفكار والنقاش المثمر والحوار البناء بهدف توحيد الجهود لرفع التحديات المطروحة بمشاركة الجميع”، وبين بيان جدة الذي شدّد على “تهيئة الظروف واستثمار الفرص وتعزيز وتكريس الشراكات وترسيخ التفاهمات بين دولنا على أساس المصالح المشتركة، والتعاون لتحقيق مستهدفات التنمية المستدامة وتنفيذ الرؤى التنموية الطموحة لدولنا من خلال نهضة شاملة في جميع المجالات لمواكبة التطورات العالمية وصناعة مستقبل يلبي آمال وتطلعات شعوبنا وبما يحقق المصلحة المشتركة والمنفعة المتبادلة لدولنا العربية”، تكمن الرسالة! لا مكان لمجتمع مدني ولا لبُعد شعبي في البيان، وإنما “صناعة مستقبل” و”نهضة شاملة” و”رؤى تنموية طموحة”! والأهم تأكيد الدور القيادي للسعودية عبر تثمين حرص الأخيرة واهتمامها بـ”كل ما من شأنه توفير الظروف الملائمة لتحقيق الاستقرار والنمو الاقتصادي في المنطقة”.

لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فإعلان جدة يتحدث بجرأة عن هوية عربية جامعة، وحماية للغة العربية تنطلق من السعودية، وإعلاء قيم التسامح والتنوع مع “الاعتزاز بقيمنا وعاداتنا وتقاليدنا الراسخة وبذل كل جهد ممكن في سبيل إبراز موروثنا الحضاري والفكري ونشر ثقافتنا العريقة؛ لتكون جسراً للتواصل مع الثقافات الأخرى”، فضلاً عن مبادرة “استدامة سلاسل امداد السلع الغذائية الأساسية للدول العربية”، و”مبادرة الثقافة والمستقبل الأخضر”، و”مبادرة البحث والتميز في صناعة تحلية المياه”، و”مبادرة إنشاء حاوية فكرية للبحوث والدراسات في الاستدامة والتنمية الاقتصادية”. الرسالة واضحة: لكم منا إصلاح اقتصادي وتنمية وحداثة لا تقطع مع هويتنا العربية وتقاليدنا وثقافتنا وعليكم أنتم أن تنسوا السياسة!

ربما كان إعلان جدة، بمثابة إعلان حقبة جديدة في المنطقة، بعد ظهور علامات ولادتها في الاتفاق الإيراني السعودي، والمصالحات التركية والخليجية والمصرية والإيرانية

أما بين القادة العرب وبين دول الجوار، فانتقل الخطاب من عموميات تحدثت عن علاقات طيبة مع المحيط الإسلامي والافريقي والأورو-متوسطي كما كان الحال في بيان قمة الجزائر، إلى ترحيب بتصحيح العلاقة مع إيران، وتنديد خجول بالتدخل التركي في الأراضي العراقية – بدا وكأنه مطلب عراقي – وصمت عن التدخلين التركي والإيراني في سوريا على حد سواء، وعن التدخل الإيراني في اليمن. في حين شدّد على “وقف التدخلات الخارجية في الشؤون الداخلية للدول العربية، والرفض التام لدعم تشكيل الجماعات والميليشيات المسلحة الخارجة عن نطاق مؤسسات الدولة”. كما أكد البيان على أولوية أهل البيت في توترات الإقليم من ليبيا إلى اليمن إلى سوريا إلى السودان والصومال ولبنان، بعيداً عن القرارات الأممية (باستثناء صغير مرتبط باليمن جاء في سياق تحقيق المبادرة الخليجية). إذاً لا مكان لأي خلافات بيننا، ولا بيننا وبين دول الإقليم. الاستثناء الوحيد إسرائيل: “لا مكان لإسرائيل في هذا الإقليم دون حل الدولتين”. فلغة البيان واضحة عند الحديث عن فلسطين، ولا مكان للتأويل هنا!

إقرأ على موقع 180  أزمة الإعلام اللبناني: كلّن يعني كلّن!

انسحب النهج الجديد للإقليم على الصعيد الدولي. فدعوة زيلينسكي إلى قمة جدة كانت أشبه بالقول: إننا ندعو الأسد يا فلاديمير بوتين، لكننا ندعو معه زيلينسكي. ونحن ندعو زيلينسكي يا واشنطن، ولكننا ندعو معه الأسد، أي أشبه بمحاولة القول: إننا يا واشنطن ويا موسكو في منتصف الطريق بينكما، ولن نكون تابعين لأي منكما! نحافظ على علاقتنا بكما لكن دون أي اصطفاف لا نستطيع تحمل أعبائه في هذا الشرق.

إذاً، ربما كان إعلان جدة، بمثابة إعلان حقبة جديدة في المنطقة، بعد ظهور علامات ولادتها في الاتفاق الإيراني السعودي، والمصالحات التركية والخليجية والمصرية والإيرانية. لم يكن هذا الإعلان إعلاناً عادياً، وعلى الأرجح ستتذكره الأجيال التي ربما لم تعره انتباهها راهناً، معتبرة أنه يشبه واحداً وثلاثين إعلاناً سبقوه.

هذا الإعلان أشبه بكونه “إعلان ولادة شرق أوسط جديد”، وقد يكون أهم ما فيه أنه يخرج من السعودية، أكثر البلدان العربية قدرة على قيادته!

Print Friendly, PDF & Email
زيدون الزعبي

باحث في قضايا الحوكمة، سوريا

Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  مَــوْجَة