مجلس صيانة الدستور أم صيانة السلطة؟ (1)

أدلى القاضي الياس مشرقاني أن المجلس الدستوري مؤتمن على مراقبة احترام القانون لأحكام الدستور، فلا يسعه أن يستنبط الأعذار والمبررات، ما يتيح للمجلس النيابي تجاوز النصوص الدستورية الآمرة، فالسلطة الإشتراعية ليست سيّدة نفسها إلاّ بقدر ما تلتزم أحكام الدستور، ومن هنا ضرورة ممارسة الرقابة عليها من القضاء الدستوري، الذي يتولى مهمة أساسية هي مراقبة دستورية القوانين وبالتالي يكون هو حامي الدستور.

لا يعوّل على القول بالمصلحة العامة في معرض النص الدستوري الصريح والواضح والقاطع والملزم (مخالفة القاضي الياس مشرقاني لقرار المجلس الدستوري رقم 2023/1 تاريخ 5 كانون الثاني/يناير 2023).

يجد هذا الرأي سنده في قرارٍ للمجلس الدستوري أرسى بمقتضاه قاعدة دستورية مفادها ان القانون لم يعد بحد ذاته العمل المعبر عن الإرادة العامة، اي ارادة الشعب، على ما كانت عليه القاعدة تقليديا، اذ ان هذه القاعدة اضحت، بفعل إنشاء المجلس الدستوري وفي ضوء غاية انشائه دستوريا وممارسته الفعلية لاختصاصه، “ان القانون لا يمثل الارادة العامة الا بقدر توافقه واحكام الدستور (م.د. القرار 2005/1 تاريخ 6 آب/أغسطس 2005) ومن هذا المنطق نادى فقهاء بضرورة استبعاد القوانين غير العادلة من نطاق القانون، تطبيقاً لقاعدة أن: “القانون غير العادل ليس بقانون” (Lex injusta non est lex) (جورجو فيكيو- فلسفة القانون في ايجاز- ترجمة ثروت الأسيوطي- مجلة القانون والاقتصاد العدد الرابع- 1961 ص758).

وبسبب هذا الدور الحمائي للمجلس الدستوري، لم تكن مراجعات الطعن بدستورية القوانين تخضع للنظام القضائي التقليدي القائم على تبادل اللوائح ولا التواصل مع النواب أو الوزراء المعنيين لمعرفة موقفهم من القانون المطعون فيه، ولا كان دور المجلس الدستوري التحري عن أسباب لكي نبرر للسلطة مخالفة الدستور، وما يؤسف له أن هذا الدور الحمائي أخذ بالتراجع ما دفع بالعضو السابق للمجلس الدستوري د. انطوان مسرة للتساؤل: “وهل لم يعد المجلس الدستوري السلطة القضائية العليا في تقرير دستورية القوانين؟ وهل أصبح القضاء الدستوري بعد اليوم في لبنان خاضعًا للسلطتين التشريعية والتنفيذية؟ وهل يجوز بعد اليوم للقضاء في لبنان “عدم التصدي” لـ”القضايا الشائكة” في حين يُطالب الناس بمكافحة الفساد في أعلى القمة”؟ (د. انطوان مسرة، لغة جديدة للعدالة في لبنان، جريدة النهار 29 تشرين الثاني/نوفمبر 2019).

قانون تمديد ولاية مجلس النواب هو قانون صادر خارج صلاحية مجلس النواب، ويحتاج هذا النوع من القوانين لتعديل دستوري بحيث يدخل الدستور ضمن صلاحية مجلس النواب تمديد ولايات المجالس المنتخبة، وبغياب النص الدستور المفوّض، يكون قانون التمديد صادراً عن سلطة غير مختصة وكان يجب إبطاله لهذه العلة

وكانت الصدمة بتسليم عضو المجلس الدستوري الراحل الياس بو عيد، بأن: «الدستور وُجد كي يُغتصب لأنه لا يصرخ” (مخالفة بو عيد لقرار المجلس الدستوري رقم 23 على 2019 تاريخ 12 أيلول/سبتمبر 2019)، ولأنه لا يصرخ صدر قرار المجلس الدستوري الأخير رقم 2023/6 تاريخ 30 أيار/مايو 2023 الذي ردّ مراجعة إبطال القانون رقم 310 تاريخ 19 نيسان/أبريل 2023 (التمديد للمجالس البلدية والاختيارية)، مخالفاً بذلك الأسس التي سبق أن أرساها هذا المجلس عند البت في الطعون المتصلة بدستورية القوانين، ونستعرض في هذه المقالة مخالفة واحدة من بين ثلاث مخالفات في هذا القرار، على أن أتطرق إلى المخالفتين الثانية والثالثة في الجزء الثاني والأخير من هذه المقالة:

المخالفة الأولى:

إن المجلس الدستوري لم يناقش مسألة أن تمديد ولاية المجالس المحلية هو خارج اختصاص مجلس النواب:

بالفعل لم نقرأ في قرار المجلس الدستوري رقم 2023/6 أي مناقشة لمسألة ما إذا كان يدخل ضمن صلاحية مجلس النواب التشريع في مسألة استبدال الانتخاب بتمديد ولاية المجالس القائمة، وهذا يعدّ ثغرة كبرى ذلك أن المشترع لا يشرّع في كافة الميادين وكيفما شاء، بل صلاحيته مقتصرة على المواضيع المحفوظة له بالدستور، فهل يصحّ مثلاً تعيين رئيس جمهورية بموجب قانون في حالة العجز عن انتخاب رئيس، وهل يصحّ بقانون تحويل حكومة تصريف الأعمال الحالية إلى حكومة تمارس كافة صلاحياتها؟

الجواب بالنفي طبعاً، فهي أمور تخرج عن صلاحية مجلس النواب، لأنه وإن كان الدستور قد حصر بمجلس النواب وحده سلطة الاشتراع، فان المجلس في ممارسته لهذه السلطة يبقى مقيداً باحترام الدستور والمبادئ والقواعد ذات القيمة الدستورية (القرار رقم 2005/1 تاريخ 6 آب/أغسطس 2005)، وبموجب هذه الحيثيات الأخيرة يكون المجلس الدستوري، قد تجاوز الشروط الشكلية لصحة القانون، لينظر في جوهر هذا القانون، ويقرر أنه لا يكون القانون قانوناً إلا إذا توافق وأحكام الدستور والمبادىء العامة ذات القيمة الدستورية، كما أن المجلس الدستوري الفرنسي كان قد سبقه في ذلك أيضاً عندما استعمل في أحد قراراته الحيثية الآتية (C.C.no 197 DC du 23 août 1985):

La Loi votée, ..n’exprime la volonté générale que dans le respect de la constitution.

وبفضل هذه القاعدة الجديدة التي أرساها المجلس الدستوري، فإن الديموقراطية لم تعد تُظهَّر من خلال إرادة الأغلبية في مجلس النواب بإقرار القوانين، وإنما يكون من الضروري واللازم قبل ذلك أن تكون هذه الأغلبية النيابية قد تقيَّدت بالأحكام والمبادئ الدستورية (م.د. القرار رقم 1997/2 تاريخ 12 أيلول/سبتمبر1997 الصادر في الطعن بالقانون رقم 655 تاريخ 24 تموز/يوليو 1997) واستناداً إلى هذا التحليل القانوني أعلن المجلس الدستوري وبجرأة صريحة وواضحة: “أن المجلس الدستوري.. يساهم في شكل فاعل وحاسم، ضمن الآلية والقواعد والاصول التي ترعى اختصاصاته، في استخراج التعبير الأمثل والادق والاصح والاصدق عن ارادة الشعب الذي هو مصدر السلطات وصاحب السيادة في النظام السياسي… (م.د. قرار رقم 2005/1 تاريخ 6 آب/أغسطس 2005)”. فالأمة لم تولي السلطة المشترعة حرية عملٍ لا حدود لها، كما لا يُسمح لهذه الأخيرة باسم إرادة الأمة نفسها أن تتجاوز على النصوص الدستورية بواسطة القوانين. وإذا ما فعلت فإنها تكون قد تجاوزت سلطتها، وهذا التجاوز على أحكام الدستور هو تجاوز لميثاق الأمة ومعارضة لإرادة الشعب الممثلة فيه، التي على السلطات الثلاث احترامه والتقيد به تحت طائلة بطلان أعمال هذه السلطات المخالفة لنص الدستور أو روحه (فوزي غازي- الرقابة على دستورية القوانين- العدل 1967- العدد الأول ص67).

إقرأ على موقع 180  كذبة السيادة.. وأولاد الجرائم المتبادلة!

واستناداً إلى هذه المبادئ، قضى المجلس الدستوري بأن لمجلس النواب حق الولاية الشاملة في التشريع، وذلك ضمن الحدود التي عينها الدستور، ولهذا أبطل القانون الذي أجاز بصورة استثنائية ولمرة واحدة، اختيار شيخ العقل الدرزي باجماع النواب الدروز الحاليين، معتبراً بأن المشترع لم يكتف بأن عيَّن بنفسه الهيئة التي تتولى امر اختيار شيخ العقل وهي بالاصل، هيئة منتخبة وفقاً لقوانين الطائفة المرعية الاجراء بل اولى هذه الهيئة المعينة، من جهة ثانية، أمر اختيار شيخ عقل الطائفة الدرزية فيكون بذلك قد تجاوز حدود صلاحياته الدستورية، واحل نفسه محل مؤسسات الطائفة الدرزية، واطاح باستقلالية هذه الطائفة الذاتية، وبمبدأ الانتخاب في تكوين مؤسسات هذه الطائفة خلافاً للدستور، ودون ان يتوفر اي ظرف استثنائي يبرر خرق الدستور (م. د. قرار رقم 2000/2 تاريخ 8 حزيران/يونيو 2000).

كذلك فإن المجلس الدستوري قضى بأن: “قيام السلطة المشترعة، دون اية اجازة دستورية، بكف يد المجلس الدستوري عن النظر بالمراجعات الواردة اليه، تحت اية ذريعة كانت، انما يقع باطلاً بطلاناً كلياً لانه يؤدي الى طغيان سلطة دستورية على اخرى وتعطيل عمل سلطة دستورية مستقلة بفعل سلطة دستورية اخرى، وأنه يؤلف تجاوزاً للمبادئ والنصوص الدستورية في حين لا يعود لاية سلطة دستورية الخروج عن الدستور واحكامه ومبادئه” (القرار رقم 2005/1 تاريخ 6 آب/أغسطس 2005)، فإذا كان كف يد سلطة منبثقة عن الشعب صاحب السيادة ومصدر السلطات هو خرق للدستور، ألا يكون من الأولى القول بأن كف يد الشعب عن الانتخاب هو أصلاً شأن لا علاقة لمجلس النواب به ولا يصحّ له تقريره.

من خلال هذا التحليل نخلص للقول أن قانون تمديد ولاية مجلس النواب هو قانون صادر خارج صلاحية مجلس النواب، ويحتاج هذا النوع من القوانين لتعديل دستوري بحيث يدخل الدستور ضمن صلاحية مجلس النواب تمديد ولايات المجالس المنتخبة، وبغياب النص الدستور المفوّض، يكون قانون التمديد صادراً عن سلطة غير مختصة وكان يجب إبطاله لهذه العلة.

(*) غداً؛ الجزء الثاني والأخير

Print Friendly, PDF & Email
عصام نعمة إسماعيل

أستاذ مادة القانون الدستوري في الجامعة اللبنانية

Free Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  إسرائيل تُحدِّث خططها الحربية.. ماذا بعد الإنتخابات الأميركية؟