ما يحدث في فرنسا منذ شهور عديدة تجاوز حدود احتمال الطبقة السياسية الأوروبية بفرعيها الحاكم والمعارض. يخشون في ألمانيا وإيطاليا وإنجلترا أن تمتد يد الغضب العنيفة ومشاعر الكره الملتهبة إلى بلادهم، وكلها بدون استثناء لم تقم بواجب الإدماج الفعال لأعداد هائلة من المهاجرين واللاجئين، ويتضح الآن أن هذا الإدماج لم يتحقق حتى لأبناء وبنات الجيلين الثالث والرابع بين هؤلاء المواطنين قانوناً والغرباء اجتماعياً وسياسياً.
***
أعرف، كما يعرف مراقبون كثيرون، أن انتشار ثم تمدد هذا الغضب وهذه الأفعال إنما يعني، بين ما يعني، أن القلق عاد ليهيمن على أحوال شعوب كثيرة ويؤثر في مقدراتها ويعرضها لأخطار ومخاطر جمة. دوافع القلق متعددة ولكننا في هذه الأيام بصدد ظاهرة ليست فريدة في سجلات التاريخ السياسي بل متكررة وربما مثيرة للجدل أكثر من غيرها من ظواهر الاضطراب في تاريخ تطور الأمم. أنا أقصد تحديداً ظاهرة عدوى القلق. راقبتها تتوسع انتشاراً في أعقاب التطور غريب الشأن الذي وقع في السودان.
مبرر القلق الصيني، إن تكشف لنا حجمه الحقيقي، يكمن في أن غياب “فاغنر” عن إفريقيا يتسبب في فراغ قد تجرب ملئه من هي أسوأ من “فاغنر” في مرحلة قادمة، ومن غير المستبعد أن تشهد المرحلة القادمة صراعاً لن يخلو من عمليات كسر عظام بين قوى السباق الجديد على إفريقيا
لا يخفى الأثر المباشر لأحداث السودان على جيرانها كافة. سمعتُ رئيس كينيا يتكلم عن السياسة في بلده فيُعبّر بصدق وإدراك عن القلق السائد في كل إفريقيا والمتراكم نتيجة عدد من التطورات العالمية منها مثلاً السباق الاستعماري الثاني على إفريقيا وقد بدأ بين أطراف لها تاريخ طويل وقديم في إذلال شعوب القارة ونزف مواردها وإجهاض أي أمل في نهوض القارة. بدأ محدود الأطراف، وفي غالبيتها أطراف أوروبية، وانتقل إلى وضع جديد حين انضمت إلى المتسابقين التقليديين دول كالصين وروسيا وغيرهما عيونها وخططها للمستقبل تنحو إلى المشاركة في صنع نظام دولي جديد، أو كالولايات المتحدة وبعض شركائها تنحو إلى وضع العراقيل أمام هكذا تطور.
أعود إلى فرنسا في معسكر الغرب، أو في معسكر الشمال بدقة أكبر. لم يكن سراً معلناً على موائد قمم الكبار كالسبعة وكالعشرين وشمال الأطلسي أن فرنسا الشريك في جميع خطط الغرب الاستعمارية والتوسعية باعتبار خبرتها الطويلة في التوسع وباعتبار رمزيتها كصاحبة امتياز لجميع علامات وشعارات الديموقراطية والحقوق والحريات والمساواة وبالتالي كنموذج مبهر لازدواجية المعايير، عادت تتصرف بارتباك واضح وربما كانت تتخبط أو على الأقل هذا ما أوحت به مجمل تصريحات ومواقف وخطابات رئيسها إيمانويل ماكرون وحكومته في الأسابيع الأخيرة، كلها مجتمعة أو أي منها منفرداً، تسبب في بث قلق شديد يهيمن الآن على تطورات الأحوال في مختلف مستعمرات فرنسا السابقة في شمال إفريقيا ومنطقة الساحل وفي لبنان بخاصة. وما الحادث الآن في مالي ودول أخرى في غرب إفريقيا إلا إضافة وتثبيت لآثار سياساتها الخارجية المرتبكة. فات على المسئولين الفرنسيين ولم يفت على المسئولين في دول كثيرة في الاتحاد الأوروبي كما في إنجلترا أن مكانة فرنسا تراجعت ولهذا التراجع أو الانحدار آثاره المباشرة على استقرار حكومات خضعت بعض الوقت أو كل الوقت للهيمنة الفرنسية. له أيضاً آثار على صراع السياسة داخل اجتماعات وائتلافات دول الاتحاد الأوروبي، هنا أيضا يبدو واضحاً ومضطرباً في آن صعود صوت خضر ألمانيا من جهة وجورجينا الإيطالية من جهة أخرى.
لا شك في أن أحد أهم مصادر القلق الذي يهيمن في اللحظات الحرجة التي نعيشها هذه الأيام، إلى جانب عدوى القلق السائد في أوروبا، الأحداث المثيرة التي وقعت في دهاليز سلطة الكرملين والمؤسسات التابعة له ومنها المؤسسة العسكرية. أزعم أن القلق، الذي أعقب تحرك قوات “فاغنر” على الطريق من حيث كانت تواجه قوات أوكرانيا إلى حيث راحت تواجه قوات الكرملين على بعد ألف كيلومتر، أصاب بالارتباك الشديد أجهزة صنع القرار في واشنطن. لا أظن أن واشنطن كانت قد أعدت عدتها لمثل هذه الحالة من القلق، وأظن أن أنتوني بلينكن ومايكل بيرنز كلاهما كان صادقاً إلى حد كبير عندما أنكر ضلوع أمريكا في قضية “فاغنر” بالذات. نعم هي لا بد ضالعة في ترتيبات عديدة ولكن ليس بينها المجازفة بصنع وضع غامض في موسكو يقوده زعيم غامض لا يعلم إلا القليل عن مخزونات الأسلحة النووية وعواقب إشعال حروبها. كان الهدف ولا يزال وسوف يبقى إضعاف فلاديمير بوتين والعودة بروسيا في أفضل الأحوال إلى أروع أيام روسيا (الأمريكية)، أقصد روسيا في أيام حكم الرئيس بوريس يلتسين الفاقد الوعي معظم الوقت والمحاط دائماً بثلة من خبراء الاقتصاد الأمريكيين وبعض أساطين النهب الذين اشتروا أو تصرفوا في القطاع العام الروسي بأبخس الأثمان.
في ذلك الحين لم تكن الصين قد تطورت اقتصادياً وسياسياً إلى وضع يجلب لقادتها وشعبها القلق. قليلون في خارج الصين الذين استطاعوا الإحاطة بحجم القلق الذي تعرض له قادة الصين خلال أيام عملية “فاغنر”. قادة الصين يعرفون “فاغنر” لأنها الميليشيا التي تنافسهم في دول إفريقية زاخرة بفرص الاستثمار في المواد الخام. تتفوق الصين بقدرات التمويل وتتفوق “فاغنر” بقدرات الحماية الشخصية للحكام وثرواتهم وممتلكاتهم. مبرر القلق الصيني، إن تكشف لنا حجمه الحقيقي، يكمن في أن غياب “فاغنر” عن إفريقيا يتسبب في فراغ قد تجرب ملئه من هي أسوأ من “فاغنر” في مرحلة قادمة، ومن غير المستبعد أن تشهد المرحلة القادمة صراعاً لن يخلو من عمليات كسر عظام بين قوى السباق الجديد على إفريقيا.
في عالم يتزايد فيه وينتشر بالعدوى وبغيرها الشعور بالقلق صرت أحياناً أرى القلق حافزاً وليس عائقاً. أراه يؤذن بقرب ولادة عالم جديد كفعل القلق المصاحب لأي عملية ولادة، وفي الشرق الأوسط أراه في انتشاره وتمدده يوحي بقرب انطلاق تجربة “إقليمية جديدة”
***
هنا في الشرق الأوسط لا يختلف حال القلق السائد عن حاله في إفريقيا. القلق في الشرق الأوسط، بعضه مثل القلق الإفريقي مستمد من أو معتمد على القلق في أوروبا. إلا أنه أشد لأسباب ثلاثة على الأقل:
أولاً؛ امتداد عدوى القلق في دول في الشرق الأوسط تحتل مواقع حرجة من الناحية الاستراتيجية مثل تركيا ومصر والخليج.
ثانياً؛ وجود قضية ساخنة عصية على التسوية العاجلة والدائمة والمشرفة لكل أطرافها.
ثالثاً؛ فشل تجارب التنمية والتكامل والنهوض في معظم دول الإقليم متسبباً في موجات متدفقة ومتجددة من جماهير القلق.
***
في عالم يتزايد فيه وينتشر بالعدوى وبغيرها الشعور بالقلق صرت أحياناً أرى القلق حافزاً وليس عائقاً. أراه يؤذن بقرب ولادة عالم جديد كفعل القلق المصاحب لأي عملية ولادة، وفي الشرق الأوسط أراه في انتشاره وتمدده يوحي بقرب انطلاق تجربة “إقليمية جديدة” تغذي ولا تضعف الإقليميات القومية التي بذرت بذورها في نهايات الحرب العالمية الأولى، تجربة أراها وهي ملتزمة القلق تسعى لتصحيح ظلم فظيع بعضه فرض على الإقليم من خارجه وأغلبه فرض من داخله. تسعى أيضاً لتحقيق هدف الحصول على وضع مستحق لدول الإقليم في تراتيب العالم الجديد ومراتبه.