من يصنع الشرق الأوسط الجديد؟ 

ثمة تطورات مهمة يشهدها العالم وتطورات أكثر أهمية يشهدها الشرق الأوسط؛ مع ما لها من تأثيرات جيوسياسية وجيواقتصادية على مساحة التوازنات الدولية؛ أخذاً في الإعتبار أن منطقتنا تُقيم فوق رمال ساخنة متحركة منذ مائة سنة حتى يومنا هذا. 

في مرحلة ما بعد “جائحة كورونا” دخل المجتمع الدولي في حرب عالمية تختلف عن الحروب السابقة. إنها حرب عالمية علی مقاس الألفية الثالثة. لاجئون إما بسبب الحروب أو الأزمات الإقتصادية أو الكوارث الطبيعية أو العنف السياسي أو الصراعات والحروب الأهلية حتی وصل عدد اللاجئين في العالم إلی أكثر من 120 مليون شخص!

ماذا عن مواصفات هذه الحرب العالمية؟

أزمات إقتصادية تؤدي إلى التضخم والركود الإقتصادي والجوع (والتجويع) وتقلص الموارد. جائحة وأوبئة اختلف فيها وعليها العلماء، ولا سيما إذا كانت مختبرية أم طبيعية؟ لقاحات لإنقاذ البشر أم لإبادتهم وإذلالهم أم لتحقيق أرباح للشركات العابرة للقارات؟ حروب هنا وهناك وأخری محتملة.. وتأزيم في هذه المنطقة وتوتر في أخری.

هذا هو العالم اليوم دون الدخول في مصاديق هذه التطورات لكن المجتمع الدولي وشعوب الكوكب تعيش في ظل هذه الأجواء. هل نحن فعلاً نعيش في أجواء حرب عالمية؟ الإجابة بكل بساطة نعم؛ ولكن علی مقاسات هذا القرن وآلياته وتطور معلوماته ووسائل اتصاله وحروبه الإلكترونية والسيبرانية والجرثومية.

علّمتنا التجارب أن الحروب عادة ما تفضي إلى تفاهمات وتقسيم المغانم من قبل المنتصرين علی حساب الخاسرين؛ وغالباً ما تكون هذه المغانم هي الأرض وإعادة ترسيم الحدود علی أساس مواردها. هذا ما حصل إثر الحربين العالميتين الأولی والثانية وما انتهت إليه حروب إقليمية تنازع أصحابها علی أراضٍ أو مياه أو موارد مختزنة، الأمر الذي يدعو للإعتقاد أن العالم يتغير، وأن النظام العالمي الذي كان يحكم المجتمع الدولي لم يعد قادراً اليوم علی مواءمة الظروف الجديدة، حتی أن مجلس الأمن الدولي الذي تأسس علی خلفية الحرب العالمية والذي أخذ علی عاتقه مهمة صون الأمن والسلم الدوليين لم يعد الآن قادراً علی إدارة اجتماعاته وضبط إيقاعات أعضائه الدائمين الذين أنيطت بهم مهمة حماية السلم العالمي!

زدْ على ذلك أن المجتمع الدولي لم يعد يبالي بمجلس الأمن والأمم المتحدة التي فقدت بريقها وهيبتها ولم تعد قراراتها تُرهب الآخرين ولا أحد يعلم كيف ومتی وأين يجتمع مجلس الأمن بكامل أعضائه لتدعيم الأمن والسلام الدوليين!

لقد بات الجميع في هذه المنطقة مقتنعاً بضرورة تبريد الملفات الساخنة ومحاولة صياغة منظومة مصالح تجعل المنطقة تتقدم وصولاً إلى التكامل الإقتصادي والأمني والسياسي

تدريجياً تلاشت أبرز وأقوی آليات النظام العالمي السائد منذ ثمانية عقود تقريباً، فهل نحن أمام نظام عالمي جديد؟ مرة أخری يتفق الجميع على الإجابة بنعم. لكن ما هي أبرز ملامح هذا النظام في جوانبه الإقتصادية والسياسية والأمنية؟ وكيف سيُرتّب أوراقه وقواعده؟ ومن هم أبرز لاعبيه؟ أعتقد أنه من الصعب الإجابة علی هذه الأسئلة راهناً لأن ذلك يعتمد أيضاً علی طبيعة وأفكار اللاعبين الجدد الذين يستعدون للدخول إلى الملعب، لكن الأكيد أن العالم على عتبة متغيرات جديدة.

مناطق متعددة تقف علی أعتاب هذا النظام الجديد وتتطلع إليه. في إفريقيا. الشرق الأوسط.. أمريكا الجنوبية، حتی في أوروبا التي تغيب شمسها تدريجياً لمصلحة قوى جديدة ناشئة في آسيا وإفريقيا.. لم تعد قمة جوهانسبورغ في إفريقيا الجنوبية حدثاً عابراً في هذا الوقت سواء دعماً لمجموعة “البريكس” أو للتلويح بالتعددية القطبية؛ وبالتالي دعم العملات المحلية علی حساب العملات المهيمنة علی الإقتصاد العالمي طيلة العقود الماضية.

وكان لافتاً للإنتباه انضمام دول في منطقة الشرق الاوسط كالسعودية والإمارات وإيران ومصر إلى مجموعة “البريكس” التي تتزعمها “دول شريرة”، حسب التعبير الأمريكي، والمقصود بذلك الصين وروسيا. كما أن خط الهند ـ أوروبا يجب أن يؤخذ في الإعتبار سياسياً وليس إقتصادياً؛ إلی جانب “مبادرة الحزام والطريق” الصينية وآلياتها الإقتصادية بهدف خلق نظام إقتصادي عالمي جديد على أنقاض النظام العالمي الحالي.

في ظل هذه الأجواء إلی أين تتجه منطقة الشرق الأوسط؟ هل ستشهد ولادة نظام أو نظم إقتصادية أمنية سياسية جديدة؟ هل نحن أمام نظام إقليمي جديد؟ العديد من المؤشرات تشي بالإيجاب. صحيح أن المشاكل التي تعاني منها دول المنطقة كثيرة ومتعددة لكن الصحيح أيضاً أن عديد دول المنطقة تنظر إلى المستقبل وما سيفرزه من نظام إقليمي نظرة استشرافية وتستعد للإنخراط فيه بدلاً من الوقوف في موقع المتفرج أو المتلقي.

نعم، تشهد المنطقة خططاً تنمويةً طموحة لم تشهد مثيلاً لها منذ قرن من الزمن على الأقل. دول تشهد تطوراً مذهلاً ومبهراً في مجال الحوكمة والتكنولوجيا الذكية والمعرفة.. ودول أخری تبرع في مجالات الصناعة والتجارة وثالثة تتطلع إلی ألفية جديدة من العلوم والسعادة والإزدهار.

لقد بات الجميع في هذه المنطقة مقتنعاً بضرورة تبريد الملفات الساخنة ومحاولة صياغة منظومة مصالح تجعل المنطقة تتقدم وصولاً إلى التكامل الإقتصادي والأمني والسياسي.

إقرأ على موقع 180  الشّعور الفردي.. السلاح الحقيقي للغرب! (2/2)

إرهاصات من هنا وهناك ستصب في خانة رسم ملامح جديدة للنظام الإقليمي الجديد في الشرق الأوسط. من يرسم هذه الملامح؟ إنها المصالح المشتركة والإيمان بالتكامل الإقتصادي والإجتماعي والسياسي والأمني بوصفه ممراً إلزامياً لولادة شرق أوسط جديد، حتماً ليس على طريقة الشرق الأوسط الذي وعدتنا به وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كوندوليسا رايس!

([email protected])

Print Friendly, PDF & Email
محمد صالح صدقيان

أكاديمي وباحث في الشؤون السياسية

Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  أزمة "كورونا" والتسليح.. تصفير ميزانية الدفاع الأميركية؟