عندما بدأت الرياض إنعطافة مفاجئة نحو طهران في آذار/مارس الماضي برعاية صينية، ثم انفتحت على دمشق وصنعاء، ساد اعتقاد بأن ذلك يتعلق بتهدئة للنزاعات الإقليمية المريرة بينها وبين الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي امتدت تقريباً من بداية انتصار الثورة في طهران عام 1979 إلى تاريخه. لكن اتضح أن الرؤية السعودية أوسع بكثير. وسيتضح مع الوقت أن طهران كانت مجرد بداية وضرورة لا بد منها بالنسبة للسعودية لانعطافة كبرى.. نحو إسرائيل.
من المنطقي الإفتراض بأن التطبيع مع إيران والإنفتاح على حلفائها كان ضرورة سعودية في إطار سياسة جديدة تهدف إلى تصفير المشاكل لتمهيد الأرضية الإقليمية أمام تنفيذ رؤية 2030، لكن الصورة تبدو غير مكتملة من دون النظر إلى موقع إسرائيل في الإستراتيجية التي يقودها ولي العهد السعودي. وعلى ذلك، سيكون من الصعوبة بمكان أن يتوجه الأمير محمد بن سلمان نحو إقامة علاقة علنية مع إسرائيل من دون أن يعقد صلحاً مع إيران يؤمّن فيه ظهره من الخارج، في وقت يقوم فيه بتغييرات هائلة في الداخل تأكل من شرعيته الإسلامية في نظر نُخب دينية عدة، بينما يبقى ملف الحريات السياسية مثار جدل. ويُعتقد أن التوجه نحو إسرائيل من دون ترتيب العلاقة مع إيران وحلفائها كان سيجعله مكشوفاً أمام انتقادات واسعة قد تأكل من رصيد المملكة في العالم الإسلامي، في شكل قد يكون أسوأ مما تعرَّض له أنور السادات عند توقيع كامب ديفيد عام 1978. وهنا، لا يمكن مقارنة مكانة السعودية بمكانة الإمارات العربية المتحدة التي سبقت المملكة إلى التطبيع مع إسرائيل، فالإمارات ليس لها زعامة دول الخليج وخدمة الحرمين الشريفين، وبالتالي ليس لديها الكثير لتخسره من شرعيتها الدينية أو القومية.
ثمة إنطباع أن التطبيع الإسرائيلي – السعودي كان هدفاً مركزياً للإدارة الاميركية منذ عهد دونالد ترامب، ولم يزل أيضاً دأب إدارة جو بايدن، لأن ذلك ركن أساسي في الترتيبات الإقليمية التي تُعدّها واشنطن لمرحلة تُخفّف فيها حضورها المباشر في المنطقة وتُلقي بعض الأعباء على تكتلات تعمل لتوليفها، من أجل أن تفرّغ مزيداً من الجهود والموارد لمواجهة الصين التي تزحف بالمشاريع والشركات بالتدريج إلى المنطقة وإلى مناطق أخرى حول العالم. وجاء الإعلان عن مشروع ممرّ بايدن الإقتصادي ليخدم الهدفين معاً: ربط دول عدة بإسرائيل، وإقامة تكتل إقتصادي واسع يقطع الطريق على مشروع “الحزام والطريق” الصيني.
وقد تجاوبت الرياض مع المساعي الأميركية وبدأت عمليات تطبيع بمستوى منخفض إلى متوسط: إستقبال رجال دين وصحفيين ورجال أعمال إسرائيليين، ثم وزراء إسرائيليين يشاركون في مؤتمرات دولية على الأرض السعودية (نموذج زيارة وزير السياحة الإسرائيلي في الأيام الماضية)، وقبلها شراء برنامج “بيغاسوس” للتجسس من إحدى الشركات الإسرائيلية، وهو المسار نفسه الذي اتبعته دولة الإمارات قبل توقيعها اتفاقيات ابراهام في 15 أيلول/سبتمبر 2020. كما التقى مسؤولون سابقون من الجانبين علناً، وتم فتح الأجواء السعودية أمام الطائرات الاسرائيلية المتوجهة إلى البحرين وبلدان أخرى في جنوب وشرق آسيا. وترددَ أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو زار سراً السعودية في تشرين الثاني/نوفمبر 2020 والتقى ولي عهدها بحضور وزير الخارجية الأميركي آنذاك مايك بومبيو، لكن وزير الخارجية السعودي قال يومها إن اللقاء اقتصر على مسؤولين أميركيين وسعوديين. وسبق أن أسقطت السعودية المقاطعة الإقتصادية لإسرائيل من الدرجتين الثانية والثالثة بهدف الإنضمام إلى منظمة التجارة العالمية.
التطبيع السعودي مع إسرائيل أصبح على سكة التنفيذ فعلياً، ويستلزم وقتاً لمنحه الطابع الرسمي على ضوء مفاوضات تدور خلف الستار. لكن العقبة الماثلة تكمن في “الأجندة” الداخلية للجانب الإسرائيلي الذي لا يبدي أية مرونة حيال الطموحات المشروعة للشعب الفلسطيني، حيث أنه شطَبَ مشروع الدولة الفلسطينية من قاموسه نهائياً
البوابة الفلسطينية
مع ذلك، يستلزم العبور السعودي إلى إسرائيل جواز مرور عبر البوابة الفلسطينية. هذه حال كل من أقام علاقات مع إسرائيل من قبل: فاتفاقيات كامب ديفيد التي وقّعها أنور السادات في أيلول/سبتمبر 1978 تحدثت عن “إجراء مفاوضات مستقبلية بين مصر وإسرائيل والأردن وممثلي الشعب الفلسطيني من أجل إقامة نظام حكم ذاتي فلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة”، واتفاقية الامارات مع إسرائيل في أيلول/سبتمبر 2020 تناولت “تعليق” مشروع ضم مستوطنات الضفة الغربية إلى إسرائيل، أما ما يدور من تسريبات عن الإتفاق بين السعودية وإسرائيل فيشير إلى “تحسين نوعية حياة الشعب الفلسطيني”. ويُلاحَظ في ذلك كله هبوط السقف العربي في الشق الفلسطيني من دعم إقامة حكم ذاتي (وليس دولة مستقلة)، إلى تعهد إسرائيلي بتعليق ضم مستوطنات الضفة (وليس وقفه تماماً أو تفكيك المستوطنات للسماح بإقامة دولة فلسطينية)، الى تحسين حياة الشعب الفلسطيني، مما يعني أنه تم اختصار القضية في ترتيب الوضع المعيشي للفلسطينيين المحاصرين في الضفة والقطاع.
إضافة إلى ذلك، جرى الحديث عن ضرورة تحديث “المبادرة العربية للسلام” التي طرحها ولي العهد السعودي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز في قمة بيروت العربية عام 2002، وسبقها “مشروع السلام العربي مع إسرائيل” الذي قدّمه ولي العهد السعودي الأمير فهد بن عبد العزيز في قمة فاس العربية في أيلول/سبتمبر 1982. وبقي تحديث المبادرة عنواناً غامضاً، لكن الرياض باشرت اتصالات مع السلطة الفلسطينية بعد جفاء، وعيّنت سفيراً غير مقيم في رام الله، وأرفقت ذلك بوعود إنفاق على مساعدات ومشاريع في الأراضي الفلسطينية التي تمر بضائقة إقتصادية ملحوظة. وستعمل الرياض كي تضمن فترة معقولة من الهدوء في الضفة الغربية وقطاع غزة بما يوفر الأجواء المناسبة لتمرير التطبيع مع إسرائيل رسمياً.
الأهداف والموانع
بيدَ أن العنوان الفلسطيني ليس أكثر من ساتر مرحلي لسياسات تخدم توجّه “السعودية أولاً” ومنطق ولي العهد السعودي الذي يقوم على “البيزنس” والمساومات وتبادل المنافع. وبالرغم من توقعات بالتوصل إلى نتائج سريعة بشأن التطبيع بين السعودية وإسرائيل، فإن هناك وجهة نظر ترى أن الأمير محمد بن سلمان يُرجئ ذلك إلى وقت آخر، وهو يدرك أن الأميركيين يحتاجون بشدة إلى إتفاق سعودي- إسرائيلي لتعميق مسار التطبيع عربياً وإسلامياً وتوسيعه وصولاً إلى باكستان وأندونيسيا وماليزيا بما للسعودية من نفوذ على العديد من هذه البلدان. ويريد بن سلمان استثمار هذه الورقة لتحقيق هدفين رئيسيين:
أولاً؛ إنتزاع موافقة أميركية على محضِه التأييد والتخلي عن كل التحفظات السابقة على توليه العرش بعد سلسلة الأخطاء التي وقع فيها، وهذه أولوية لا تتقدم عليها أولوية أخرى.
ثانياً؛ توفير ضمانات أمنية للحكم السعودي (ناتو +) وإلغاء اعتراضات على تزويد السعودية بمنظومات تسلح حديثة، وصولاً إلى السماح للمملكة بتخصيب اليورانيوم ضمن مشروعها النووي.
أما الجانب الإسرائيلي فيستعجل تحقيق الآتي:
أولاً؛ توجيه ضربة قاضية للمقاطعة العربية لإسرائيل، بما تُمثله السعودية من وزن سياسي وإقتصادي وديني، وبالتالي الإستفادة من قدرة التجيير السعودية لإسقاط ما تبقى من ممانعة عربية وإسلامية (ضمن الإطار السني) أمام العلاقات مع إسرائيل.
ثانياً؛ توظيف الإمكانات المالية السعودية لتحقيق شراكة واسعة على قاعدة تزاوج العقل والتكنولوجيا الإسرائيلية مع المال العربي.
ثالثاً؛ إقامة نواة تحالف إسرائيلي – خليجي في مواجهة إيران، وقطع الطريق عليها للعب أي دور في القضية الفلسطينية.
من الواضح أن التطبيع السعودي مع إسرائيل أصبح على سكة التنفيذ فعلياً، ويستلزم وقتاً لمنحه الطابع الرسمي على ضوء مفاوضات تدور خلف الستار. لكن العقبة الماثلة – كما في تجارب سابقة – تكمن في “الأجندة” الداخلية للجانب الإسرائيلي الذي لا يبدي أية مرونة حيال الطموحات المشروعة للشعب الفلسطيني، حيث أنه شطَبَ مشروع الدولة الفلسطينية من قاموسه نهائياً، كما يمانع في مطلب تخصيب اليورانيوم في السعودية حتى لا يُعمَّم هذا المطلب على امتداد دول المنطقة. وفي حال مضت الأمور على النحو المرسوم أميركياً وإسرائيلياً، يكون المنطق الإسرائيلي قد انتصر على المنطق العربي الرسمي من خلال مقولة “السلام مقابل السلام”، بالرغم من أوجه التراجع الذي تمرّ به إسرائيل والعزلة الدولية النسبية والتفكك من الداخل. كل ذلك يجعل الثمن الذي ستحصل عليه السعودية من وراء مشروع التطبيع محدوداً، في مقابل إستفادة إسرائيلية عظمى.