ربما كانت هذه المقولات صحيحةً في بعض وجوهها، إلا أنها ليست صحيحةً بإطلاق، إذ أنه لدى العرب اليوم – وهذا ليس من باب امتداح الذات – القدرة والنباهة والإرادة على امتلاك الحقائق والنظر بعقلانية وواقعية لما هُم فيه، ولديهم الهمة والإقدام على الفعل، وتحويل الأقوال إلى أفعال.. وأرجو أني لا أبالغ في ذلك!
إن نظرة على ما يحدث في الإقليم، يُظهر أن إسرائيل والغرب يميلون أيضاً لـ”الأوهام” و”خداع الذات” و”إنكار الواقع” ربما أكثر من العرب! أليس رفض الإعتراف بحقوق العرب في فلسطين، ومعاندة الواقع، وفرض التسويات بالقوة، نوعاً من الوهم وخداع الذات؟ ألا يُظهِرُ الرفض العربي لاحتلال والهيمنة، وتمسك العرب بحقوقهم، أنهم يمتلكون بداهة وجودية مؤسسة وحاكمة في الموقف بينهم وبين أعدائهم؟
ربما كانت مدارك إسرائيل والغرب حيال العرب، نتيجة الجهل والتعصب والأدلجة الشعور بفارق القوة واختلال موازين اللحظة الإقليمية والدولية.. أكثر منه معرفة بالواقع، وهذا ما تحدث عنه مثلاً إدوارد سعيد، وخاصة في كتابيه: “الاستشراق” و”الثقافة والإمبريالية”، كما تحدث عنه كثير من المفكرين من الغرب والشرق. والأهم هو ما أظهرته قوة الرفض العربي لإسرائيل، وتمسك العرب بهويتهم وحقوقهم، موقعين على ذلك بالدماء والأرواح، برغم كل إكراهات السياسة والقوة في النظام العالمي.
ألا يلاحظ أن المزيد من القهر والتدمير والتهجير والإذلال، يعني المزيد من العناد والإصرار على الحق؟ وأن الرفض، إذ يضعف، فإنه لا يلبث أن يعاود الظهور بقوة؟ ألا تمثل إرادة الحياة والكرامة في الإقليم تأكيداً لـ”بداهات” و”حقائق” تاريخية وجغرافية تتجه للفعل، كما سبقت الإشارة، ليس أي فعل، بل الفعل الذي يُؤسس لتواريخ الأمم والشعوب؟
إن الجهل والتعصب لا يُنتجان معرفة صحيحة أو مطابقة. وما يحدث من عنف وإنكار للواقع، من قبل إسرائيل والغرب، هو نتيجة خلل عميق في الرؤية، وهو خلل تاريخي وانثروبولوجي، يمكن العودة به إلى “رأي استشراقي [قلْ: استعماري] موغل في القِدَم”.
والآن، ماذا سوف ينتج عن مشروع يريد أصحابه – نعني الغرب وإسرائيل – فرضه بالقوة والتدمير؟ ألا يلاحظون أن المزيد من القهر والتدمير والتهجير والإذلال، يعني المزيد من العناد والإصرار على الحق؟ وأن الرفض، إذ يضعف، فإنه لا يلبث أن يعاود الظهور بقوة؟ ألا تمثل إرادة الحياة والكرامة في الإقليم تأكيداً لـ”بداهات” و”حقائق” تاريخية وجغرافية تتجه للفعل، كما سبقت الإشارة، ليس أي فعل، بل الفعل الذي يُؤسس لتواريخ الأمم والشعوب؟
أثارت المواجهات بين العرب وإسرائيل تقديرات متزايدة ومتفاوتة، بل متعاكسة، حول مآلات المشهد الإقليمي. وقد لا تسمح إكراهات السياسة في الإقليم والعالم بتغيير كبير في خرائط القوة والسيطرة، إلا أنها “فتحت باب الإمكان”، وأظهرت قابلية نشطة للتغيير، مُعزّزة بالهمة والإرادة، ومُوَقعة – مرة أخرى – بالإصرار والدماء والأرواح. وثمة نقاط أو بداهات يمكن التدقيق فيها، ربما كانت من أهم خبرات ودروس الصراع في الإقليم:
الأولى؛
عندما يتواجه عَدُوَّان، يسجل واحد منهما انتصاره الأول على خصمه متى أرغمه على مغادرة بداهاته (جوزيف سماحة في كتابه “سلام عابر”)، وتغيير قراءته للأمور، والأهم هو إذا أرغمه على تغيير قراءته لمعنى هويته وانتمائه لوطنه، وأن شعوب الإقليم، عموماً أو شريحة كبيرة منهم، لم تغادر بداهاتها بهذا الخصوص.
الثانية؛
التمسك بتعريف العدو (جوزيف سماحة، “سلام عابر”)، وتعيينه بوضوح، ومن دون تردد أو تهاون، إذ عندما تختل هذه البداهة، لا يعود للسياسة أو غيرها من معنى، إذ كيف لأمة أن تخطىء في تعريف من هو العدو بالنسبة لها، وكيف لها أن تخلق استجابة مناسبة لما يُمثل تهديداً لها؟
لعل ذلك من أخطر ما تختلف حوله الأمم والشعوب، ويفترض بكل أمة أن تفرز فواعل أو شرائح أو قوى تتولى هذه المهمة، أي تعيين الأجندات والأولويات، وقراءة مصادر التهديد-الفرصة في العالم الذي تعيش فيه.
يأتي أمر تحديد وتعيين أو تعريف من هو العدو، في قلب معنى السياسة والحياة أو الوجود لدى كارل شميت مثلاً، (كارل شميت، مفهوم السياسي). ويفترض أن يقوم هذا مقام البداهة بالنسبة للأمم والشعوب الحية أو التي تريد أن تحظى بموقع لها بين الأمم، لا أن تكون تابعة ومُخترقة ومُذَّلَة أو مُهانة.
الثالثة؛
الثقة بأنك على حق، وأن قوة الأعداء أو الخصوم لا تعني أنهم على حق (جوزيف سماحة، “سلام عابر”، تتكرر العودة إلى النص نفسه لاحقاً)، ولا تعطيهم أي قوامة أو سلطة حيال ما تختلفان فيه أو تتصارعان حوله. ولذلك، فإن العقوبات والحصار، وعدم الإعتراف من قِبَل بعض الدول، لا يؤثر بأي حال على الحق بما تقاوم من أجله أو تتصارعا عليه، ولا يؤثر في شرعية أن تقاوم.
الرابعة؛
ضرورة الإمساك باللحظة، وتقصي الإمكان الكامن فيها، ومثلما أن اللغة أو الكلام حمَّال أوجه، فإن الواقع حمّال مسارات واحتمالات، وفيه بدائل، وما يحدث لا يمكن أن يكون “نهاية التاريخ”. كما أن التمسك بالحقوق ليس مجرد فعل سياسي، وإنما هو إمكان سَيَّال بالمعاني والدلالات التي يمكن أن يكون لها مفاعيل سياسية أوسع وأبعد مدى.
الخامسة؛
المقاومون، كلما تقدموا خطوة في طريق تحقيق أهدافهم، كلما زاد إيمانهم بطول المسافة بينهم وبين ما يريدونه، بمعنى أن كل خطوة أهم من سابقتها، فلا يمكن الشعور بالرضا عما تم تحقيقه.. كما أن الزيادة في طول المسافة تتناسب طرداً مع إدراكهم عمق المسؤولية وقيمة التضحيات.
السادسة؛
سأورد هنا إقتباساً طويلاً ومُعبّراً؛ يقول جوزيف سماحة: “كل الأضرار التي ألحقتها الممانعة بالعرب أقل من تلك التي كان ألحقها الخنوع. ومع أننا نعيش عصراً يُهدّد بالانقلاب في المقاييس فإن ما يجب التمسك به والاعتقاد الراسخ بحتميته هو أن تاريخنا، عندما سنكتبه، سيتضمن سجلاً خاصاً لمن قاوم فأخفق، وآخر لمن رفع الراية البيضاء، وساعد العدو على اختراق الجبهة العربية.. الذين مانعوا وقاوموا كانوا على الدوام موطن الشرعية العربية، وليست قلة عددهم، في مرحلة ما، حجة عليهم. الآخرون زبد”. (جوزيف سماحة، المرجع نفسه، ص48).
الصراع مع إسرائيل غير قابل للتسوية أو الحل؛ ثمة ما لا يمكن حله أو تسويته. كيف يُمكن التسوية بين مشروعين متناقضين بالتمام؟ يقوم المشروع الإسرائيلي على رفض ومحو كامل للمشروع العربي. وبالمقابل، لا يقوم المشروع العربي طالما إسرائيل قائمة على جزءٍ مهمٍ من الأرض العربية. هل يبدو الكلام غريباً أو مستعاداً من فترة سابقة؟ قد يكون كذلك، لكنه صحيح
السابعة؛
يريد الغربُ زعماءَ وسياسيين وإعلاميين ومثقفين يشاركون في لعبته هو؛ يوافقون على ما يريده، ويستجيبون لمصالح ذاتية تخصهم هم، لكن هذا قد يُؤجّل الصراع أو يُخفّف من قوته، لكنه لا يحله أو لا ينهيه. ولأن أولئك إذ ينظرون لأنفسهم وليس لشعوبهم، ويعتمدون في وجودهم واستمرارهم على الغرب وإسرائيل، فإنهم يبتعدون عن شعوبهم.
الثامنة؛
ثمة كلام صريح أو ضمني عن “الخطيئة”. يرى الإسرائيليون أن “الخطيئة الأصلية” تتمثل في أنهم لم يطردوا كل العرب من فلسطين. الصحيح هو أن “الخطيئة الأصلية” عربية، وتكمن في عدم وقوف العرب صفاً واحداً ضد المشروع الإسرائيلي والغربي، ولو أنهم فعلوا لما أمكن إقامة إسرائيل.
التاسعة؛
الصراع مع إسرائيل غير قابل للتسوية أو الحل؛ ثمة ما لا يمكن حله أو تسويته. كيف يُمكن التسوية بين مشروعين متناقضين بالتمام؟ يقوم المشروع الإسرائيلي على رفض ومحو كامل للمشروع العربي. وبالمقابل، لا يقوم المشروع العربي طالما إسرائيل قائمة على جزءٍ مهمٍ من الأرض العربية. هل يبدو الكلام غريباً أو مستعاداً من فترة سابقة؟ قد يكون كذلك، لكنه صحيح.
العاشرة؛
العرب ليسوا أحراراً في الاستسلام، هم تحت ضغوط يومية، تعزز وتستولد لديهم الرفض والمقاومة. يحتاج العربي لإثبات وجوده كل لحظة، أي تراخٍ في ذلك يعني لإسرائيل أن مشروعها قابل للتحقيق. وقد ذكرنا أعلاه، ماذا يعني ذلك المشروع؛ إنه بكلمة واحدة: عدم وجود العرب في فلسطين، والاستسلام التام من قبل العرب خارج فلسطين.
الحادية عشرة؛
كلما زادت قوة إسرائيل، زاد الدمار الذي تزرعه حولها، وأصبحت مكروهة أكثر. وكلما تقدمت خطوة في محاولة فرض نفسها زادت في عوامل فنائها. لا يغرّنك الكلامُ عن حلول وتسويات ومبادرات، ولا مشروعات الشرق الأوسط الكبير أو الأكبر أو الجديد، ولا اتفاقات القرن أو إبراهام.. ولا مؤشرات الضعف والانقسام لدى العرب، ولا منطق الهزيمة القار أو شبه القار في عالمهم أو في بعض جوانب وجهاته.
الثانية عشرة؛
بعض التحولات لا يتخذ شكله أو لا يتظهّر إلا مع بروز أزمات وخضات كبيرة. وما يحدث في فلسطين يمكن أن يظهر المزيد من التناقضات داخل إسرائيل. صحيح أنه قد يستثير – إسرائيلياً – تضامناً وتماسكاً، لكن هذا لا يلبث أن يتراجع. ثمة ما لا يمكن تجاهله في الحدث، حتى في حال لم يحقق النتائج المرجوة. وثمة ما يصعب توقعه الآن لجهة التأثيرات الراهنة أو المتوسطة أو البعيدة المدى.
تُمثل المواجهات والاندفاعة غير المسبوقة من قبل المقاومين، نوعاً من الصدمة في إسرائيل، تجلّت في اختلال مدارك الإسرائيليين حول أنفسهم، وحول العرب، وحول الصراع ككل، وبالطبع حول المستقبل.
إن ما يحدث يُمثّل درساً بليغاً في: كيف يُمكن الحد من الأوهام حيال الصراع والسلام، وكيف يُمكن التمسك بالحقائق والحقوق، ورفض منطق الهزيمة والاستسلام. ذلك أن الهزيمة ليست قدراً، وأن الإنتصار ممكن شرط توفر الهمة والإرادة، وبالطبع القدرة على الإمساك بالفرصة.