الإنتهازية السياسية.. إردوغان نموذجاً!

ما أن إنتهيت من كتابة هذه المقالة، حتى بدأت تتوالى الأنباء عن المجزرة الوحشية المروعة التي ارتكبها العدو الإسرائيلي، ليل أمس، في المستشفى المعمداني في غزة وذهب ضحيتها مئات الشهداء؛ وأول تعليق للرئيس التركي رجب طيب أردوغان كان هذا: "قصف مسشفى فيه نساء وأطفال ومدنيون أبرياء هو آخر مثال على الهجمات الإسرائيلية المجردة من أبسط القيم الإنسانية". حتمًا ما بعد هذه المجزرة ليس كما قبلها، فإذا لم يتحرك الشارع الدولي والإسلامي والعربي، فسيكون موت الشهداء.. إيذاناً بموت ما تبقى من ضمير عالمي وإنساني.

“- الجبان يموت ألف ميتة، ولكنّ الشجاع لا يموت إلّا مرّة واحدة.

  • طبعًا. من قال ذلك؟
  • لست أدري
  • لعلّ قائل هذا الكلام رجلٌ جبان. لقد عرف أشياء كثيرة عن الجبناء، ولكنّه لم يعرف شيئًا عن الشجعان. إنّ الشّجاع قد يموت ألفَيْ ميتةٍ إذا كان ذكيًا. كلّ ما في الأمر أنّه لا يتحدّث عن ذلك”. (من رواية “وداعاً للسلاح” لأرنست همنغواي).

الإسلام السياسي التركي

بدأت علاقتي مع السياسة التركيّة في وقتٍ مبكر جدًا من عمري. كنت في مقتبل العمر حين وصل الرئيس الراحل نجم الدين أربكان (رحمه الله) إلى سدّة رئاسة الحكومة عام 1996. في تلك الفترة، أعطى ذلك الفوز الإنتخابي دفعًا معنويًا كبيرًا لما يُطلق عليه “الإسلام السياسي”، والذي كانت مقاومته تتصدر حركات المقاومة في فلسطين ولبنان. فتركيا دولة كبيرة وازنة، وهي منذ أن أسّسها مصطفى كمال أتاتورك، ظلّت تسير، كجزء فاعلٍ وحيوي من حلف شمال الأطلسي، بشكلٍ عام ضد المصالح العربيّة، غير أن وصول أربكان حينذاك إلى رأس السلطة كان يعني تحييد تركيا، بالحدّ الأدنى، عن صفّ واشنطن وتل أبيب.

لم تُكتب لفرصة أربكان الإستمراريّة. كان الرجل متحديًا منذ اللحظة الأولى، إذ كسر في أوّل زيارة خارجيّة له الحظر الأمريكي الإقتصادي المفروض على الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران، ووقع معها عقدًا لتزويد أنقرة بالغاز بقيمة 20 مليار دولار، ثمّ دعا إلى تحالف إسلامي إقتصادي كبير، وبدأ عمليّة إعادة تركيا إلى دورها الطبيعي كجزء من الشرق والأمّة الإسلاميّة، حيث اعتبر أن تركيا مهما حاولت اللحاق بالغرب، فإنها ستظلّ ذيليّة تابعة له، بينما بإمكانها أن تكون في موقع القيادة إذا ما التحقت بركب الأمة العربيّة والإسلاميّة.

فجأة، حين يصل الدور إلى فلسطين وأبناء فلسطين المحاصرين، يُصبح خطاب تركيا عقلانيًا وأقرب لبيانات المنظمات غير الحكومية الخائفة على مصادر تمويلها، لدرجة أنّ السيد وليد جنبلاط سخر مؤخراً من رخاوة موقف الرئيس إردوغان

قد يُكتب الكثير عن أسباب الإنقلاب على تلك التجربة القصيرة، لكنّ واحدة من الحقائق التي ستظلّ شاهدة عليها، هي أن الولايات المتحدة والغرب استشعروا خطرًا حقيقيًا من قيادة أربكان لتركيا، من جديّته وصدقه، وبالتالي من فكرة مشروعه ورؤيته السياسيّة، ولذلك دعموا وغطوا إنقلاب الجيش “الأبيض” عليه، ثمّ سعوا لاحقًا للإستثمار بإسلامٍ سياسي آخر.

العدالة والتنمية

لم يطل الأمر حتى عاد “الإسلاميون” إلى رأس السلطة في تركيا، وبزخمٍ أكثر قوّة. في الحقيقة، لطالما دار نقاشٌ حول هويّةِ إسلاميةِ حزب العدالة والتنمية وقادته، وإن كنت أميل إلى من يرفضون اعتبار تجربة حزب العدالة والتنمية ناشئة عن تنظيرٍ إسلامي للحكم، على شاكلة النظريّة الخمينية للجمهوريّة الإسلاميّة، أو نظرية السيد محمد باقر الصدر، أو نظريّة حسن البنّا وسيّد قطب، أو حتى النظريات السلفيّة بكل تفرعاتها وتجربة حكمهم في أفغانستان. غير أنّ ذلك في الواقع، لا يمكن أن يُخرج حزب العدالة والتنمية كليًا من هويته الإسلاميّة، ما دام قادته يتحدثون باسم الإسلام ويَدعون له ويُدافعون عن مبادئه. ولأجل ذلك، ظلت النظرة تجاه العدالة والتنمية مشوشة وغير واضحة، من دون أن تُخفي الحركات الإسلاميّة نشوتها بوصول المنشقين عن أربكان إلى رأس السلطة.

كانت بداية العدالة والتنمية مختلفة بشكل كبير عن تجربة حزب الرفاه، وبرغم الموقف الحاد يومها لأبي الإسلام السياسي التركي نجم الدين أربكان من الحزب الجديد وقادته، إلّا أن العقل التبريري ظلّ هو الحاكم على موقف الإسلاميين من تجربة الحكم الجديدة. فمن الممكن، مثلًا، أن انتكاسة خروج قيادة الإسلاميين من تحت عباءة أربكان هي ما دفعته لهذه القسوة، وربما الخوف من تكرار الإنقلاب العسكري الأبيض أو حتى الدامي، هي ما دفعت الإسلاميين الجدد كي يُدَوّروا الزوايا، ويمارسوا سياسة توددية لواشنطن وتل أبيب وأوروبا.

كان التشبيه الذي علق بمخيلتي في المرحلة الأولى من حكم العدالة والتنمية، هو أنّ تركيا عبارة عن باخرة كبيرة، تُبحر في مسارٍ محدد، وأنّ عكس تجاه تلك الباخرة يحتاج لإلتفافٍ بطيء وهادىء ومتقن، على عكس ما فعله أربكان الذي حاول الإلتفاف بسرعة فغرق وأغرق التجربة. ثم جاء موقف الرئيس رجب طيب إردوغان الشهير في مؤتمر دافوس مع الرئيس الصهيوني شيمون بيريز، ومن بعدها حادثة الباخرة مرمرة، ليعطي الجميع بارقة أملٍ بأنّ تركيا باتت نصيرةً لقضايا أمتنا، وأنها ستكون في موقعٍ ريادي ومتقدّم. يومها ملأت أعلام تركيا وصور رئيس حكومتها كل ساحات المناصرين لقضيّة فلسطين، وعلى رأسها ملعب الصفير في الضاحية الجنوبية لبيروت. لكن كشهادة للتاريخ، في حديث لي مع “أستاذي” الذي لطالما آنست بآرائه وفهمه لسياقات التاريخ، حين كنّا نتحدث عن موقف الحكومة التركيّة بعد عاصفة دافوس، قال لي بأنّ موقفها انتهازي وغير حقيقي؛ يومها لم أوافقه، ولم آخذ بكلامه ورأيه، كنت منغمسًا حتى رأسي بتلك المواقف الشعبويّة.

إقرأ على موقع 180  "حلف الفضول" جاهلي المنبت.. رؤيوي النظرة!

فلسطين قضيّة

بعد أحداث ما يُسمى بالربيع العربي، لم تعد حكومة العدالة والتنمية محطّ آمال الكثير من شعوبنا العربيّة. كان بإمكان تركيا أن تلعب أدوارًا حاسمة لمنع شلالات الدماء التي جرت في كلّ منطقتنا، بالأخص في سوريا والعراق. لسنا هنا في موقع القاضي ولا الحكم، لكن لو لم تمارس الحكومة التركيّة سياسة الجشعٍ تجاه سوريا ـ بغض النظر عمن تقع مسؤولية الأزمة ـ لكان بالإمكان تفادي الكثير من الدم والخراب والإنقسامات.

لم نعد نأمل من الحكومة التركية أكثر مما نأمله من الحكومات العربيّة المتخاذلة والمُطبّعة، بل صرنا نراهن على حبّ الشعب التركي لفلسطين وقضيّة فلسطين، علّه يدفع بحكومته إلى ترك الإنتهازية قليلًا، والإستماع إلى آلاف المغردين الذين علقوا على خطابه الأخير بأنّ “فلسطين قضيّةٌ لا تقبل القسمة”

مع ذلك، وعلى الرغم من كلّ الأحداث التي جرت، والمواقف الشعبويّة التي فقدت بريقها، ها هي تركيا ترسل جيشها لسوريا والعراق وليبيا والصومال وقطر وأذربيجان، وتفاخر بمُسيرات “البيرقدار” تُدمر كلّ ما يقف بطريقها، متكئة بذلك على خطاب إسلامي شعبوي (طلب إردوغان من ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في زيارته الأخيرة للمملكة أن يُموّل مصانع الأسلحة التركيّة ولكن لمصلحة من؟)، لكن فجأة، حين يصل الدور إلى فلسطين وأبناء فلسطين المحاصرين، يُصبح خطاب تركيا عقلانيًا وأقرب لبيانات المنظمات غير الحكومية الخائفة على مصادر تمويلها، لدرجة أنّ السيد وليد جنبلاط سخر مؤخراً من رخاوة موقف الرئيس إردوغان.

قد نختلف في كل القضايا والمسائل، وقد يتداخل فيها الحق مع الباطل، لكن قضيّة فلسطين هي أشرف قضيّة تعيشها البشريّة اليوم، ولا مجال للتعامل معها بالمزايدة والإنتهازية. في خطاب له الأسبوع الماضي، حين انتقد الرئيس التركي بهدوء ودون انفعال إرسال حاملة الطائرات الأميركيّة إلى المنطقة، إنتقل فجأة ومن دون أيّة مقدّمات إلى شمال سوريا والقواعد الاميركيّة فيه (وكأن تركيا خالية من القواعد الأميركية)، هل هذه هي اللحظة المناسبة لتنتهز تركيا فرصة مقايضة الدم الفلسطيني مقابل وقف الدعم الاميركي للفصائل والأحزاب الكردية؟ هل من المنطقي بدولة تدّعي وتطمح لقيادة العالم الإسلامي، أن تفاوض المحاصرين الذين تُهدم البيوت فوق رؤوسهم، من أجل إطلاق بضع عشراتٍ من الأسرى هم أمل التحرير لآلاف المعتقلين بسجون العدو؟ أين لغة التحدي والقوّة والدعم لأبناء فلسطين، أم أنّ ناغورنو قره باخ أكثر أهميّة وقداسة من القدس؟ أين خطاب الذي يُريد الصلاة في المسجد الأموي؟ نحن نتحدث عن خطاب فقط، لا عن سلاح ولا عن مقاتلين ولا عن “بيرقدار”.

في الخلاصة، القضيّة الفلسطينية هي التي تُحدّد الزعامة الواقعية للأمة، وهي من تُحدّد الهوية الواقعيّة للمسلمين في العالم، بل لكلّ الأحرار فيه، وبالنسبة لي، كما للكثيرين، لم نعد نأمل من الحكومة التركية أكثر مما نأمله من الحكومات العربيّة المتخاذلة والمُطبّعة، بل صرنا نراهن على حبّ الشعب التركي لفلسطين وقضيّة فلسطين، علّه يدفع بحكومته إلى ترك الإنتهازية قليلًا، والإستماع إلى آلاف المغردين الذين علقوا على خطابه الأخير بأنّ “فلسطين قضيّةٌ لا تقبل القسمة”.

Print Friendly, PDF & Email
Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  لبنان الحلم الكبير أو الرحيل الكبير!